بيد أن المثل رن في أذنيه رنينا جافيا، وكد أثره السيئ تحديق أمه وخديجة في عينيه باستغراب، فانتبه إلى خطئه غير المقصود، وتداركه قائلا وقد دخله امتعاض وخجل: أخو الوز عوام! ... هذا ما قصدت أقوله.
دل الحديث في جملته على تحامل خديجة على زينب من ناحية، وخوف الأم من العواقب من ناحية أخرى، بيد أن أمينة لم تعلن ما في نفسها كله. في تلك الليلة عرفت في نفسها أمورا لم تكن تعرفها من قبل. أجل كثيرا ما وجدت نحو زينب إنكارا وضيقا، ولكنه لم يبلغ أن يكون نفورا أو كراهية، فعزته إلى خيلاء الفتاة بداع وبغير داع، ولكن هالها اليوم أن تخرق الآداب والتقاليد، وأن تحل لنفسها ما لا يحل - في نظرها هي - إلا للرجال، عابت هذا السلوك بعين امرأة قضت عمرها حبيسة وراء الجدران، امرأة دفعت صحتها وسلامتها ثمنا لزيارة بريئة لزين آل البيت لا لكشكش بك، فمازج انتقادها الصامت شعور طافح بالمرارة والغيظ، وكأن منطقها غدا يردد فيما بينها وبين نفسها «إما أن تنال الأخرى الجزاء، أو فلتذهب الحياة هباء.» هكذا تلوث بالحنق والموجدة - في الشهر الأول من معاشرته لامرأة جديدة - القلب الطاهر الورع الذي لم يعرف طوال حياته المحفوفة بالجد والصرامة والتعب إلا الطاعة والعفو والصفاء. ولما آوت إلى حجرتها لم تدر إن كانت تود - كما دعت بلسانها أمام أبنائها - أن يستر الله على «جناية» ياسين، أم أنها ترجو أن ينال أو بالأحرى أن تنال زوجه جزاءها من الزجر والتأديب؟ بدت تلك الليلة وكأنها لا يعنيها من أمر الدنيا جميعا إلا أن تصان تقاليد الأسرة من كل عبث، وأن يدفع عنها ما يتحرش بها من عدوان، بدت غيورا على الآداب إلى حد القسوة، فطمرت عواطفها الرقيقة المألوفة في الأعماق باسم الإخلاص والفضيلة والدين، متعللة بها، فرارا من ضميرها المتألم كالحلم الذي ينفس عن غرائز مكبوتة باسم الحرية، أو غيرها من المبادئ السامية. جاء السيد وهي على تلك الحال من التصميم إلا أن منظره بث الخوف في حناياها فانعقد لسانها، راحت تتابع حديثه وتجيب عن أسئلته بذهن شارد وفؤاد خافق لا تدري كيف تنفس عما احتدم بخاطرها، وكلما مر الوقت واقترب ميعاد النوم ألحت عليها رغبة عصبية في الكلام، كم ودت لو تتكشف الحقيقة بنفسها كأن يجيء ياسين وزوجه مثلا قبل إخلاد أبيه إلى النوم، فيتنبه السيد بنفسه إلى فعلته النكراء، فيجبه العروس الرعناء برأيه في سلوكها بغير تدخل منها هي - الأم - لا شك أنه يحزنها بقدر ما يريحها ... انتظرت طويلا في لهفة وقلق أن يطرق الباب الكبير، انتظرت دقيقة بعد أخرى حتى تثاءب السيد وقال لها بصوت متراخ: أطفئي المصباح.
حاقت بها الهزيمة فانحلت عقدة لسانها، فقالت بصوت خافت مضطرب كأنها تناجي نفسها: تأخر الوقت ولما يعد ياسين وزوجه!
فحملق السيد في وجهها وتساءل في عجب: وزوجه؟ ... أين ذهبا؟
ازدردت المرأة ريقها وقد ركبها الخوف، من السيد ومن نفسها معا، ولكن لم تجد بدا من أن تقول: سمعت الجارية تقول إنهما ذهبا إلى كشكش بك! - كشكش!
عزف الصوت عاليا في شراسة وتطاير الشرر من العينين اللتين ألهبهما الكحول، وراح يطرح عليها السؤال تلو السؤال مزمجرا مدمدما حتى طار النوم عن رأسه، فأبى أن يزايل مجلسه حتى يعود «الضالان»، فانتظر وهو يغلي من الحنق، ولما كان غضبه ينعكس على نفسها رعبا، فقد ارتعبت كما لو كانت هي المذنبة، ثم غصت بالندم على ما بدر منها، ندم عاجلها مبادرا عقب البوح بسرها مباشرة، كأنها لم تبح إلا كي تندم، فلم تكن لتبخل بغال مهما غلا ساعتئذ لو تستطيع أن تصلح خطأها، وقست على نفسها بلا تحفظ فاتهمتها بالوقيعة والشر، ألم يكن الأجدر بها أن تتستر عليهما على أن تنبههما إلى خطئهما غدا إن كانت تريد الإصلاح حقا لا الانتقام؟ .. ولكنها أذعنت لعاطفة شريرة، عن عمد وسوء نية، فهيأت للفتى وعروسه نكدا لم يدر لهما بخلد، وجرت على نفسها ندما بات يحرق نفسها المعذبة حرقا بلا رحمة، وراحت تدعو الله - خجلى من ذكره - أن يلطف بهم جميعا، مضى الوقت تقرع دقائقه قلبها بالألم، حتى انتبهت على صوت السيد وهو يقول متهكما بمرارة: جاء سي كشكش.
فأرهفت السمع وهي تتطلع بناظريها إلى النافذة المفتوحة المطلة على الفناء، فترامى إليها صرير الباب الكبير وهو يغلق، وقام السيد وغادر الحجرة، فقامت بطريقة آلية ولكنها تسمرت في مكانها جبنا وخزيا، وضربات قلبها تتدافع حتى سمعت صوته الجهير وهو يخاطب القادمين قائلا: «اتبعاني إلى حجرتي.» فتناهى بها الخوف فتسللت من الحجرة هاربة ... عاد السيد إلى مجلسه يتبعه على الأثر ياسين وزينب، فحدج الفتاة بنظرة عميقة متجاهلا ياسين ثم قال بحزم وإن نقى نبراته من الغلظة والجفاء: أصغي إلي يا بنية جيدا، أبوك أخي أو أوثق صلة ومودة، فأنت ابنتي كخديجة وعائشة على السواء، ما قصدت أبدا أن أكدر صفوك، ولكن ثمة أمور أعد السكوت عنها جريمة لا تغتفر، من ذلك أن تبقى فتاة مثلك خارج بيتها حتى هذه الساعة من الليل، لا تحسبي أن في وجود زوجك معك عذرا عن هذا السلوك الشاذ، فإن الزوج الذي يستهين بكرامته على هذا النحو غير خليق بأن يقيل من العثرات التي هو للأسف أول دافع إليها، ولما كنت على يقين من براءتك، أو بالأحرى من أنه لا ذنب لك إلا أنك جاريته على هواه فرجائي إليك أن تعاونيني على إصلاح أمره بألا تستسلمي إلى غواياته مرة أخرى.
وجمت الفتاة واستحوذ عليها الذهول، وعلى أنها كانت تحظى في كنف أبيها بقسط من الحرية إلا أنها لم تجد من نفسها شجاعة على مناقشة الرجل بله معارضته، كأن إقامتها في بيته شهرا أعدت شخصيتها بعدوى الخضوع لإرادته التي يفرق حيالها كل حي في البيت. احتج باطنها بأن أباها نفسه استساغ أكثر من مرة أن يصطحبها إلى السينما، وأنه لا يحق له منعها من شيء سمح به زوجها، إلى اقتناعها بأنها لم تخرق أدبا أو تهتك حرمة، قال باطنها هذا وأكثر، بيد أنها لم تستطع أن تنطق بكلمة واحدة حيال عينيه الملزمتين بالطاعة والاحترام وأنفه الكبير الذي بدا - وهو يرفع رأسه - كأنه مسدس مصوب نحوها، فانكتم حديثها الباطني تحت مظهر من الرضا والأدب، كما تنكتم الأمواج الصوتية في جهاز الاستقبال بالمذياع بإغلاق مفتاحه، ثم ما تدري إلا وهو يسألها، وكأنه يتمادى في تحديه لها: ألك اعتراض على قولي؟
فهزت رأسها بالنفي، ورسمت شفتاها حرف «لا» دون أن تنطق به، فقال لها: اتفقنا، تفضلي إلى حجرتك بسلام.
غادرت الحجرة شاحبة الوجه، فالتفت السيد صوب ياسين الذي أخفى عينيه في الأرض، ثم قال وهو يهز رأسه في أسف شديد: الأمر جد خطير ولكن ما حيلتي؟! ... لم تعد طفلا وإلا لكسرت رأسك، ولكنك وا أسفاه رجل وموظف وزوج أيضا، وإن كنت لا تتورع عن العبث برباط الزوجية، فما عسى أن أصنع بك؟ أهذه نهاية تربيتي لك؟ ... (ثم بصوت أذهب في التأسف) ماذا دهاك؟ ... أين الرجولة؟ ... أين الكرامة؟ ... يعز علي والله أن أصدق ما وقع.
صفحه نامشخص