بين الدين والعلم
بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
ژانرها
إن أول ما يلقى في روعنا هو أن نظام الكون المقدس ليس سوى تفصيلا لما أضمرت، وتضخيما لما صغرت، تلك الفكرات اللاهوتية التي راجت في الأزمان الأولى. فلم تصبح الأرض ذلك السهل المنبسط المحوط بأربعة جدران تعلوها قبة صلبة القوام، كما اعتقد لاهوتيو القرون الأولى تحت تأثير «قوزماس»، ولم تمس قرصا منبسطا تعلوه الشمس والقمر والنجوم لتمده بما يحتاج إليه من ضوء، كما صورها فنانو الكاتدرائيات الأولى، بل أضحت كرة كائنة في وسط النظام الكوني، يحيط بها عدة أفلاك كروية شفافة تديرها الملائكة حول محورها ومن حول الأرض، وكل منها يحوي جرما أو أكثر من أجرام السماء. فالأقرب فلك الأرض ويحمل القمر، ومن بعده فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس، ثم الثلاثة التي تلي هذه وهي فلك المشترى وفلك المريخ وفلك زحل. والفلك الثامن يحوي النجوم الثوابت، والتاسع هو فلك «المحرك الأول»
ويحوي الكل الفلك العاشرة أو فلك عليين، وهذا غير متحرك، وهو الحد الفاصل بين الخلق الكوني المنظور وبين الخلاء الخارجي اللامتناهي، وهنالك - في ضوء يخطف البصر ولا يستطيع أحد الدنو منه - يستوي الله في حدته الثالوثية فوق العرش حيث ترتفع إليه «وموسيقى الأفلاك» إذ هي تتحرك. وعلى هذا ترى أن الفكرة الوثنية في حقيقة الأفلاك قد انقلبت إلى فكرة مسيحية، منبثة في تضاعيف الدين النصراني.
ويقوم على خدمة «الجلالة القدسية» فوق عرشها العظيم جماعات من الملائكة وافرات العدد، تنقسم في ثلاثة منازل أو درجات: فالجماعة الأولى تقوم بالخدمة في عليين، والثانية في السماوات؛ أي بين عليين والأض، والثالثة فوق الأرض نفسها.
وكل من هذه المنازل تنقسم إلى ثلاث مراتب: الأولى تتضمن مراتب سيراف والكروبيم والملائكة المزدوجة الأجنحة التي تمثل حملة العرش، والمهمة التي يقوم بها هؤلاء هو الغناء المستمر وترتيل الحمد الدائم لله. أما حملة العرش فمنوط بها حمل إرادة الله إلى الدرجة الثانية التي يخدم أفرادها في الأفلاك المتحركة، وهذه الدرجة الثانية تتكون من ثلاث مراتب؛ الأولى: مرتبة الدومنيون وهي التي تتلقى الأوامر الإلهية، والثانية: مرتبة القوات التي تحرك الأفلاك كالشمس والقمر والسيارات والنجوم وتفتح نوافذ السماء وتغلقها، وتدبر كل الظاهرات السماوية الأخرى، والثالثة: مرتبة الحفاظ وغيرهم.
أما الدرجة الثالثة وهي أسفل الدرجات الملائكية، فتتكون من ثلاثة مراتب أيضا: الأولى مرتبة الرؤساء وفيها حفظة الأمم والدول، وبعدها مرتبة رؤساء الملائكة. وهؤلاء يقومون على حفظ الدين ويحملون ابتهالات القديسين وصلواتهم إلى أعتاب عرش الله، والثالثة الملائكة العاديون، وهؤلاء يوكل إليهم أمر العناية بالأشياء الأرضية عامة، ويناط كل منهم بواحد من أبناء آدم، ويناط آخرون بالحرص على صفات النباتات وأنواعها ثم المعادن والأحجار وما شابه ذلك. وفي خلال هذا النظام كله من عرش الله الموحد الثالوث إلى أحط مراتب الملائكة، تجد أسطورة القوة والتأثير المنسوب إلى «المثلث» ذلك الشكل الهندسي البسيط، وإلى العدد «ثلاثة». وهي بذاتها تلك الأسطورة التي أوحت بفكرة التثليث لواضعي اللاهوت الهندي القديم، ومنها نشأ معتقد التثليث عند قدماء المصريين ومن ثم نقلت هذه الهبة اللاهوتية إلى العالم المسيحي، وعلى الأخص من طريق «أتناسيوس» المصري
Athnasius .
ومن تحت الأرض تكون جهنم، وهي مثوى الملائكة الذين عصوا وثاروا تحت إمرة «إبليس» أمير سيراف، وصفي الله من قبل. ولكن من بين أولئك العصاة فئة لا تزال تزود أفلاك السيارات وتسبب للملائكة المطيعين المنيبين ألما وعذابا. في حين أن غيرهم يغشون جو الأرض فيرسلون عليها الصواعق والزوابع والقحط والجليد. وغير أولاء وهؤلاء عصبة خصت بإغراء الجماعات الأرضية يدفعونها إلى ارتكاب الرذائل والآثام. أما الأستاذ «بطرس لومبارد» والقديس «تومس أكويناس» فقد جهدا نفسيهما كل جهد لكي يثبتا أن عمل هذه العصبة الشيطانية إنما يقصد به تنظيم أعمال الإنسان، وتحديد العقوبات التي يستحقها العصاة تحديدا صحيحا، وعلى قسطاس مستقيم.
كل هذا النظام العظيم قد دس على المذهب البطليموسي بإحكام كبير، حيث استعان الآباء في سبيل ذلك بالمتون الإنجيلية وبأسلوب التفكير اللاهوتي، ولم يكن لذلك من نتيجة اللهم إلا الاعتقاد بأن نظام الكون على هذه الصورة قد أصبح غير قابل للتعديل ولا التحوير، وأنه غائي لا سبيل إلى إدحاضه، وأن القول بما يضاده أو تعمد نقده هرطقة صريحة وكفر بالله.
وظل هذا النظام ثابت الدعائم قرونا عديدة؛ حتى إن كثيرا من جهابذة اللاهوتيين مثل «فنسنت بوفييه»
Vincent of Beauvais
صفحه نامشخص