وأقام عمي في ضيافتهم ثلاثة أيام، وفي عصاري اليوم الثالث جرت حفلة العماد، وبعدها استأذنهم عمي بالعودة، فألحوا عليه أن يبقى يوما آخر، فرفض طلبهم بالرغم عن استعطاف ريتا، ورجاء جونريت وغضب البارون، ولا حاجة لذكر ما كان لوداعنا في المساء من التأثير، فكانت أوقات السكوت أكثر من أوقات الحديث، وكأني بهم يشعرون بوحشة لغيبتي، ويحسون بخلاء في قلوبهم، بل كأني بهم انتهوا إلى آخر الجزء الأول من قصة وفي نفوسهم شوق لقراءة الجزء الثاني.
ولما كان صبح الغد أسرعنا إلى المحطة، فقال البارون لعمي: لا تنس يا عزيزي ما قلت لك بالشأن السري، ولا تهمل علاج درتيل، ثم التفت إلي وقال في اليوم الثالث من الشهر القادم يجب أن تكون في المكتب كعادتك، فاحذر التأخير مخافة أن يخلفك آخر كما خلفت سلفك!
فودعناه وركبنا القطار، فقام بنا إلى افريه، وبينما كنت على الطريق ذكرت أيامي الخالية، وكيف كنت مضطربا وجلا يوم ركبت القطار من افريه إلى باريس قصد الاستخدام عند فركنباك، ثم ذكرت ما لاقيت عند هذا من حسن الوفادة والوئام، على أني كنت أرى في ذاك التاريخ صفحة سوداء تشين حسناته، وتحط قدر آياته وقلت: هل تكتفي ريتا بهنري أم تطمع بآخر، فتشب الحرب بيننا وتقوم قائمتها ...؟ وهل لي مقدرة على شيء، وهي قد قبضت على حياتي وأسرتها؟
وكان القطار ينساب في الفضاء الطويل العريض انسياب الأفعوان، ويترامى المراحل البعيدة والفلوات الشاسعة، كأنه سهم ناري، يشق عباب الأجواء حتى اغتدى على بعد ساعة من افريه.
فقال عمي: أتعلم يا مكسيم ما هو الشأن السري الذي حذرني البارون في المحطة أن أنساه؟! - أظنه شأن زيجة بين ابن أخيك وابنة أخت ريتا، فقال: أجل، قلت: أتراه موافقا، قال: لا يكون أنسب منه وقد تكلمنا مليا بهذا الشأن، وسأخطبها لك من أمها بعد عام إن شاء الله.
فذكر عندئذ لويزا وبعد أن كنت أسرح الطرف في الربوع الجميلة ذات الأعشاب والأشجار البهية، غدوت أفكر بلويزا وبضربها البيانو.
قال: كيف أخلاق أمها؟ وهل تظنها تعارض في زواجها، فقلت: إني أستقصيتها يا مولاي زمنا، واستطلعت أفكارها، فاهتديت بعد البحث الطويل إلى رغبتها في تزويج ابنتها بي، وهي في حد نفسها كريمة الأخلاق، رقيقة الحديث، عندها من كرم العوائد وعوائد الكرم شيء جزيل، ومن الذكاء قدر جليل، والقصارى أنها امرأة يقل مثلها بين النساء.
وإذا بالقطار يسير الهوينا، فأخرجت رأسي من النافذة، فرأيته على مقربة من افريه، وكان الدخان ينتشر في أطراف السماء، وينتهي في صعوده إلى السحب السوداء، وكانت أشعة الشمس تصل إلى الأرض من خلال الغيوم ضئيلة، فعرفت تلك الرياض، وذكرت عهودي بها يوم لا يعرف ضميري تعبا، ولا يعرف قلبي حبا، يوم كنت نقي القلب لا أعرف الشر من الخير، وعندي كل الغنى في ألعوبة أو طير.
ولما دخل القطار في المحطة سمعت أصوات الباعة، ورأيت نفرا من معارفي وأصدقائي، ثم أسرع تراجمة اللوكندات إلى الركاب كعادتهم، فأخذت بيد عمي، وأعنته على النزول من القطار، ثم ركبنا عربة، وسرنا إلى البيت، فقلت في نفسي أخاطب الوطن:
يا مثاوي الصبا عليك سلام
صفحه نامشخص