ورغم أن ترددي لم يأخذ إلا ومضة خاطفة إلا أن وجهها كان قد عاد إلى وضعه الطبيعي، وأصبح تنفيذ العناق أمرا صعبا.
وأراحتني عودة وجهها؛ إذ أعفتني من التفكير والتردد.
وطالت جلستنا أيضا، وطوال الوقت كان يحوم حول حديثنا شيء، ومن كلماتها اللاإرادية المتناثرة استطاع شبح احتمال أن يطرق عقلي. بدا لي أنها، وإن كانت لا تستطيع أن «تحبني» لأنها متزوجة، إلا أننا أعز الأصدقاء. وكانت تنطق الأصدقاء بطريقة يفهم منها مجازا أننا من الممكن أن نخوض مغامرة لا حب فيها، ولا داعي للحب فيها.
ونحن لا نشاهد ما نشاهد لفترة ثم نجلس لنفكر على راحتنا فيما شاهدناه، إن عقولنا تعمل دائما ولا تكف عن العمل، والاحتمالات تتوارد على تفكيرنا بنفس السرعة التي نرى بها ما أمامنا، كافة الاحتمالات، ونصدر الأحكام تلو الأحكام على ما نراه، ونغير تفكيرنا، ونستأنف الأحكام. وأحيانا نعود إلى آرائنا السابقة التي نبذناها، ونخرج لكل شيء أسبابا، ولكل سبب حجة، ويحدث هذا كله في وقت واحد. عيوننا ترى، وعقولنا تفكر فيما تراه وفيما لا تراه، وفي أشياء بعيدة جدا عن متناول عيوننا ووعينا.
وعلى هذا؛ ففي نفس الوقت الذي كنت أفكر في احتمال أنها فعلا تدعوني لمغامرة أو نزوة، وأنني من الممكن أن أستجيب وأنفذ حالا، في نفس ذلك الوقت كنت أستنكر منها هذا الموقف؛ إذ كنت أعتبر أن المغامرة معها أمر مخجل، ومع هذا كنت أحيانا أريده. فكيف بها هي الأخرى تريد نفس الأمر المخجل الذي أريده؟ هي التي أحببتها وقدستها، كيف تريد أن تخطئ؟ شكلية محضة أمام علاقتنا؛ إذ كان بوسعها أن تقول لا يمكن أن تحبني مثلما أريد، وأنا الذي ظننتها فوق مستوى الخطأ؟ خاطر مجنون؛ إذ كيف أحرم عليها ما أطلبه أنا منها؟
ولم تكن هذه هي كل الأشياء التي دارت في عقلي. كنت أنظر لها أحيانا وأقول لنفسي: كيف تجرؤ فتاة كهذه على رفض حبي؟ ماذا تحسب نفسها؟ إنها تمشي كشيتا. ألم أكن مغفلا حين كتبت لها الخطاب وأودعته كل تلك العواطف الجامحة التي لا تستحقها؟ لم أكن أومن بكل ما قلته لها في خطابي. لم أكن أدري هل ما أحسه ناحيتها حب أو رغبة أو نزوة؟ ممكن أن أكون قد كتبت الخطاب لمجرد رغبتي في كتابة عواطف خاصة لقارئة خاصة، أو يمكن لمجرد إظهار قدرتي على صياغة الجمل والكلمات والتعبير عن الحب. ولكن ماذا حدث بعد قراءة الخطاب؟ لقد تبينت كل كلمة فيه وأصبحت أومن بها وأحسها فعلا. ابتساماتها التي ينفرج عنها فمها الآن فيها دعوة. لماذا أتردد في قبولها؟ لماذا أنا خائف منها؟ يقولون إن الخواجات ليس عيبا عندهم أن يمارس الإنسان معهم علاقات جنسية. من قال هذا الكلام ومتى؟ لا بد أنه فتحي سالم الذي يكتب قصصا في المجلة. أصحيح هذا؟ لماذا لا تقوم إليها وتشبعها لثما وتقبيلا؟ لماذا لا تملك التحرك من مكانك؟ أهذا حب ما تحسه؟ لماذا لا ترغب فيها بنفس الشدة التي كانت تجتاحك في الأوبرا؟ إنها ترتدي تلك «البلوزة» المحبوكة، وقد شمرت أكمامها إلى ما فوق ساعديها. ذراعها بيضاء رقيقة فيها شحوب وعليها شعر أصفر باهت. حذاؤها أنيق جديد غال. أتكون غنية؟ أيكون أبوها خواجة صاحب أطيان، مثل الخواجة صاحب البنك الذي كان يعمل عنده أبوك في المنصورة وفصله عن عمله؟ أبوك كان يعمل كاتبا عند الخواجة الغني جدا الذي فصله في لحظة وشرده. لماذا لا تنتقم لكرامة أبيك فيها؟ لماذا لا تغتصبها فورا وتطرحها تحت أقدامك كما طرحوا أباك تحت أقدامهم؟ كل شيء فيها عادي ما عدا وجهها. ووجهها ذلك الأبيض الأملس المشرب بالحمرة، وعيناها الدائمتا الحركة والإرسال والاستقبال ... والانفعال. أحيانا تتدلل فتقبض شفتيها وتفتح فمها مظهرة أسنانها بطريقة تغري بالتهام فمها وأسنانها. ذكية هي وتقرأ أفكاري بسرعة، حتى نفس الأفكار التي تخطر بعقلي الآن. امرأة! لغز من تلك الألغاز التي لم أستطع حلها في طول حياتي وعرضها. زملاؤك الرجال تستطيع أن تقرأ أفكارهم وتعرف ما يريدون حتى دون حاجة للنظر إليهم. أما النساء! أما هذه المرأة بالذات فأدفع من عمري عشر سنوات لأستطيع أن أعرف للحظة واحدة ماذا تريد مني وماذا تفكر فيه؟ وربما نحن لا نعرف ما يردنه منا لأنهن أنفسهن لا يعرفن ماذا يردن. المرأة تنتظر من الرجل أن يكون هو إرادتها، هو الذي يريد وهي ترفض أو تقبل أو لا تعرف حتى كيف ترفض أو تقبل فتتورط. المرأة لا تريد إلا شيئا واحدا، أن تكون امرأة. لماذا لا تصنع لتلك المرأة الصغيرة الجالسة أمامك إرادتها؟ لا تأخذ رأيها! لا تنتظر أن تتحرك هي، تحرك أنت، ولكن لا أريد هذه الحركة التي تأتي لي بمغامرة عابرة حتى لو كان هذا هدفها مني، أنا لا أريد مغامرة عابرة. أنا أريد أن تحبني مثلما أحبها، وحتى إذا كان ما أحسه ناحيتها ليس حبا وإنما مزيج من عواطف مختلفة؛ فأنا أريد منها أن تشعر ناحيتي بمثل ما أشعر به ناحيتها. لن أقبل أقل من هذا. لا، يكفي فقط علامة. علامة واحدة أكيدة. إنني أعرف المرأة حين تحب. إنها لا تتصرف كمن يحب، إنها تتصرف كمن يغامر. ترى كيف كانت تحب زوجها قبل زواجها به؟ هل كانت ترتدي له قميص نوم جديدا؟ غير معقول، ترى كيف كان شكلها أيامها؟ وكيف كانت تنتظر وتبتسم وتتحدث؟ كل ملامحها وحركاتها بعيدة عني إلا حركتها بفمها حين تتدلل. إنها الوحيدة القريبة مني، ولكنها لا تفعلها لأجلي، إنها تفعل ذلك لعلمها أني أحبها وتريد أن تتدلل علي. إننا نتدلل فقط ليس على من نحبهم وإنما على من نؤمن أنهم يحبوننا. إن الصداقة التي قالتها كلمة اعتذار لا أكثر ولا أقل. إنها لا تكن لي شيئا أبدا. لماذا تكثر من التدلل؟ هل لأنها اطمأنت إلى حبي؟ ولكن، أبدا، لا تطمئني يا بلهاء، إنه ليس حبا. لقد قلت لك ذلك في الخطاب؛ لأني لم أجد كلمة غيرها تصلح عنوانا لمزيج الانفعالات التي كنت أحسها ناحيتك. لقد قلتها لأنها أسهل كلمة نعبر بها عن أية أحاسيس غير البنوة والأخوة تجاه امرأة. لا شيء هناك اسمه الحب، وأنا لا أحبك، أنا أود فقط أن أعرف إن كنت تحبينني أو تبادلينني لهفتي عليك. تحركي وانطقي وقولي شيئا! أفصحي! هدئي ذلك البركان الذي في جوفي! أنا لا أحبك، أنا حاقد عليك لأنك خيبت أملي، جرحت كرامتي، علمتني ألا أثق في نفسي ومقدرتي على إيقاع النساء في حبي. أنا كنت دائما أرهب النساء وأبعد عنهن كما أرهب أمي وأبعد عنها، ولكن كنت دائما واثقا أني لو اقتربت من إحداهن لأوقعتها في التو واللحظة برغم شكلي وابتسامتي المعوجة. يا لي الآن من خائب خائب!
وإذا كانت تصرفات الإنسان الخارجة هي انعكاسات متنكرة لخواطره الداخلية الصريحة، فممكن إذن معرفة ما قمت به من تصرفات. كنت حين أرى أنها تود المغامرة أسوق كلمة أو حكاية لأشجعها كي تمضي في الطريق وتطمئن، وكنت حين أتساءل إن كانت تحس ناحيتي مثلما أحس ناحيتها أقول شيئا يستدر العطف علي، وأراقب كلمة العطف التي تقولها وأزنها بدقة لأعرف إن كانت تحوي شيئا آخر غير العطف المجرد. وإذا رأيت انصرافها عن التفكير في، وأنت تستطيع إذا جلست إلى إنسان أن تحدد بالضبط إن كان معك ويفكر فيك أو هو يطرق بخياله ميدانا آخر، كنت إذا رأيت انصرافها عني قلت شيئا شاذا عن نفسي، مثل: أنا أكره الأطفال، ويوما كنت سأخنق ابن جارتنا الطفل؛ لأنه ظل يبكي لفترة طويلة ولم يسكنه زجري. أقول هذا وأرقب تساؤلها وأزنه لكي ألمح فيه شيئا آخر غير مجرد العجب من تصرف شاذ، شيئا آخر يدل على أنها تستعجب؛ لأن ذلك التصرف صدر عني أنا ولم يصدر عن أي إنسان آخر.
وهكذا طيلة الجلسة.
وإذا اتخذنا ما قلته عن التصرفات الخارجية مقياسا، فحين أعود بذاكرتي إلى تصرفاتها هي لا أجد سوى أنها كانت موطنة عزمها على أن الأمر مغامرة لا أكثر ولا أقل، ولكنها كانت لا تريد أن تكون البادئة ولا تريد أن تتحمل مسئولية مفاتحتي، ثم إنها كانت واثقة من «حبي» لها ولكن يبدو أن فكرتها عن الحب كانت مختلفة تماما عن فكرتي عنه، وكانت تعتقد أني أستعمل كلمة الحب لأعني بها رغبة حسية تراودني ناحيتها، ولم تكن تدري في تصورها ذاك أية أشباح مخيفة تقف عقبة في طريق مثل ذلك التفكير لدي. كانت تتصرف وكأني آجلا أم عاجلا سأضمها وأقبلها، ولكنها لا تريد أن تكون البادئة، تريد أن تستمتع بلذة أن تؤخذ ولو عنوة ولا تعلم أني في موقفي ذاك كنت آخر شخص ممكن أن يأخذها باللين أو بالعنوة. كانت تتصرف وكأنها تستعجل اللحظة التي تؤخذ فيها.
أفقت فوجدت نفسي في المجلة، كنت لا أذهب إليها في العادة إلا في التاسعة أو العاشرة بعد انتهاء عملي في العيادة، ولكني أنهيت العمل في تلك الليلة المبكرة جدا - في الثامنة أو ما حولها - وذهبت إلى المجلة. كان الباب مفتوحا ولا أحد في الصالة أو الحجرات القريبة، وأحسست بالمكان صامتا كئيبا كالبيت القديم المهجور، والمجلة لم تكن هكذا أبدا، كانت على الدوام مزدحمة بالناس داخلين وخارجين ووفود، والمناقشات لا تهدأ فيها لحظة. ولكن الظروف كانت قد تغيرت، وبدأ الخوف يمنع الكثيرين من التردد على المجلة. المترددون القليلون كانوا يزورونها خلسة، وتغير طعم المجلة حتى في أفواهنا نحن الذين نصدرها.
صفحه نامشخص