فتطلعت إليها أمها بوجه يتلهف على النجاة من أي سبيل، وقلبته بين فهمي وياسين وقد لاحت بعينيها لمعة أمل، بيد أن فهمي تساءل في حيرة: والطبيب؟ ... سيعودها يوما بعد يوم، وسيقابل أبي بالضرورة.
ولكن ياسين أبى أن يغلق الباب الذي تسللت منه نسمة أمل حرية بأن تستنقذه من آلامه ومخاوفه، فقال: نتفق مع الطبيب على ما ينبغي أن يقال لأبي؟
وتبودلت النظرات بين التصديق والتكذيب، ثم شاع في الوجوه البشر للإحساس المشترك بالنجاة، وتغير الجو القاتم إلى جو بهيج كما تبدو وسط السحاب المكفهر فجوة زرقاء على غير انتظار فتنداح بمعجزة عجيبة، حتى تشمل القبة السماوية في دقائق معدودات ثم تضيء الشمس، قال ياسين وهو يتنهد: نجونا والحمد لله.
فقالت خديجة بعد أن استعادت في الجو الجديد نشاطها المألوف: بل نجوت أنت يا صاحب المشورة.
فقهقه ياسين حتى اهتز جسمه الضخم وقال: أجل نجوت من عقرب لسانك، طالما توقعت أن تمتد إلي بين حين وآخر لتلسعني. - ولكنها هي التي أنقذتك، ومن أجل الورد يسقى العليق.
كادوا ينسون في فرحة النجاة أن أمهم طريحة الفراش مكسورة الترقوة، ولكنها هي نفسها كادت أن تنسى.
29
فتحت عينيها فوقع بصرها على خديجة وعائشة جالستين على الفراش عند قدميها رانيتين إليها بعينين يتنازعهما الخوف والرجاء، فتنهدت ثم التفتت صوب النافذة، فرأت خصاصها ينضح بضوء الضحى فتمتمت كالمستغربة: نمت طويلا.
فقالت عائشة: ساعات معدودة بعد أن طلع عليك الفجر دون أن يغمض لك جفن ... يا لها من ليلة لن أنساها مهما امتد بي العمر.
وعاودتها ذكريات الليلة الماضية من الأرق والألم، فنطقت عيناها بالرثاء - لنفسها وللفتاتين اللتين سهرتا إلى جانبها طول الليل يبادلانها الألم والأرق - وتحركت شفتاها، وهي تستعيذ بالله بصوت غير مسموع ثم همست قائلة فيما يشبه الحياء: شد ما أتعبتكما!
صفحه نامشخص