ها هي لهجته بدأت تنم عن نفاد صبر، ولا يبعد أن تقعقع قريبا بالغضب، رباه لشد ما هي في حاجة إلى العون، أي شيطان أغواها بتلك الخرجة المشئومة. - عجبا ألا تريدين أن تتكلمي؟!
وبات السكوت فوق طاقتها فتمتمت بصوت متهدج مدفوعة باليأس والقهر: أخطأت خطأ كبيرا يا سيدي ... صدمتني سيارة.
واتسعت عينا السيد دهشة، ولاح فيهما انزعاج مقرون بالإنكار ... وكأنه بات يشك في صحة قواها العقلية، ولم تعد المرأة تحتمل التردد وصممت على أن تبوح باعترافها كاملا مهما تكن العواقب، كمن يقدم - مغامرا بحياته - على إجراء عملية جراحية خطيرة ليتخلص من آلام داء لا قبل له به، وتضاعف عند ذاك شعورها بفداحة الذنب وخطورة الاعتراف، فدمعت عيناها وقالت بصوت لم تعن بإخفاء نبراته الباكية إما لأنه غلبها على صوتها، أو لأنها أرادت أن تبذل محاولة يائسة لاستدرار العطف: ظننت أن سيدنا الحسين يدعوني إلى زيارته فلبيت ... ذهبت للزيارة ... وفي طريق العودة صدمتني سيارة ... قضاء الله يا سيدي ... ولقد نهضت من سقطتي دون معاونة أحد (قالت العبارة الأخيرة بوضوح) ولم أشعر بادئ الأمر بأي ألم فحسبتني بخير وواصلت السير، حتى عدت إلى البيت، وهنا تحرك الألم فأحضروا لي الطبيب، ففحص كتفي وقرر أن به كسرا، ووعد بأن يعودني يوما بعد يوم حتى يجبر الكسر، لقد أخطأت خطأ كبيرا يا سيدي، وجوزيت عليه بما أستحق ... والله غفور رحيم.
أنصت السيد إليها صامتا جامدا، لم تتحول عنها عيناه، ولم يبد في وجهه أثر مما يعتلج في صدره على حين نكست هي رأسها في تخشع بحال من ينتظر النطق بالحكم، وطال الصمت واشتد، وشاعت في جوه المنقبض نذر الخوف والوعيد، وتحيرت من أمره لا تدري عن أي قضاء يتمخض، ولا إلى أي مصير يقذف بها، حتى جاءها صوته وهو يقول في هدوء غريب: وماذا قال الطبيب؟ ... هل ثمة خطر على الكسر؟
فالتفت رأسها صوبه بذهول ... أجل توقعت كل شيء إلا أن يجود بهذا القول اللطيف، ولولا رهبة الموقف لاستعادته لتتوكد من صحة ما سمعت، وغلبها التأثر فطفرت من عينيها دمعتان غزيرتان، فشدت على شفتيها أن تفحم في البكاء، ثم غمغمت في ذل وانكسار: قال الطبيب إنه لا داعي للخوف مطلقا، نجاك الله من كل سوء يا سيدي.
ووقف الرجل بعض الوقت وهو يقاوم رغبة تدعوه إلى المزيد من السؤال حتى تغلب عليها، فتحول عن موقفه ليغادر الحجرة وهو يقول: الزمي فراشك، حتى يأخذ الله بيدك.
30
هرعت خديجة وعائشة إلى الحجرة بعد ذهاب والدهما، ووقفتا حيال أمهما تنظران إليها بعينين مستطلعتين تنطق نظراتهما بالاهتمام والقلق، ثم لاحظتا احمرار عينيها من أثر البكاء، فوجمتا وتساءلت خديجة وقد استشعر قلبها الخوف والتشاؤم: خير إن شاء الله؟
فلم تعد الأم أن قالت باقتضاب وهي ترمش بعينيها ارتباكا: اعترفت له بالحقيقة. - الحقيقة!
فقالت باستسلام: لم يسعني إلا الاعتراف، فما كان من الممكن أن يخفى الأمر عليه إلى الأبد، وحسنا فعلت.
صفحه نامشخص