بين الدين والعلم
بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
ژانرها
لقد أبنا في سياق هذا البحث أن العداء لا يمكن أن يقع بين الدين والعلم بصورة مباشرة، وأثبتنا فوق ذلك أن العداء لا يقع إلا بين صور اللاهوت المذهبي والعلم، لأسباب هي في الواقع ذاتية أكثر منها موضوعية؛ فإن رجال اللاهوت عندما أرادوا أن يفسروا نصوص الكتب المقدسة، ويطبقوا هذه النصوص على الحقائق الكونية جنحوا في الواقع إلى فكرة أساسية كانت السبب الكلي فيما ترى من نتائج ذلك الصراع الذي قام بين معاهد الدين ورجال العلم. وكان أول ما ذهبوا إليه وأدى إلى هذه النتائج الخطيرة قولهم بأن نصوص الكتب المقدسة لا تقبل التأويل، وأنها إنما تزودنا بمعارف الدنيا كما تؤدي بنا إلى الخلاص في الآخرة. وكان لهم في ذلك مذاهب كثيرة أخصها مذاهبهم المعروفة في علم الفلك والجغرافية والخلق وما إلى ذلك.
على أن جهلهم بحقائق التاريخ كان في الواقع من أكبر الأسباب التي حدت بهم إلى الاستمساك بمثل هذه الآراء والوقوف في مثل تلك المواقف الحرجة التي كان من شأنها أن تذيع في بعض العصور مذاهب بلغت من التطرف في الإلحاد أقصى الحدود. فإنهم لم يعرفوا مثلا أن أكثر ما جاءت به الكتب المقدسة وأكثر التفاسير التي فسرت بها تلك الكتب إنما استمدت من أساطير وخرافات ذاعت بين أمم العالم القديم، في مصر والهند وآشورية وبابل والكلدان، وأن هذه التصورات الفرضية قد نماها الزمان وانتقلت باللقاح من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة حتى أسلمت بها تطورات الاجتماع إلى العصور الحديثة محيكة في صورة كتب مقدسة هي في الواقع ليست بالدين، ولكنها مظهر من مظاهره.
لهذا لا نريد أن نتابع الكلام في وظيفة الدين بإطناب؛ لأن مجال الكلام في هذا واسع كبير. وجل ما نرمي إليه من هذه العجالة يتلخص في شيء واحد هو الاعتقاد بأن وظيفة الدين إرشادية لا تعليمية؛ لأن القول بأن وظيفته تعليمية قد يجر إلى البحث في أصل الأديان ومنشأها ومقارنة بعضها ببعض. وهذا بلا شك يؤدي حتما إلى القضاء على المهمة الأصلية التي من أجلها وجدت الأديان، مهمة الإرشاد والتأثير من طريق الوازع في سلوك الأفراد.
على أننا إن قدمنا اليوم إلى القراء كتاب «تاريخ تنازع البقاء بين اللاهوت والعلم من العصور الوسطى»، فإنما نقدمه لطبقة من الطبقات المستنيرة في أنحاء الشرق العربي مرنت على مواجهة الحقائق وسكنت إليها وعرفت أن أفضل ما يتصف به الإنسان في هذه الحياة من خلق هو البحث وراء الحقائق لذاتها والسكون إليها مهما كان فيها من المنافاة لما نشأ عليه المرء من التقاليد.
ولا ينبغي أن تمر بي هذه الفرصة دون أن أنبه على أن الأديان ذاتها إنما كانت لتعرفنا الحقيقة من طريق ما. فألواح الوصايا العشر التي نزلت على موسى وجرت عليها بقية الأديان وشرعتها للناس، قد نزلت على قلب الإنسان من قبل عهد موسى، ومضى المشرعون والمصلحون يتبعون مبادئها قرونا قبل أن يعرف الإنسان ما هو التنزيل، فإنك تجد مثلا في «كتاب الموتى» عند قدماء المصريين ألواحا كهذه الألواح عددها عشرة تماما. وتجد ما يماثلها في دين زرادشت وماني وبوذا وكونفوشيوس.
وعلى هذا فإني أعتقد اعتقادا لا يوهنه الشك بأننا إذا أردنا بعزم صادق أن نؤيد الأديان، وأن يكون لنا في هذه الحياة عقائد صالحة لأن تكون دستورا قويما في الحياة، فلنبحث عن الحقائق ولنطرد الأوهام لتقوم الحياة الإنسانية على أساس ثابت لا يدخله الوهم ولا تعمل فيها يد التقاليد.
الفصل الأول
علم الفلك
(1) النظرية الجيوسنترية: وهي النظرية القديمة المقدسة في تكوين العالم
كان التنازع على العلاقات الواقعة بين السماوات المنظورة والسيار الأرضي محورا لسلسلة من الوقائع تصادم فيها اللاهوت والعلم صداما والتحما التحاما.
صفحه نامشخص