وبينما كنا على المائدة في ذات يوم رأيناها معبسة كمن تغوص في بحور الأوهام، وكانت يداها الواحدة مسندة إلى الطاولة، والأخرى على جبهتها، فسألناها عما يؤلمها ولماذا لا تأكل؟ فأجابت: إن ذلك لضعف في المعدة، وبينما نحن في الحديث إذا بالخادم داخل وفي يديه قصعة فيها أخطبوط مغمور بالمرق الطيب، فلما رأته قالت: الآن آكل ثم قطعت قطعة كبيرة ووضعتها أمامها، وجعلت تأكل بشراهة كمن صام عشرين يوما، فقال لها البارون: تقولين إن معدتك ضعيفة! إذن لو كانت سالمة لكنت تأكلين الحجارة، فكفت عن الأكل بغتة، ثم نظرت إلينا وضحكت كمن لعبت دورا في المرسح، وقالت: أتعلم كيف ذلك؟ قال: لا، قالت: ذهبت إلى دار الخياطة لأقيس بدلة أعدها لسباق أوتيل، وفي عودتي مررت بدكان في شارع سانتونورا معلق على بابها هذا الأخطبوط، فاشتهيت أن آكل منه، ولقد طالما رأيت الأخطبوط على أني لم أشعر يوما بمثل ما شعرت عندئذ من الميل لأكل هذا الحيوان، وما زلت أنظر إليه حتى غلبت إرادتي على خجلي، فدخلت الدكان واشتريته، وأمرت البائع أن يرسله إلينا مع أحد خدامه، ثم خرجت من عنده محمرة الوجه، أكاد أذوب خجلا كعذراء خرجت من بيتها وفي يدها كتاب سفيه ألا تستغرب ذلك؟ - أستغرب ذلك؛ لأن عهدي بذوقك غير ما أرى، ونحن لم نر للآن من يأكلون الأخطبوط غير فلاحي القرى، وأما إذا كان ذلك منك دلالا وغنجا، فلا أدري. - دلالا كان أم غنجا، فأنا مستعدة أن أشتري منه مرة أخرى.
ثم صمت الكل وكأني بفركنباك كان غائصا في لحج الأفكار، كأنه يستقبل أمرا عظيما، وبينما كانت أبصاره تروح وتجيء من خلال النافذة، كانت ريتا لا تبدي حراكا ومعدتها تهضم الطعام شيئا فشيئا، أما أنا فلدى سماعي ما كان من أمرها مع الأخطبوط، ذكرت ما يقوله الناس من أن صدور مثل هذه الشهوة من النساء يدل على الحبل، وقلت في نفسي: هل إن ريتا حامل؟ وهل إن الصورة التي نشتهيها لسعادتنا تصورت وكانت؟ وهل إن إكليل حبنا قد صيغ وتجسد ...؟ وهممت أن أسألها في المساء إذا كانت حاملا.
ولما كان المساء أسرعت إلى البيت، فلم أرها ووجدت هناك كتابا على الطاولة تقول فيه: إن البارون اصطحبها معه للتياترو وتأمرني أن ألاقيها إلى هنالك، فساءني ذلك بعد الانتظار الطويل، وقمت من ساعتي قاصدا التياترو لا حبا بالروايات ولا قصد ترويح النفس، بل لأراها وأسألها عن صحتها. •••
الوهم إذا استولى على الأفكار قد يريها الأشياء بخلاف ما هي، ويصور لها وجوه الغير على خلاف كيانها، ولا عجب فقد يعرض ألا تتفاهم القلوب بلغة الملامح، وبيان ذلك أني لما اجتمعت بفركنباك في النهار التالي رأيت وجهه معبسا، وكلامه جافيا، فخفت وسألته إذا كان حدث مني ما كدره، فقال: لا، فعلمت إذ ذاك أني لست في شيء مما أتوهم، ونسبت عبوسته لأمر داخلي، وقلت لو كان عالما بما بيني وبين امرأته لما أبقاني حيا وخصني بنعماه وحبه، ولو كان يعلم شيئا من ذلك لما أبقاني أستنشق الهواء بعد أن أمت شرفه، هكذا الأوهام تقلق الأفكار، وإذا زالت يضحك المرء من ضعفه.
وفي نحو الساعة الحادية عشرة دعاني فركنباك وقال: اذهب إلى البارونة وأخبرها أن الطبيب درتيل يعودها اليوم، فسررت جدا لهذا الخبر، وذهبت من فوري إليها وأخبرتها فسرت هي أيضا، وقالت: نعم إنني في حاجة إلى أهل العلم والخبرة؛ لأني أشعر بانقلاب محسوس في صحتي، فقلت: لعلك حامل يا ريتا؟ فابتسمت وقالت: من أين لي ذلك وأنا عاقر لا ألد، وقد مضى علي في العقر اثنتا عشرة سنة؟! فقلت: سنتحقق ذلك؛ لأن الطبيب درتيل خبير ماهر، فقطعتني عن الكلام وقالت: لم لم يدع غير درتيل، فإني لا أحبه، فقلت: إنني لأعجب من إساءة ظنك به مع ما نال من الشهرة والصيت البعيد، فأجابت: إني أبغضه بصفته رجلا لا بصفته طبيبا، وقد جرى لي شأن معه يجب أن أطلعك عليه، وهو أن درتيل كان في حداثته مع البارون في مدرسة واحدة، وبعد زواجنا كان يزورنا من وقت إلى آخر، ثم أكثر زياراته إلينا حتى اغتدى عزيزا لدينا يحدثنا بشئونه ونحدثه بشئوننا بلا كلفة ولا استحياء، كأنه واحد منا، وبينما كنت ذات يوم أحدثه كالمعتاد رأيته يخالسني نظرات كأنها غرامية، استجلبت منه ما يجرح إبائي، وفي يوم آخر جاءني وكنت وحدي فانكب على أقدامي وباح لي بغرامه وشرح هواه، وهم أن يضمني إلى صدره فنفرت منه نفور الظباء، وأشرت بيدي إلى الباب كمن أطرده فبكى وتنفس الصعداء، واستسمحني، فقلت: أسامحك بشرط أن تقلل من زياراتك إلينا، وأن تكتم ما جرى بيننا الآن. - وهل أطاعك ولم يخالف؟ - أطاع قسرا ولو لم يطع لشكوته إلى البارون الذي كنت أحبه إذ ذاك، وأظنك تعجب كيف انقلب حبي له بعضا، وكيف انصرف ذاك الحب إليك. - ألم يعلم البارون بعد ذلك بأمره؟ - لا. - ودرتيل. - كما برد الماء المغلي، أو كما انخفضت درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر، فاغتدى كلما دعاه البارون لزيارتنا تنصل عذرا. - أظنك الآن تستقبلينه ببشاشة وطلاقة؟ - إن هفوة أتاها منذ قرن لا تقتضي كوني أعبس فيه اليوم وأجافيه، أما إذا بدا منه ما يخل بالأدب فإني أطرده دون مرية. - وأي ذنب عليه إذا غلبه هواه القديم؟ - كنت يومئذ أحب زوجي وأخاف على ولائه، واليوم أنا أحبك وأخاف على ولائك.
وبينما نحن في الحديث دخل البارون علينا ويده بيد درتيل، فقال لها: قد أتيتك بصاحبك الناكر الجميل، فاعتني بأن تؤدبيه، وقال درتيل بعد أن أحنى رأسه: قد ألح علي حضرة البارون بالحضور إليك، وقال: إنك طلبتني منه مرارا فأسرعت إطاعة لأمرك. - سبحان ربك يا درتيل فقد جعلك أن تغازل النساء شابا وكهلا، فمثل ما رأيتك منذ عشر سنوات أراك اليوم. - وأنا أراك اليوم أجمل وأنصع منك إذ ذاك.
فقال له فركنباك: اسمح لي أن أقدم لك كاتم أسراري المسيو مكسيم جوشران ابن أخ المسيو فرنسوا جوشران، الذي كان معنا في المدرسة، أتذكره؟ - ذاك الولد الأشقر الذي كان يخالطنا كثيرا ...؟ أذكر أنه كان مولعا بالكتابة والخطابة. - هو نفسه وقد اجتمعت به في موندور في العام الفائت ... فهو كما كان من قبل وسيم الوجه ضحوكا.
فقال لي درتيل: إنني أتشرف بمعرفتك أيها العزيز؛ لأنك ابن أخ صديقي جوشران، وكاتم أسرار حضرة البارون، فلم أجبه وشعرت بكراهية له، وكان ينظر إلي بعين مستكشفة، ويلاحظ حركاتي وأنا أخفي شعائري، إلى أن قمنا إلى المائدة، فجعل درتيل يتكلم بما وسع عقله من العلوم والآداب فلم يدع قصة ولا نادرة، وبالإجمال فإنه برهن على اضطلاع وعلم وخبرة، ودل على أنه رجل متفنن.
وبعد الغداء قال لي فركنباك بصوته الأجش: انتظرني في غرفتي إلى أن أعود.
فدخل مع درتيل إلى غرفة ريتا، وأخذ الأخير يفحصها وبعد هنيهة عاد إلي كالصاعقة، وقال: هيا بنا، وكانت عيناه تتقد ورجلاه تتسابق بالمشي، وكأنه كان يفكر في أمر عظيم، فقلت: ماذا يقول الطبيب عن البارونة يا مولاي؟ وهل هي في خير؟ - لو تعلم يا مكسيم؟ إن صحتها جيدة وزد عليها أنها حامل منذ ثلاثة أشهر.
صفحه نامشخص