وتنحنح شوقي وأخذ يتكلم. ومشكلة شوقي في نظري أنه كان يناقش معي بطريقة، ويتكلم في الاجتماعات بطريقة. بيني وبينه كان يوافقني بإيمان على ما أقوله، وفي الاجتماعات يلبس - عن إيمان أيضا - رداء المسئول ويتكلم كالمحافظين، ولا أعرف أي الشخصين هو، وأحتار دائما بأي شيء يؤمن أو إن كان يؤمن بشيء على الإطلاق. تنحنح وقال: كلامك ده كلام فوضويين، واحنا ناس ميزتنا الحقيقية إننا ثوار منظمون. بعض الناس زيك بيعتقدوا إن الثورة فوضى، إنما الحقيقة الثورة نظام بل هي قمة النظام، وأي خروج على النظام هو عمل ضد الثورة على خط مستقيم. والنظام يعطي البارودي الحق أنه يقودنا، فإذا احنا خرجنا عن النظام وأخذنا قرارا بفصله وعزله من رئاسة التحرير كده، ولمجرد أنه بيرى أن القيادة من حقه، يبقى بنخرب، نبقى فوضويين، يبقى هو راخر ياخد قرار بفصلنا ونقعد نلطش في بعض ونحطم العمل والمجلة، دي تبقى ثورة أطفال.
وكانت أصابعه قد أوصلت السيجارة إلى فمه فأشعلها، وقد عاد إليه هدوءه وأكمل: عايز تغير الشيء غير من داخله، وبنفس قوانينه، إنما كل واحد يعمل قوانين على كيفه عشان يغير بيها اللي يغيره، ح تنقلب المسألة فوضى.
ولم أكن أسمع هذا الكلام للمرة الأولى، كنت دائما أسمعه ودائما أعرف نتيجته ودائما أضيق به، وقاطعته قائلا: يوهوه! مهوده مش معقول، إحنا عايزين تغييرات جذرية، ودي مش ممكن تحصل من داخل الشيء أبدا. علشان الشيء يتغير تغيير جذري لازم قوة خارجية هي اللي تغيره. وإذا كان قانون المجلة بيدي للبارودي الحق أنه يفضل رئيس تحرير حتى لو خرج برة البلد، يبقى هذا القانون لا يمكن يغير نفسه، لازم التغيير يتم بقانون آخر، إحنا اللي نضعه. القوانين دي مش نازلة من السماء ولا وضعها أنبياء، وضعها بشر ويغيرها بشر.
ولم يفعل كلامي أكثر من أنه زاد انفعالي، وفجأة وفي غمرة ذلك الانفعال التقى بصري بسانتي، كانت جالسة قبالتي ترقبني بعينين اتسعت حدقاتهما في مزيج غريب من الحماس والاستنكار.
ولكن نظرتها لم تكن هي الشيء الذي أثار انتباهي. رقبتها كانت هي ذلك الشيء، أو على وجه الدقة جيدها؛ إذ هناك فوق هذا الجيد بقعة حمراء أنا السبب فيها، أحدثتها محاولتي منذ ساعات أن أقبلها عنوة.
وتوقفت عن حديثي الغاضب برهة، ثم لم أدر كيف أنهيته بسرعة ولا حتى ماذا كانت إجابة شوقي عليه. كنت من لحظة أن لمحت البقعة الحمراء في جلدها قد بدأت أهوي في بئر خجل عميقة؛ أتحدث عن الثورة والقوانين والشعب بكل هذا الحماس، وأوزع الاتهامات والتقصير يمينا ويسارا، وأنا ما فعلت شيئا يذكر طوال أسابيع إلا التعلق بسانتي والغرق في مشكلتي معها.
ظللت غائبا عن الوعي الكامل بالاجتماع وبما دار فيه، أخجل وأصنع من خجلي أصابع حديدية أحاول أن أخنق نفسي بها إلى أن بدأ يطرق مسامعي حوار يدور بين شوقي وسانتي. كانت - ولا أعرف لماذا أدهشني هذا؟ - تهاجم رأي البارودي وكلام شوقي عنه، وتدافع هي الأخرى عن حقنا في قيادة أنفسنا. وكان شوقي يرد عليها، وتدرج رده كالعادة إلى الحديث عنها هي، ولم يكن حديثا، كان تأنيبا لبقا ومريرا في الوقت نفسه؛ إذ لم تكن قد أنجزت شيئا مما عهد إليها به، وكانت تتملص وتحاول أن تعتذر بمشغولياتها العائلية، وشوقي يحاول تذكيرها بحالها منذ مدة لا تزيد عن الشهر، وكيف كانت مثلا رائعا في إنجاز كل ما يكلفها به وفي إنجازه بحذق وبراعة.
كان شوقي يسألها: ماذا حدث لك؟ لم تكوني هكذا.
قلت لنفسي: أجب عنها يا سيدي الذئب، أجب أنت السبب. لماذا لا تواجه الموقف بشجاعة الرجال وتعترف؟ لماذا تصمت؟ لماذا تجبن هنا وتستذئب هناك؟
أجب.
صفحه نامشخص