ومرة واحدة اندفعت إلى نفسي تلك النشوة التي كانت خواطري قد حبستها. أبدا، من أجلي أنا جاءت، ومن أجلي ها هي ذي تعرض نفسها للحرج، يا سلام! أجمل من شعور البدو في عام مجدب حين تضن السماء بالمطر، وتتطرف عيونهم وهم يترقبون الغيث ويبتهلون لمجيئه، ويقضون أيامهم ولياليهم وهم يحلمون بذلك الرذاذ الخفيف الذي يسبق هطول المطر. أجمل من هذا كان استقبالي لرذاذ الغيرة وسانتي تجود به في النهاية، غيرتها علي، لأول مرة أحسها، ولأول مرة لا تستطيع إخفاءها، ما أطول ما انتظرت! وما أعذبه من رذاذ!
وكالبدو رحت أفتح فمي وعيني ونفسي وكل مسامي لأتلقاه، وكم استعذبت حرجها، أعذب وأجمل حرج، حرج جعلني أنسى حتى أن أسألها عن ذلك الشيء الذي نسيته. وهي أيضا كان يبدو أن ارتباكها أكبر من أن يسمح لها باختراع كذبة أو أنساها الكذبة التي كانت قد أعدتها. كانت واقفة تنظر في اضطراب تائه إلى كل شيء في الحجرة دون أن يستقر نظرها على شيء بعينه، وقالت فجأة: آه، مبروك! قالتها وهي تشير إلى صورة منقولة عن لوحة لسيزان، وكانت عندي من زمن، وكان كسلي يمنعني من عمل برواز لها وتعليقها، ولكني حين شرعت في تجميل الحجرة التي أقابلها فيها كنت كل يوم أضيف لها جديدا، وهكذا علقت اللوحة المهملة.
وأدركت أن حرجها هو الذي دفعها لتهنئتي على هذا العمل الذي لا يستحق التهنئة، وغمغمت بكلام مدغوم؛ فقد كنت محرجا أنا الآخر. ماذا أقول؟ وماذا يجب علي أن أفعل؟ وهل أحاول إخراجها من حرجها؟ وكيف أصنع هذا وأية محاولة مني لمساعدتها قد تزيدها حرجا؟
والظاهر أنه لم يكن أمامها أي حل آخر؛ فقد وجدتها تستدير خارجة وهي تردد اعتذارات مبتورة لأنها عطلتنا، مع أنه كان واضحا لها ولنا أنها لم تعطلنا في شيء.
وحين أصبحت معها في الصالة شبه المظلمة، قالت بنبرة مغايرة منخفضة، وكأن ما تقوله هو الشيء الذي كانت نسيت أن تقوله: سأراك غدا، هه؟
وكان مفروضا أن أراها في الغد دون أن تنسى، ودون أن تكلف نفسها مشقة صعود خمسة أدوار ومائة درجة، وقلت لها: طبعا. وسلمت علي. ولأول مرة مددت لها يدا ثابتة قوية لا تهتز، ولأول مرة منذ أن عرفتها أسلم عليها وأنا أحس أني أسلم على امرأة، وأني رجل، لا أعرف ماذا تريد؟ وعدت سكران حقيقة بالنشوة إلى لورا.
وظللت معها فترة طويلة تتحدث وأرد عليها، وأنا إطلاقا لست معها إنما في كون أثيري آخر لا أفقه شيئا مما يدور بيني وبينها، إلى أن وعيت مرة، وكأنما قد آن لي أن أعود من ملكوتي فأجدها تسألني: أنت طبيب أليس كذلك؟
وكانت لا تسأل بلهجة السؤال، ولكن بصيغة التقرير، ومن بقايا النشوة فاجأني الغم؛ فحتى لو كنت في حالة عادية فأنا لا أضيق بشيء قدر ضيقي بأن يسألني كائن من كان في وقت غير مناسب عن أحدث علاج للأنفلونزا، أو ما الحكمة في أخذ بعض الأدوية قبل الأكل وبعضها بعده؟
وعلى هذا ظللت ساكنا، وسمعتها تكمل: كنت أريد أن أسألك.
وسكتت سكوت المحرجة، ثم استطردت: أنت تعلم، نحن لا نأخذ تلك الأشياء في المدارس، ولكني كنت أريد أن أعرف حقيقة المسائل الخاصة بالحمل والولادة و...
صفحه نامشخص