فقال السيد من الأعماق: عليه الصلاة والسلام. - وأثن على أبيك بما هو أهله، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، كأني به متخذا مجلسك هذا، لا فارق بين الأب وابنه إلا أن الراحل حافظ على العمامة، واستبدلت بها هذا الطربوش ...
فتمتم السيد مبتسما: فليغفر الله لنا.
فتثاءب الشيخ حتى دمعت عيناه، ثم استطرد قائلا: وأدعو الله أن يمن على أبنائك بالفلاح والتقوى؛ ياسين وخديجة وفهمي وعائشة وكمال وأمهم آمين.
ووقع نطق الشيخ باسمي خديجة وعائشة من أذني السيد موقعا غريبا على الرغم من كونه هو الذي أفضى إليه باسميهما منذ عهد طويل ليكتب لهما حجابين، وليست أول مرة ينطق الشيخ باسميهما، ولا آخر مرة، ولكن لم يكن يتردد اسم واحدة من حريمه بعيدا عن الحجرات - ولو على لسان الشيخ متولي - حتى يقع من نفسه موقعا غريبا ينكره ولو إلى حين. بيد أنه غمغم قائلا: آمين يا رب العالمين.
فتنهد الشيخ قائلا: ثم أسأل الله المنان أن يعيد إلينا أفندينا عباس مؤيدا بجيش من جيوش الخليفة لا يعرف له أول من آخر. - نسأله وليس شيء عليه بكثير.
فعلا صوت الشيخ وهو يقول غاضبا: وأن يمنى الإنجليز وأعوانهم بهزيمة منكرة فلا تقوم لهم بعدها قائمة. - ربنا يأخذهم جميعا.
فحرك الشيخ رأسه في أسى، وقال بحسرة: كنت بالأمس سائرا في الموسكي، فاعترض سبيلي جنديان أستراليان، وطالباني بما معي فما كان مني إلا أن نفضت لهما جيوبي، وأخرجت الشيء الوحيد الذي كان معي وهو كوز ذرة فتناوله أحدهما وركله كالكرة، وخطف الآخر عمامتي وحل الشال ومزقه ورمى به في وجهي.
وتابعه السيد وهو يغالب ابتسامة تراوده، فما لبث أن داراها بالمبالغة في إظهار استيائه صائحا في استنكار: قاتلهم الله وأهلكهم.
فأتم الرجل حديثه قائلا: رفعت يدي إلى السماء، وصحت: يا جبار مزق أمتهم كما مزقوا شال عمامتي. - دعوة مستجابة بإذن الله.
ومال الشيخ إلى الوراء وأغمض عينيه ليستريح قليلا، ولبث على حاله والسيد يتفرس في وجهه مبتسما، ثم فتح عينيه وخاطب السيد بصوت هادئ ونبرات جديدة تنذر بموضوع جديد، قائلا: يا لك من رجل شهم جميل المروءة يا أحمد يا بن عبد الجواد!
صفحه نامشخص