ومرة أخرى وجدت نفسي جالسا إلى المكتب، وعلى الكرسي المقابل فتاة أجنبية، وبيننا كتاب المطالعة الأولية وجريدة يومية.
ومرة أخرى وجدت نفسي أصغي إلى الحلق الذي ركب أجنبيا وهو يجاهد لينطق الحاء والخاء والصاد ويتعذب ليحتوي الضاد.
وكانت المسرحية في نظري غريبة ومريرة في الوقت نفسه.
فلم أكن مع الفتاة الجالسة أمامي تدعي الاهتمام بالدروس، كنت مع سانتي، كل حرف كانت تنطقه كان يذكرني بسانتي وبطريقة نطقها لها وحركة فمها وهي تقوله، كل سيجارة كانت تدخنها كانت تذكرني بدفعات الدخان وهي تخرج من فم سانتي الصغير الدقيق في كرة صغيرة زرقاء لا تلبث أن تتمدد وتكبر وتتبدد في النهاية ببطء وعلى مهل.
ويبدو أن القادمة الجديدة بدأت تحس بما يدور في نفسي؛ فلم يفتني أن ألاحظ إحساسها بأني لست تماما معها، ولم يفتني أن ألاحظ أيضا رغبتها الشديدة أن أكون معها، ومحاولاتها المستمرة لكي يتحقق هذا. وأغرب شيء أني كنت كلما لمحت هذا ازددت بعدا عنها وقربا من سانتي، وكلما أحسست بها أكثر، خفت عليها أكثر وأكثر.
وكان الدرس يقترب من نهايته، وبدأت أدرك أني قد وقعت في مشكلة؛ فعملي ووقتي لا يسمحان لي بمقابلتها ومقابلة سانتي في يوم واحد، والمكان واحد هو بيتي؟
كان لا بد أن أكذب عليها، وقلت لها إن ترددها على البيت خطر، وإننا يجب أن نلتقي بعد اليوم في مكان آخر.
وصعقت الفتاة وراحت تقدح ذهنها لتفكر في حل للمشكلة.
ويبدو أنها يئست من إيجاد حل لها؛ فقد لمحت اليأس مرتسما بوضوح على ملامحها، وملامحها كانت بالمناسبة كالإناء الزجاجي الشفاف، لا تستطيع أبدا أن تحول بين انفعالاتها وبين محدثها.
وإمعانا أعدت عليها الكذبة وطالبتها بأن تحاول العثور على مكان آخر، ولم يكن طلبي هذا يخلو من مكر؛ إذ كنت قد أدركت من خلال ملامحها الشفافة أنها تريد مقابلتي بأي ثمن، وكنت سعيدا طبعا بهذا الحماس، وكنت أريد أن أسعد أكثر وأن أجعلها تفعل المستحيل لتلقاني وتكدح ذهنها من أجل ذلك اللقاء.
صفحه نامشخص