فلكزتها بكوعها، ثم تنهدت قائلة: لو تعيرينني أنفك كما أعارتني مريم علبة بودرتها! - تناسي أنفك ولو الليلة على الأقل، إن الأنف - كالدمل - يضخم بالدأب على التفكير فيه!
أوشكتا عند ذاك على الفراغ من عملية التجميل، فتراخى انتباه خديجة عن التركيز في مظهرها، واتجه في رهبة إلى موقف الامتحان الذي ينتظرها، فشعرت بخوف لم تشعر بمثله من قبل، لا بالقياس إلى جدته فحسب، ولكن - قبل كل شيء - بالقياس إلى خطورة عواقبه، وما لبثت أن قالت متشكية: أية جلسة هذه التي قضي علي بها! ... تصوري نفسك في مكاني، بين نسوة غريبات لا تدرين أي خلق خلقهن، ولا أي أصل أصلهن، وهل جئن بنية صادقة أو لمجرد الفرجة والتسلية، وماذا يكون من أمري لو كن عيابات شتامات (ثم ضاحكة ضحكة مقتضبة) مثلي مثلا ... هه؟ وماذا بوسعي إلا أن أجلس بينهن في أدب واستسلام أتلقى نظراتهن من اليمين والشمال، ومن الأمام والخلف، وأصدع بأمرهن بلا أدنى تردد، إذا طلبن قياما قمت، أو مشيا مشيت أو كلاما تكلمت، حتى لا يفوتهن شيء من جلوسي وقيامي وصمتي وكلامي وأعضائي وقسماتي، وعلينا بعد هذه «البهدلة» كلها أن نتودد إليهن ونطري لطفهن، وكرمهن، ثم لا ندري بعد ذلك أنفوز بالرضا أو نفوز بالغضب، أف ... أف ... ملعون الذي أرسلهن!
فعاجلتها عائشة قائلة بلهجة ذات معنى: بعد الشر عنه!
فقالت خديجة ضاحكة أيضا: لا تدعي له حتى نتأكد أنه من نصيبنا ... آه يا ربي كم أن قلبي يدق!
فتراجعت عائشة خطوة عن مرمى كوعها وقالت: صبرك ... ستجدين في المستقبل فرصا كثيرة للانتقام من مجلس اليوم الرهيب، فكم سيصلين من نار لسانك وأنت ست البيت ... ولعلهن يذكرن امتحان اليوم وهن يقلن لأنفسهن يا ليت الذي جرى ما كان!
وقنعت خديجة بالابتسام. لم يكن في الوقت متسع لرد الهجوم ، ولم تجد في الهجوم - الذي تجد فيه عادة سرورا شافيا - لذة على الإطلاق لغلبة الرهبة على نفسها وحيرتها بين الخوف والرجاء، ولما فرغتا من مهمتهما وقفت تلقي على صورتها نظرة شاملة، وعائشة - إلى الوراء خطوتين - تردد نظرها بعناية بين الصورة والأصل، وجعلت خديجة تتمتم: أحسنت يداك، منظر حسن أليس كذلك؟ ... هذه خديجة حقا ... لا بأس بأنفي الآن ... جلت حكمتك يا رب، بقليل من الجهد صار كل شيء مقبولا، فلماذا (ثم مستدركة بسرعة) أستغفر الله العظيم، لك في كل شيء حكمة.
وتراجعت خطوات وهي تفحص صورتها بعناية، ثم قرأت الفاتحة في سرها، والتفتت نحو عائشة قائلة: ادعي لي يا بنت.
وغادرت الحجرة.
24
اكتسب مجلس القهوة بحلول الشتاء ميزة جديدة تمثلت في المدفأة الكبيرة التي توسطت الصالة فتكأكأت حولها الأسرة، الذكور في معاطفهم والنساء ملتفات بخماراتهن، فهيأ لهم المجلس إلى لذة الشراب وحلو السمر متعة الدفء. وقد بدا فهمي - على حزنه الصامت الطويل في الأيام الأخيرة - كمن يتحفز لمواجهة أهله بخبر هام، ولم يكن تردده وطول تفكيره إلا دليلا على خطورة الخبر وأهميته، بيد أنه انتهى من تفكيره وتردده إلى التصميم على إبلاغه ملقيا عبئه بعد ذلك على والديه والأقدار؛ فلذلك قال: عندي خبر هام لكم فاسمعوا ...
صفحه نامشخص