والحقيقة لم يكن هذا هو السبب في النشوة الغامرة التي أحسست بها تملأ صدري وتشيع وتنفذ إلى كل خلية من خلايا جسدي، والسبب كان أعجب؛ فحين قابلت لورا ورأيت إعجابها بي ورغبتها في واضحة كل الوضوح، تمنيت أن نلتقي معا بسانتي لترى هذا الإعجاب الشديد، ولترى بنفسها أني لست وقفا عليها، وأن مصيري ليس معلقا بكلمة منها، وها نحن قد التقينا، وها هي لورا عن يساري وسانتي عن يميني.
وعن عمد رحت أهتم بلورا وأهمس لها وأداعبها وأوجه معظم حديثي إليها، وأقف قريبا منها في الاستراحة، وأحمل لها بيدي «شوب» البيرة الذي آثرت أن تتناوله، ولكني كنت أفعل هذا وعيوني على سانتي. وخاب أملي؛ فلم ألمح غيرة واحدة على ملامحها، وكأنها واثقة من نفسها، أو على الأقل واثقة مني وتدرك أني إنما أتصنع هذا كله وأدعيه. وضايقني هذا، وأحسست أن بذور الثقة التي كانت قد بدأت تنمو في نفسي بدأت أمام عيني تذبل وتموت.
أملي كله كان أن أراها تغير ولو مرة واحدة، فأثبت وأثق في نفسي وأتصرف بطريقة متزنة وعاقلة، بطريقة تحظى بإعجابها. كنت أحس أني أنا الذي أتحرك إلى ناحيتها باستمرار، وأنها واقفة في مكانها لا تتزحزح. وأملي كان أن تخطو خطوة واحدة فقط لأستطيع أنا أن أقف في مكاني ألتقط أنفاسي وألم شتات نفسي.
ولم يحدث شيء من هذا في الحفلة، ولا حتى حين انتهت، وتعمدت أن أرافق لورا لأوصلها تاركا سانتي لتعود وحدها.
حدث هذا فقط ثاني أو ثالث يوم، كانت سانتي قد عرفت في الحفلة أنني أعطي لورا دروسا في العربي وأننا نتقابل، وتعمدت أنا أن أخبرها أننا نلتقي في البيت، بيتي، وحين قلت هذا لمحت - أو خيل لي أني لمحت - شبح بريق سريع خاطف يعبر عيني سانتي ويكاد لا يرى.
ولا أعرف ماذا كان في ذلك البريق لأستشف منه أنها اهتمت بالخبر اهتماما خاصا، وأنها حتما ستقوم بعمل ما خطر لها لحظتها فقط، وقد تبين بعد هذا أني كنت على حق. لا بد أن الحب شيء عجيب، لكأنه يضع صلة مادية حية بين الاثنين فيجعل كلا منهما يكاد يتبين ما يفكر فيه زميله ويعرفه، ربما قبل أن تصل تلك المعرفة إلى عقل صاحبها.
وقبل أن نقترب على باب القاعة قالت لي سانتي كعادتنا كلما افترقنا: أراك غدا. وكنت باستمرار أرد قائلا: طبعا. ولكني هذه المرة تعمدت أن أتصنع التفكير ثم أقول: آه، هناك شيء، غدا سأكون مع لورا.
فقالت سانتي: آه، لقد نسيت.
وقالتها بلا اهتمام، ولكني كنت قد لمحت هذا البريق الخاطف الذي لا يكاد يرى يعبر عينيها للمرة الثانية، ولم يكن هناك داع لقولي هذا؛ فأنا لم أكن ألتقي بلورا في البيت، كنت أحتفظ به لسانتي، وكنت أتعمد الالتقاء بلورا خارجه حتى لا تتعود عليه ويصبح في استطاعتها أن تطرقه في أي وقت تشاء، وأكون بهذا قد أفسدت أهم متعة من متع حياتي.
قابلت لورا في ثاني يوم كالعادة عند حديقة الأندلس، ولكن بدلا من أن نذهب إلى النادي قلت لها: لماذا لا نذهب إلى البيت؟ وكان باستطاعتها حينئذ أن تذكرني بأنني أنا نفسي الذي رفضت البيت في أول الأمر، ولكن شغفها بما قلت لم يدع مجالا لتذكرني بشيء، أو لعلها خافت إن هي ذكرتني أن أعدل عن الفكرة.
صفحه نامشخص