فأجابته وهي تتنهد بارتياح: بخير يا سيدي وتهديك التحية والدعاء.
ومضت فترة صمت أخرى قبل أن يقول فيما يشبه عدم الاكتراث: حرم المرحوم شوكت فاتحتني برغبتها في اختيار عائشة زوجا لخليل.
فرفعت إليه أمينة عينيها في دهشة ناطقة بأثر المفاجأة، ولكنه هز كتفيه استهانة، وكأنما خاف أن تدلي برأي يتفق أن يكون موافقا لقراره الذي لم يعلم به أحد، فتقوم عندها شبهة ظن بأنه أخذ برأيها فسبق قائلا: فكرت في الأمر طويلا، فانتهى بي التفكير إلى الموافقة، لا أريد أن أعترض حظ البنت أكثر مما فعلت، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
38
تلقت عائشة البشرى بفرح جدير بفتاة تستشرف حلم الزواج منذ الصبا الباكر لا يشغلها عنه شاغل، وكادت لا تصدق أذنيها حين زف إليها الخبر، هل حقا وافق أبوها؟ هل بات الزواج حقيقة قريبة لا حلما ذا دعابات قاسية؟ ... لم يكن قد فات على الخيبة التي منيت بها إلا قرابة أشهر ثلاثة، ومع أن وقعها في نفسها كان شديدا قاسيا، إلا أنه مضى يخف ويهون مع الأيام، حتى أمسى ذكرى شاحبة تستثير - إذا استثيرت - حزنا رقيقا غير ذي خطورة، كل شيء في هذا البيت يخضع خضوعا أعمى لإرادة عليا ذات سيطرة لا حد لها هي بالسيطرة الدينية أشبه، حتى الحب نفسه - بين جدرانه - يسترق خطاه إلى القلوب في حياء وتردد وعدم ثقة بالنفس، فلا يتمتع بما يتمتع به عادة من سطوة واستبداد، إذ لا استبداد هنا إلا لتلك الإرادة العليا؛ ولذلك فعندما قال الأب: «لا» استقر قوله في أعماق نفسها، وآمنت الفتاة إيمانا راسخا أن كل شيء قد انتهى حقا، لا مهرب ولا مراجعة ولا رجاء بنافع، كأن «لا» هذه حركة كونية كاختلاف الليل والنهار، غير مجد أي اعتراض عليها، ولا محيد عن اتخاذ موقف موافق لها، وعمل هذا الإيمان من ناحيته - بشعور وبغير شعور منها - على إنهاء كل شيء فانتهى. على أنها تساءلت فيما بينها وبين نفسها: إذا كانت الموافقة على زواجها قد تمت، ولما ينقض على الرفض السابق ثلاثة أشهر، فلم تكن من نصيب الشاب الذي هفا الفؤاد إليه؟ ... ألا ينطوي حظها السعيد نفسه - تبعا لذلك - على معاكسة غير مفهومة؟ بيد أنه تساؤل ظل في طي الكتمان، لم يطلع عليه أحد ولا أمها نفسها؛ لأن إعلان الفرح بالعريس - كشخصية معنوية فحسب - عد استهتارا يجافي الحياء، فما بالك بإظهار الرغبة في رجل بالذات! ولكن بالرغم من هذا كله، وبالرغم من أن العريس الجديد كان مجهولا لديها إلا فيما حدثت عنه أمه في جملة حديثها عن أسرتها، فقد سعدت بالبشرى أيما سعادة، ووجدت عواطفها الظامئة قطبا تنجذب إليه في هيمانها، كأن حبها نوع من «القابلية» أكثر منه تعلقا برجل بالذات، فإذا استبعد رجل وحل محله آخر ظفرت قابليتها بما يشبعها، ومضى كل شيء في سبيله، وقد يكون رجل آثر عندها من آخر، ولكن ليس إلى الحد الذي يفسد معه طعم الحياة، أو يدفع إلى التمرد والعصيان، ولما طابت نفسا ورف قلبها رفيف الغبطة انبعث منها نحو أختها - كشأنها في مثل هذه الحال - عطف ورحمة غير مشوبين، فودت لو أنها سبقتها إلى الزواج، وقالت لها بين الاعتذار والتشجيع: وددت لو تقدمتني إلى بيت الزوجية! ... ولكنها القسمة والنصيب، وكل آت قريب.
ولكن خديجة - التي تضيق عند الهزيمة بعزاء العطف - تلقت قولها بامتعاض شديد لم يخف عليها. وقبل ذلك اعتذرت لها أمها قائلة برقتها وحيائها المعهودين: تمنينا جميعا أن يكون دورك السابق، وعملنا على هذا أكثر من مرة، ولكن لعل عنادنا فيما ليس لنا فيه من حيلة هو الذي عاق حظك إلى اليوم، فلندع الأمور تسير كما يشاء الله، وكل تأخيرة فيها خيرة.
ووجدت من ياسين وفهمي نفس العطف يبديانه تارة بالكلام المباشر، ويصدران عنه تارة أخرى فيما يحيطانها به من مجاملة حلت - ولو إلى حين - محل المزاح القارص الذي كان مألوفا بينها وبينهما أو بينها وبين ياسين خاصة، الحق أنه لم يعدل حزنها على سوء حظها إلا نرفزتها من العطف الشائع في جوها لا لنفور من العطف مركب في طبعها، ولكن لأن مثلها مثل المصاب بالأنفلونزا يضار بالتعرض للهواء الطلق الذي ينعشه عادة وهو صحيح، فما كانت تأبه لعطف تعلم أنه بديل غير مجد لأمل ضائع، ولعلها ارتابت - إلى هذا كله - في البواعث التي تدفعهم إلى إغداق العطف عليها، ألم تكن أمها الواسطة دائما بين الخاطبات وبين أبيها؟ فمن يدريها أنها كانت تقوم بالوساطة أداء لواجب ربة البيت، لا سعيا وراء رغبة خفية في تزويج عائشة؟! أوليس فهمي هو الذي حمل رسالة ضابط قسم الجمالية؟ ... ألم يكن بوسعه أن يعدل به عن رأيه من وراء وراء؟!
أوليس ياسين ... ولكن بأي وجه تلوم ياسين وقد خانها من هو أقرب منه إليها؟ ... فأي عطف هذا؟! بل أي رياء وأي كذب! لذلك برمت بالعطف، وذكرت به الإساءة لا الإحسان، فامتلأت حنقا وامتعاضا ولكنها طوتهما في الأعماق أن تظهر بمظهر الكاره لسعادة أختها، أو تعرض نفسها - هكذا صور لها سوء ظنها - لشماتة الشامتين، على أنه لم يكن لها محيد عن كتمان عواطفها؛ لأن الكتمان في هذه الأسرة - خاصة فيما يتعلق بالعواطف - عادة متأصلة وضرورة أخلاقية طبعت عليه في ظل الإرهاب الأبوي، وبين الحنق والامتعاض من ناحية، والكتمان والتظاهر بالرضا من ناحية أخرى لاقت من حياتها عذابا متصلا وجهدا مطردا. وأبوها؟! ماذا عدل به عن رأيه القديم؟! أهانت عليه بعد إعزاز؟! هل نفد صبره في انتظار زواجها فقرر التضحية بها وتركها للأقدار؟! لشد ما تعجب لتخليهم عنها كأنها شيء لا يكون، نسيت في ثورتها مواقفهم السابقة في الدفاع عنها، فلم تذكر إلا «خيانتهم» الأخيرة، على أن غضبتها العامة هذه لم تكن شيئا بالقياس إلى ما تجمع في صدرها نحو عائشة من مشاعر الغيرة والحنق! كرهت سعادتها، وكرهت أكثر مداراتها لهذه السعادة، وكرهت جمالها الذي بدا في عينيها أداة تنكيل وتعذيب كما يبدو البدر الساطع في عين المطارد، ثم كرهت الحياة التي لم تعد تدخر لها إلا اليأس، وتتابعت الأيام لتزيدها حزنا على حزن بما حملت إلى البيت من هدايا العريس ونفحاته، وبما نشرت في الجو كله من بواعث الغبطة والفرح، فوجدت نفسها في غربة موحشة تتوالد فيها الأشجان كما تتوالد الحشرات في البركة الآسنة، ثم شرع السيد في تجهيز العروس فاستأثر حديث الجهاز بجلسات الأسرة المسائية، تعرض عليها أنواع من الأثاث والثياب فتطري شيئا وتعرض عن شيء، توازن بين لون ولون، في اهتمام نسوا فيه الشقيقة الكبرى، وما يجب لها من عزاء ومجاملة، وحتى هي نفسها اضطرت - مجاراة لما تتظاهر به من رضا - إلى المشاركة في نشاطهم وحماسهم ومناقشاتهم التي لا تنتهي، بيد أن هذا الموقف العاطفي المعقد، الذي يبدو لعين الغريب عن الأسرة كنذير شر لا تحمد عواقبه، تغير فجأة حين اتجه التفكير إلى تفصيل ثياب العروس؛ وبالتالي حين تعلقت الأبصار بخديجة، وتركز فيها الاهتمام كله والأمل كله. وقد توقعت هذا الواجب كأمر لا مفر منه، يحنقها قبوله أشد الحنق ولا يسعها رفضه وإلا فضحت خبيئتها، ولكنها حين تطلعت إليها الأبصار، فأوصتها أمها بأختها خيرا، ورنت إليها شقيقتها بعين ملؤها الحياء والرجاء، وقال فهمي لعائشة على مسمع منها: «لن تكوني عروسا حقا حتى تحيك لك خديجة ثياب العرس.» وقال ياسين معلقا على قوله: «صدقت ... هذه الحقيقة فوق الجدل.» حين حدث هذا كله فتر حنقها وعقل ثورتها الحياء، فطفت عواطفها الطيبة المطمورة، كما يستخرج الماء العذب الأخضر من البذور الكامنة تحت الطين، ولم ترتب في بواعث هذا الاهتمام كما ارتابت من قبل في بواعث العطف «الزائف» لشعورها بصدقه من ناحية، ولأنه اتجه إلى براعتها التي لا شك فيها من ناحية أخرى. فكأنه اعتراف جامع بأهميتها وخطورة شأنها، وبأن هذه السعادة - التي أبت أن تكون من نصيبها - لن تستكمل عناصرها حتى تسهم هي فيها، فاستقبلت العمل الجديد بنفس تخففت إلى أقصى حد ممكن من انفعالاتها السوداء، إن الانفعالات السوداء تلم بأنفس هذه الأسرة كما تلم بغالبية البشر، ولكنها لا تظفر منها بقلب أسود فترسب فيه وتستقر. منهم من قابليته للغضب كقابلية الكحول للاشتعال، ولكن سرعان ما يسكت عنهم الغضب فتصفو نفوسهم وتعفو قلوبهم كأيام من شتاء مصر يطلخم سحابها حتى تمطر رذاذا، وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى تنقشع السحب عن زرقة صافية وشمس ضاحكة. لا يعني هذا أن خديجة نسيت أحزانها ولكن السماحة صفتها من الضغينة والحقد، ويوما فيوما لم تعد تعتب على عائشة، ولا على أحد من أهلها بقدر ما عتبت على بختها، حتى نصبته في النهاية هدفا لامتعاضها وتذمرها، ذلك البخت الذي قتر عليها في الحسن وأجل زواجها حتى جاوزت العشرين، وكدر غدها بالقلق والمخاوف، واستسلمت أخيرا - كأمها - للمقادير. عجز جانبها الحامي الموروث عن أبيها، كما عجز جانبها المعقد المكتسب من موقفها حيال بيئتها، عن معالجة حظها العاثر، فوجدت السلامة في أن تلوذ بالجانب السلمي الموروث عن أمها فاستسلمت للمقادير؛ كالقائد الذي تعييه الحيل عن بلوغ الهدف فيختار موقعا ذا حصانة طبيعية ليثبت فيه فلوله، أو يدعو إلى الصلح والسلام. وراحت تشكو بثها في الصلاة ومناجاة الرحمن، والحق أنها كانت - منذ صباها - تجاري أمها في تدينها ومحافظتها على الفرائض بمثابرة دلت على يقظة عاطفتها الدينية، لا كعائشة التي تلم بالعبادة في نوبات حماسية متباعدة، ولا تطيق المداومة عليها، وطالما تعجبت خديجة - وهي بمعرض المقارنة بين حظها وبين حظ أختها - من سوء الجزاء الذي تثاب على إخلاصها، وحسن الجزاء الذي تثاب به الأخرى على تهاونها ... «إني أحافظ على الصلاة أما هي فلم تطق المحافظة عليها يومين متتاليين، وإني أصوم رمضان كله وأما هي فتصوم يوما أو يومين، ثم تتظاهر بالصوم على حين تنسل خفية إلى المخزن، فتملأ بطنها بالنقل حتى إذا أطلق مدفع الإفطار هرعت إلى المائدة قبل الصائمين!» ... وحتى من ناحية الجمال لم تسلم لعائشة بدون قيد ولا شرط، نعم إنها لم تجهر برأيها لأحد، بل لعلها تؤثر كثيرا أن تهاجم نفسها بنفسها لتقطع الطريق على المتحفزين، ولكنها كانت تطيل النظر إلى وجهها في المرآة، وتناجي نفسها قائلة: «عائشة جميلة بلا شك ولكنها نحيلة، السمانة نصف الجمال، أنا سمينة، واكتناز وجهي يكاد يغطي على كبر أنفي، لم يبق إلا أن يشد بختي حيله.» على أنها فقدت ثقتها بنفسها في الأزمة الأخيرة، ومع أنها عاودت كثيرا تلك المناجاة عن الجمال والسمانة والبخت، إلا أنها عاودتها هذه المرة لتذري - أمام نفسها - إحساسها المقلق بعدم الثقة كما نلجأ أحيانا إلى المنطق؛ لنستمد منه الطمأنينة على أمور - كالصحة والمرض والسعادة والشقاء والحب والكراهية - لا تمت إلى المنطق بسبب.
ولم تنس أمينة - رغم كثرة مشاغلها كأم العروس - خديجة، أو أن فرحها للعروس كان يذكرها بحزنها على أختها، كما تذكرنا الراحة التي نحظى بها بفعل مخدر بالألم الذي سيعاودنا بعد حين، وكأن زواج عائشة قد أثار مخاوفها القديمة عن خديجة، فأرسلت - التماسا للطمأنينة من أي سبيل - أم حنفي إلى الشيخ رءوف بالباب الأخضر حاملة منديل خديجة ليقرأ طالعها. وعادت المرأة بنوع من البشرى فقالت لسيدتها إن الشيخ قال لها: «ستحملين إلي رطلين من السكر عما قريب.» ومع أنها لم تكن أول بشرى من هذا النوع تزف إليها عن خديجة، إلا أنها أملتها خيرا، ورحبت بها كمسكن للقلق الذي لا يزايلها.
39 «ألم يئن الأوان يا بنت المركوب؟! ذبت يا مسلمين، ذبت كالصابونة ولم يبق منها إلا رغوة، هي تعلم بهذا ولا تريد أن تفتح النافذة، تدللي ... تدللي يا بنت المركوب، ألم نتفق على هذا الميعاد؟ ولكن لك حق ... فردة ثدي من صدرك تكفي لخراب مالطة ... وفردة تالية تطير مخ هندنبرج، عندك كنز، ربنا يلطف بي، ربنا يلطف بي وبكل مسكين مثلي يؤرقه الثدي الناهد والعجيزة المدملجة والعين المكحولة، العين المكحولة في الآخر، إذ رب ضريرة ريا الروادف كاعب الثديين خير ألف مرة من عجفاء مسحاء مكحولة العينين، يا بنت العالمة وجارة التربيعة ... تلك لقنتك أصول الدلال وهذه تمدك بأسرار الجمال؛ لهذا ينهد ثدياك من كثرة من عبث بهما من العشاق، اتفقنا على الميعاد لست أحلم، افتحي النافذة، افتحي يا بنت المركوب، افتحي يا أجمل من اقشعرت لها سرتي، ومص الشفة ورضع الحلمة، لأنتظرن حتى مطلع الفجر، ستجدينني طوع بنانك، إن أردت أن أكون مؤخر عربة الكارو التي تتأرجحين عليه أكنه، إن أردت أن أكون الحمار الذي يجر العربة أكنه، يا وقعتك يا ياسين، يا خراب بيتك يا بن عبد الجواد، يا شماتة الأستراليين فيك ... يا أنا يا طريد الأزبكية وحبيس الجمالية، الحرب يا هوه، شنها غليوم في أوروبا، ورحت ضحيتها أنا في النحاسين، افتحي النافذة يا روح أمك، افتحي يا روحي أنا ...» هكذا جعل ياسين يحادث نفسه وهو جالس على الأريكة بقهوة سي علي، وعيناه تتطلعان إلى بيت زبيدة العالمة خلل الكوة المطلة على الغورية، كلما شكه الجزع غرق في أحلامه وخواطره، فترفه جزعه وتهيج أشواقه معا، كبعض المنومات الطبية التي تعالج الأرق وتتعب القلب، كان قد تقدم خطوة موفقة في مغازلة زنوبة العوادة مغازلة خرج بها من دور التحضير - ملازمة قهوة سي علي مساء، والنظر والسير وراء عربة الكارو والابتسام وفتل الشارب وتلعيب الحاجب - إلى دور المفاوضة والتأهب للعمل. حدث ذلك في عطفة التربيعة الطويلة الضيقة المسقوفة بالخيش الملتوية ذات الدكاكين الصغيرة المتلاصقة على الجانبين كخلايا النحل. ولم تكن التربيعة بالجديدة عليه، كيف وهي سوق النسوان من جميع الطبقات يتقاطرن عليها لابتياع ما خف حمله وجلت فوائده من مختلف صنوف العطارة ذوات البهجة والجمال والنفع، فهي هدفه كلما خلا طريقه من هدف يجذبه إليه، وهي مراحه صباح الجمعة يقطعها متمهلا - بحكم الزحمة والرغبة معا - من طرف إلى طرف كأنما يستعرض الدكاكين لانتقاء حاجة، وهو في الحقيقة يتصفح الوجوه والأجسام وما تنحسر عنه البراقع وما تضيق به الملاءات، ما يرى جملة وما يرى تفصيلا، ما يسطع هنا وهناك من روائح زكية، ما يند من حين لآخر من أصوات أو يوسوس من ضحكات، ملتزما عادة حدود الأدب لغلبة العناصر الطيبة على الزائرات، قانعا بالمشاهدة والموازنة والنقد، لاقطا من المرئيات صورا ممتازة يزين بها متحف ذاكرته، فلا يفوق سعادته إذا ظفر بلون بشرة صاف لم يره من قبل، أو بلحظ عين لم يتعرض لمثله، أو لثدي عجيب في نهوده، أو لعجيزة خرقت المألوف في ضخامتها أو حسن تكوينها، فيرجع مرة وهو يقول: «فاز بالسبق اليوم نهد الست التي كانت واقفة أمام الدكان الفلاني.» أو «هذا يوم الكفل الرابي رقم 5» أو «يا لها من حقيبة ويا لها من حقيبة ... هذا يوم الحقائب المشرقة.» إذ تأدى به مزاجه إلى التهالك على جسم المرأة متجاهلا شخصيتها، ثم إلى تركيز العناية في أجزاء من الجسم متجاهلا جملته، وكأنه في هذا كله ينعش آماله ويجددها أبدا كرجل لا يقدم على النسوان غاية في دنياه عند الفرص المحتملة المدخرة ليوم أو لغد، إلى ما يسنح له في هذه الجولات الجنسية من صيد طيب في أحوال نادرة، ففي ذات أصيل - وهو بمجلسه تحت الكوة بقهوة سي علي - رأى العوادة تغادر البيت بمفردها، فنهض من توه وتبعها، ومالت إلى عطفة التربيعة فمال وراءها، ثم وقفت أمام دكان فوقف إلى جانبها، وانتظرت حتى يفرغ العطار من بعض الزبائن، فانتظر ولم تلتفت ناحيته، فاستدل بذاك «التجاهل» على أنها فطنت لوجوده - كما لا بد أن تكون حدست متابعته لها من بادئ الأمر - فهمس قريبا من أذنها «مساء الخير»، فواصلت النظر إلى الأمام إلا أنه لمح بجانب فيها انحراف ابتسامة ردا لتحيته، أو مكافأة له على طول متابعته لها مساء بعد مساء، فتنهد تنهد الراحة والظفر مطمئنا إلى جني ثمرة صبره، فسال لعاب شهوته كما يتحلب ريق الجائع النهم إذا تطايرت إلى أنفه رائحة الشواء الذي يهيأ له. ورأى عن حكمة أن يتظاهر بأنهما جاءا معا، فأدى ثمن مشترياتها من الحناء والمغات عن طيب خاطر خليق برجل يؤمن بأنه - بأداء هذا الواجب اللذيذ - يكتسب حقا ألذ وأمتع، غير مكترث لما بدا منها من الميل إلى الإكثار من المشتريات حين اطمأنت إلى أنه سيدفع الثمن. وفي طريق العودة قال لها بعجلة من يخاف وشك انتهاء الطريق: «يا ست الحسن والجمال قضيت العمر كما تشهدين وراءك، وجزاء المحب اللقاء فقط؟» فلحظته بنظرة شيطنة متسائلة في تهكم «اللقاء فقط؟» فكاد يضحك بروحه وجسمه كحاله إذا أخذته نشوة فرح، ولكنه بادر إلى إحكام إغلاق فيه أن يحدث ضجة تلفت الأنظار، وأجابها هامسا: «اللقاء ولوازمه!» فقالت بلهجة انتقادية: «الواحد منكم يطلب بكل بساطة «اللقاء » ... كلمة صغيرة ... ولكنه يعني بها عملا ضخما لا ينال عند بعض الناس إلا بالسؤال والشفاعة وقراءة الفاتحة والمهر والجهاز والمأذون، أليس كذلك يا حضرة الأفندي الذي يضاهي الجمل طولا وعرضا؟!» فتورد وجهه فيما يشبه الارتباك، وقال: «يا له من تأديب مهما يكن من قسوته فإنه من شفتيك كالشهد، أليس هكذا العشق يا ست الحسن مذ خلق الله الأرض ومن عليها؟» فقالت وهي ترفع حاجبيها حتى حاذيا طرف عروس البرقع، فبدت كيعسوب باسط جناحيه «ومن أدراني بالعشق يا جملي؟ ... لست إلا عوادة، ترى هل للعشق لوازم أيضا؟» فقال وهو يغالب الضحك: «هي ولوازم اللقاء شيء واحد.» «بلا زيادة ولا نقصان؟» «بلا زيادة ولا نقصان.» «لا واحدة طالعة ولا واحدة نازلة؟!» «لا واحدة طالعة ولا واحدة نازلة.» «لعلها التي يسمونها الزنا؟!» «بلحمه وعظمه!» فندت عنها ضحكة قالت: «اتفقنا ... انتظر حيث تنتظر كل مساء بقهوة سي علي، وعندما أفتح النافذة قم إلى البيت.» انتظر مساء ومساء ومساء، مساء خرجت مع الجوقة على الكارو، ومساء ذهبت مع العالمة في حنطور، ومساء لم يبد على البيت أثر للحياة، وها هو ينتظر وقد أعيا أعصاب رأسه طول النظر إلى الشباك. ومر موهن من الليل، فأغلقت الدكاكين وأقفر الطريق وشمل الغورية ظلام، ووجد - كما يقع له كثيرا - في إقفار الطريق وإظلامه مثارا غريبا لمكمن الشهوة في جسده، فازداد جزعا على جزع. بيد أنه لكل شيء نهاية حتى الانتظار الذي يبدو وكأن لا نهاية له، فترامى إليه من ناحية الشباك الغارق في الظلمة طقطقة نفخت في حواسه روح أمل جديد، كما تنبعث روح الأمل في نفس التائه في القطب إذا ترامى إلى سمعه أزيز الطيارة التي يحدس أنها جاءت للبحث عنه بين الثلوج، ولاحت فرجة يشع منها ضوء، ثم تنور شبح العوادة وسط الفرجة، فقام من فوره وغادر القهوة عابرا الطريق إلى بيت العالمة، ودفع الباب دون أن يطرقه، فانفتح كأن يدا رفعت مزلاجه، فمرق إلى الداخل ليجد نفسه في ظلمة دامسة لم يهتد معها إلى موقع السلم ، فلزم موقفه ليأمن الاصطدام أو العثار ووثب إلى رأسه سؤال لا يخلو من قلق: ترى أدعته زنوبة على غير علم من العالمة؟ وهل تبيح لها العالمة الاجتماع بعشاقها في بيتها؟ ولكنه أبرز لسانه استهانة؛ لأن رادعا لم يكن ليثنيه عن مغامرة، ولأن ضبط عاشق في بيت تقوم جدرانه على مهج العاشقين ليس مما تحاذر عواقبه. وانقطع عن التفكير حين لاح لعينيه ضوء شاحب يهبط من أعلى، ثم لمحه يترنح على الجدران التي وضحت رويدا، فتبين موقفه على بعد ذراع من أولى درجات السلم عن يمينه، وما عتم أن رأى زنوبة قادمة وبيدها مصباح، فمضى نحوها في سكرة من الشوق، وضغط في حنان على ساعدها امتنانا ورغبة، حتى ضحكت ضحكة رقيقة أوحت على رقتها بأنها لا تحاذر، وتساءلت بمكر: طال انتظارك؟
صفحه نامشخص