وأصبح كل شيء معدا لاستقبالها، الحي الهادئ، والشقة، ومكان جلستنا، والبنطلون والقميص اللذين كنت في العادة أقابلها بهما، وفنجالي القهوة الجديدين، وحتى المفرش الصغير المشغول الذي زينت به مائدة الوسط الصغيرة المنخفضة.
وكنت قد أعطيتها العنوان .
وكما توقعت تماما دق جرس الباب في الثالثة، أول جرس باب يدق.
وذهبت وفتحت الباب. كانت تقف بعيدة قليلا عن الفتحة مرتكزة إلى الحائط بطرف كتفها، وفي وجهها شحوب قليل من الإجهاد الذي يصاحب صعود السلم العالي، وعلى شفتها العليا نقاط عرق صغيرة. وكانت تلهث، أول مرة كنت أراها تلهث، وبدا لي لهثها جميلا رشيقا وكأن صدرها «أكورديون» يعزف لحنا رشيقا.
وحين رأتني ابتسمت، وتنحيت عن وقفتي في الباب وأنا أرحب بها، وما لبثت هي أن انسلت وسبقتني إلى حجرة المكتب، وحين كنت أتبعها إلى الحجرة شعرت بقلبي يدق دقة واحدة كطلقة مدفع، ثم يتوقف دقه ليعود متتابعا مضطربا عاليا. كان قلبي يفضح تفكيري، وكان معنى دقه ذاك أني مقبل على أمر خطير.
والواقع أني كنت فعلا مقبلا على أمر خطير.
كنت بعد مناقشات طويلة مع نفسي، وتفكير استغرق مني مئات الساعات، تفكير كان يشغل كل وقتي في العيادة والورش والطريق منهما إلى بيتي، تفكير منعني حتى أن أتبين عملية التعزيل التي قمت بها، تفكير وبخت فيه نفسي كثيرا؛ إذ وجدت أن الإيحاء بالحب عن طريق الخطابات وقصائد الشعر المنثور بالإنجليزية عبث أطفال وأشياء لا يلجأ إليها إلا المراهقون الحمقى، وأنا لم أكن مراهقا. كنت في الخامسة والعشرين، وأتحمل من المسئوليات ما يعجز عنه رجال في الأربعين والخمسين. وكنت قد وضعت نفسي في موقفها ورأيت أني لو كنت مكانها لما فكرت أبدا في حب شاب يلمح لي بعواطفه على تلك الصورة. قلت لنفسي: الحب بالنسبة للمرأة يعد أكبر حدث في حياتها، وحين يحدث يصبح هو كل الحياة، ولا يمكن أن تهب المرأة حياتها صدفة لإنسان ضعيف. ومن يجعل الخطابات وسيلته للاعتراف بالحب إنسان خواف ضعيف لا يمكن أن يملأ عين امرأة يستولي على نفسها أو حتى انتباهها.
كنت قد صممت على نبذ كل تلك الوسائل الملتوية، وعلى أن أعترف لها بصراحة ومواجهتها بكل شيء، وأن أتقبل النتائج بشجاعة مهما كانت. واعترافات كهذه لا تتم إلا في جو معين، وفي حالة معينة، حالة يتقارب فيها الطرفان تقاربا شديدا، حالة تخرج فيها كلمات الحب في جو أليف يلفها ويحتضنها ويعطيها طعم الحب.
ولهذا دق قلبي.
فمثل هذا الجو لا يأتي إلا بعد عناق طويل مثلا، أو قبلة أو تجاوب أكيد مشترك.
صفحه نامشخص