فضحكت من أنفها وهي تهز كتفيها، وهمت بالكلام، ولكنها أمسكت متفكرة مليا، ثم قالت وقد التمعت في عينيها نظرة ماكرة: قل له إنها لا تدري ماذا تفعل لو تقدم لها خاطب في أثناء هذه المدة الطويلة من الانتظار!
وعني كمال بحفظ الرسالة الجديدة أكثر مما عني بفهمها، وسرعان ما شعر بأن مهمته قد انتهت فأودع بقية اللب جيب جلبابه ومد لها يده بالسلام، ثم انزلق إلى أرض الحجرة، ومضى خارجا.
22
بدت عائشة وهي تنظر في المرآة شديدة الإعجاب بنفسها، دون الأسرة اللامعة، بل أي فتاة في الحي كله تتحلى بمثل هذه الخصلات الذهبية وهاتين العينين الزرقاوين؟! إن ياسين يتغزل بها جهارا، وفهمي لا يخلو إذا تحدث إليها لأمر أو لآخر من نظرات تنم عن الإعجاب، حتى كمال الصغير لا يحلو له الشراب من قلة إلا من الموضع المبتل بريقها، وهذه أمها تدللها فتدعوها «قمر» وإن لم تخف قلقها نحو نحافتها ورقتها الأمر الذي جعلها تحث أم حنفي على تركيب وصفة لتسمينها. أما عائشة نفسها فلعلها كانت أعرف الجميع بحسنها البارع كما تدل عليه عنايتها الشديدة به واستئناسها إليه، على أن هذه العناية المفرطة لم تمر بخديجة دون تعليق، بل مؤاخذة وتقريع، لا لأنها تستنيم إلى الإهمال فالحق أن خديجة هي الوريثة الأولى لأمها في الواقع بالنظافة والأناقة، ولكن لأنها رأت الفتاة تستقبل النهار عادة بتمشيط شعرها وإصلاح هندامها، حتى قبل القيام بواجبات المنزل كأنها لا تطيق أن يبقى جمالها ساعة من العمر غير محاط بالعناية والرعاية، ولكن لم تكن العناية بالجمال وحدها هي الباعث على هذا التجمل الباكر، فعند ذهاب الرجال - كل إلى عمله - تأوي إلى حجرة الاستقبال وتفرج بين ضلفتي الشباك المطل على بين القصرين زيقا رقيقا، فتقف وراءه مادة بصرها إلى الطريق يعلوها قلق الانتظار واضطراب الخوف. هكذا وقفت ذاك الصباح فظل طرفها حائرا ما بين حمام السلطان وسبيل بين القصرين، وفؤادها الفتي يواصل خفقاته حتى تراءى عن بعد «المنتظر» وهو ينعطف قادما من الخرنفش خاطرا في بدلته العسكرية والنجمتان تلمعان على كتفه، وجعل كلما اقترب من البيت يرفع في حذر عينيه دون رأسه، حتى تدانى من البيت فهفت في أساريره ابتسامة خفيفة آية في الخفة - تدرك بالقلب أكثر مما تدرك بالحواس - كأنها الهلال في ليلته الأولى، ثم اختفى تحت المشربية فاستدارت في عجلة لتتابع مشاهدته من النافذة الأخرى المطلة على النحاسين، فما راعها إلا أن ترى خديجة منتصبة على الكنبة بين النافذتين ملقية بنظرها إلى الطريق من فوق رأسها! فرت منها آهة، واتسعت عيناها في رعب فاضح، فتسمرت في موقفها ... متى وكيف جاءت! كيف علت الكنبة دون أن تشعر بها؟! ... وماذا رأت؟! ... متى وكيف وماذا؟ أما خديجة فقد ثبتت بصرها عليها، وهي تضيق عينيها رويدا صامتة، مطيلة الصمت كأنما لتطيل تعذيبها، ثم تمالكت عائشة بعض نفسها فخفضت عينيها في جهد شديد ومالت نحو الفراش متظاهرة - عبثا - بضبط الأعصاب وهي تغمغم: أرعبتني يا شيخة!
لم تبد خديجة اكتراثا، ظلت بموقفها على الكنبة وعيناها إلى الطريق خلل الزيق ... ثم تمتمت ساخرة: أرعبتك؟! ... اسم الله عليك! ... أصلي بعبع!
وعضت عائشة على نواجذها في غيظ وحنق ويأس بعد أن تراجعت قليلا إلى مأمن من عينيها، إلا أنها قالت بصوت هادئ: رأيتك فجأة فوق رأسي دون أن أشعر بدخولك، لماذا تسترقين الخطو؟
فوثبت خديجة إلى الأرض، ثم جلست على الكنبة في استرخاء ساخر وهي تقول: آسفة يا أختي، في المرة القادمة سأعلق جرسا في عنقي مثل عربة المطافئ لتنتبهي إلى حضوري فلا ترتعبي.
فقالت عائشة في ضيق والرعب لم يفارقها: لا لزوم لتعليق الجرس، حسبك أن تسيري كالناس الذين خلقهم ربنا.
فقالت الأخرى بنفس اللهجة الساخرة، وهي ترميها بنظرة ذات معنى: ربنا يعلم أني أسير كالناس الذين خلقهم، ولكن الظاهر أنك إذا وقفت وراء النافذة - أقصد وراء هذا الزيق - استغرقت فيما أمامك، بحيث تفقدين الوعي بما حولك فلا تبقين كالناس الذين خلقهم ربنا.
فنفخت عائشة مغمغمة: هكذا أنت دائما.
صفحه نامشخص