وقبل أن يعلن ثورته على أخته قال له فهمي بازدراء: يا لك من حمار! ... لماذا لا تفكر في دخول الحقوق مثلي؟ ... إن ظروف ياسين القاهرة هي التي جعلته يأخذ الابتدائية في العشرين من عمره، ولولاها لأتم تعليمه ... ألا تدري كيف تتمنى يا كسول!
10
عندما صعد فهمي وكمال إلى سطح البيت كانت الشمس على وشك الاختفاء، فلاحت قرصا أبيض مسالما تولت عنه حيويته وبردت حرارته وانطفأ توهجه، وقد بدا بستان السطح المسقوف باللبلاب والياسمين في ظلمة وانية، ولكن الشاب والغلام مضيا إلى شطر السطح الآخر، حيث لا يحجب فلول النور حجاب، ثم مالا إلى السور الملاصق لسور السطح المجاور، سطح الجيران. وكان فهمي يرقى بكمال إلى هذا الوضع كل مغيب بحجة مراجعة دروسه في الهواء الطلق على الرغم من أن جو نوفمبر أخذ يميل إلى البرودة في هذه الساعة من اليوم، وأوقف الغلام بحيث جعل ظهره إلى السور، ووقف هو لقاءه، بحيث أمكنه أن يمد بصره إلى سطح الجيران الملاصق دون تلفت كلما بدا به. وهناك بين حبال الغسيل لاحت فتاة - شابة في العشرين أو نحو ذلك - وقد انهمكت في جمع قطع الثياب الجافة وتكديسها في سلة كبيرة. ومع أن كمال راح يتكلم بصوت مرتفع كعادته إلا أنها واصلت عملها وكأنها لم تنتبه إلى مجيء الطارئين. أمل كان يجيء به دواما في مثل هذه الساعة لعله يفوز منها بنظرة إذا اتفق ودعاها إلى السطح بعض شأنها، ولم يكن تحقيقه يسيرا كما دل تورد وجهه الناطق بفرط سروره، وخفقان قلبه المتتابع ببهجة مفاجئة، فجعل ينصت إلى أخيه الصغير بعقل تائه وعينين أقلقهما استراق النظر، وهي تتراءى تارة وتحتجب أخرى، أو يبدو بعضها ويغيب بعضها، كيفما اتفق موقفها من الثياب والملاءات المنشورة ... كانت فتاة متوسطة القامة صافية البشرة مع ميل إلى البياض، سوداء العينين، تنطق مقلتاها بنظرة تفيض حياة وخفة وحرارة ، إلا أن جمالها وعاطفته المتوثبة وإحساسه بالظفر لرؤيتها لم تستطع أن تمحو القلق الذي يدب وراء قلبه - وانيا حين حضورها، ثم قويا إذا خلا إلى نفسه - لجرأتها على التعرض لعينيه كأنه ليس بالرجل الذي ينبغي أن تتوارى فتاة مثلها عن عينيه، أو كأنها فتاة لا تبالي التعرض للرجال، وطالما ساءل نفسه ما بالها لا تفزع مولية كخديجة أو عائشة لو وجدت إحداهما نفسها في مثل موقفها! أي روح عجيب يشذ بها عن التقاليد المرعية والآداب المقدسة! وألا يكون أهدأ جانبا لو بدا منها ذاك الاحتشام المفتقد، ولو على حساب سروره الذي يفوق الوصف برؤيتها؟! ... بيد أنه دأب على انتحال الأعذار لها من قدم الجوار ووحدة النشأة، وربما الوداد أيضا. ثم لا يفتأ وراء نفسه يحاورها ويجادلها حتى تشجع وترضى. ولما لم يكن جريئا كجرأتها فقد جعل يختلس من الأسطح المجاورة النظر ليطمئن إلى خلوها من الرقيب؛ لأنه لم يكن مما يغض الطرف عنه أن يجرح شاب في الثامنة عشرة حرمة الجيران، وخاصة من كان منهم في طيبة جارهم السيد محمد رضوان؛ ولهذا أقلقه دائما شعوره بخطورة فعلته، وخوفه من أن يترامى نبؤها إلى أبيه فتكون الطامة، ولكن استهانة الحب بالمخاوف عجب قديم فلم يقدر شيء منها على إفساد نشوته، أو انتزاعه من حلم ساعته، فمضى يراقبها وهي تبدو أو تختفي حتى خلا ما بينه وبينها، وباتت تواجهه ويداها الصغيرتان ترتفعان وتنخفضان وأصابعها تنقبض وتنبسط على مهل وتؤدة، كأنها تتعمد إطالة عملها، وحدس قلبه ذاك التعمد وهو بين الشك والتمني ولكنه لم يقتصد في الانطلاق مع فرحته إلى أبعد الآفاق حتى استحال باطنه رقصا وأنغاما، ومع أنها لم ترفع عينيها إليه قط إلا أن هيئتها وتورد وجنتيها وتحاميها النظر إليه نمت جميعا عن شدة إحساسها بوجوده أو انعكاس وجوده على إحساسها. وبدت في هدوئها وصمتها موفورة الرزانة كأنها ليست هي هي التي تشيع الفرح والبهجة في بيته إذا زارت شقيقتيه، أو ليست هي هي التي يعلو صوتها في جنبات الدار وترن ضحكاتها، هنالك يقبع وراء باب حجرته وكتابه في يده استعدادا للتظاهر بالاستذكار إذا طرقه طارق، ويروح يستقبل بوعيه المركز أنغامها الناطقة والضاحكة بعد استخلاصها من أصوات الآخرين الملابسة لها التي لا يكاد يشعر بها كأنما وعيه مغناطيس يجذب إليه الصلب وحده من بين أخلاط شتى، وربما لحظ بعضا منها وهو يعبر الصالة، وربما التقت عيناهما في لمحة خاطفة ولكنها كافية لإسكاره وإذهاله كأنه تلقى بها رسالة خطيرة دار رأسه بخطورتها، وملأ بنظراته المسترقة من وجهها عينيه وروحه، فعلى الرغم من أنها كانت مسترقة خاطفة إلا أنها مستأثرة بروحه وإحساسه، فكانت شديدة النفاذ والقوة تأتي النظرة منها بما لا يستطيعه النظر الطويل والسبر العميق، كأنها انبثاق البرق الذي يتوهج لحظة قصيرة، فتضيء شرارته الرحاب وتخطف الأبصار، وثمل قلبه بسرور مسكر عجيب، ولكنه لم يخل - كحاله أبدا - من ظل أسى يتبعه كما تتبع رياح الخمسين مشرق الربيع؛ لأنه لم يكن يكف عن التفكير في الأربعة الأعوام التي يتم تعليمه فيها، والتي لا يدري كم من يد قد تمتد في أثنائها إلى الثمرة الناضجة لتقطفها. ولو كان جو البيت غير هذا الجو الخانق الذي تشد على عنقه قبضة أبيه الحديدية، لأمكنه أن يلتمس إلى سلام قلبه أقصر السبل، ولكنه خاف دائما أن ينفس عن آماله فيعرضها لزجرة من أبيه قاسية تطيرها وتبددها. وتساءل وهو يمد بصره فوق رأس أخيه: ترى أي أفكار تدور برأسها؟ ألا يشغله حقا إلا ما تجمع من قطع الملابس؟ ... ألم تشعر بعد بما يجذبه إلى موقفه هذا مساء بعد مساء؟ ... وكيف يلقى قلبها هذه الخطى الجريئة من ناحيته؟ ... وتخيل نفسه متخطيا سور السطوح إلى مكانها في الظلام، وتخيلها على أطوار شتى تارة تنتظره على ميعاد، وتارة تباغت بمقدمه حتى تهم بالفرار، ثم تصور ما يكون بعد ذلك وما يند عنه من بوح وشكوى وعتاب، ثم ما قد يستتبعه هذا أو ذاك من عناق وقبل، بيد أنها كانت محض تخيلات وأوهام، وكان أدرى الناس - بما جبل عليه من دين وآداب - ببطلانها ومحالها. وبدا الموقف صامتا إلا أنه كان صمتا مكهربا يكاد ينطق بغير لسان، وحتى كمال لاحت في عينيه الصغيرتين نظرة حائرة كأنه يسائل نفسه عن معنى هذا الجد الغريب، الذي يثير استطلاعه على غير جدوى، ثم نفد صبره فرفع صوته قائلا: لقد حفظت الكلمات، ألا تسمعها لي؟
وأفاق فهمي على صوته، فتناول الكراسة منه ومضى يسأله عن معاني الكلمات والآخر يجيب حتى وقعت عيناه على كلمة عزيزة وجد بينها وبين ما كان فيه سببا، وأي سبب فرفع صوته عمدا وهو يسأله عن معناها قائلا: قلب؟
وأجاب الغلام وتهجى والآخر يتلمس أثر موقع الكلمة من وجهها، ثم رفع صوته مرة أخرى متسائلا: حب؟
وارتبك كمال قليلا ثم قال بصوت يدل على الاعتراض: ليست هذه الكلمة في الكراسة ...
قال فهمي باسما: ولكني ذكرتها لك مرارا، وكان يجب أن تحفظها!
وقطب الغلام كأنه يشد قوس حاجبيه لاصطياد الكلمة الهاربة، ولكن أخاه لم ينتظر نتيجة محاولته وواصل امتحانه بنفس الصوت المرتفع قائلا: زواج.
وخيل إليه عند ذاك أنه لمح على شفتيها شبه ابتسامة، فتوالت ضربات قلبه في سرعة وحرارة، وملأه شعور بالظفر؛ لأنه أمكنه أخيرا أن ينقل إليها شحنة من الكهرباء التي تستعر في صدره، بيد أنه تساءل لماذا يا ترى لم تفصح عن تأثرها إلا عند هذه الكلمة، ألأنها استنكرت سابقتها أم أن الأخيرة كانت أول ما وعت أذناها؟! ... وما يدري إلا وكمال يقول محتجا بعد أن أعياه التذكر: هذه الكلمات صعبة جدا ...
وآمن قلبه بقولة أخيه البريئة، وذكر على ضوئها حاله ففترت فورة سروره أو كادت، وهم بالكلام ولكنه رآها انحنت على السلة ثم حملتها واتجهت نحو السور الملاصق لسطح بيته، ووضعتها عليه وراحت تضغط الغسيل براحتيها، قريبة من موقفه لا يفصلها عنه إلا ذراعان، ولو شاءت لاختارت موضعا آخر من السور ولكن كأنها تعمدت أن تتصدى له وجها لوجه، فبدت في هجومها جريئة لحد أخافه وأربكه، وإن عاود قلبه الخفقان السريع الحار، حتى شعر بأن الحياة تبيح له من كنوزها لونا جديدا لم يدره، لطيفا بهيجا مفعما حيوية وأفراحا، ولكن وقفتها القريبة لم تطل فما لبثت أن رفعت السلة بين يديها، واستدارت مولية صوب باب السطح حتى مرقت منه وغابت عن ناظريه، وجعل ينظر إلى الباب مليا دون مبالاة بأخيه الذي عاود التشكي من صعوبة الكلمة، ثم شعر برغبة في الانفراد لتملي ما استجد من تجارب الهوى، فقلب عينيه في الفضاء في تظاهر بالدهشة كأنما يتنبه إلى الظلمة الزاحفة في الأفق لأول مرة، وتمتم قائلا: آن لنا أن نعود ...
صفحه نامشخص