كل الذي حدث أنني نشأت أخاف منها ونشأت تخوفني، وبيننا كل ما بين الخائف والمخوف من توتر وحرج وحساب عسير. وانتقل الوضع نفسه إلى علاقاتي بكل من عرفت غيرها من النساء. أكره الضعيفة وأشمت في القوية حين تضعف، وبيني وبين الضعيفة والقوية والجنس كله صراع لا أعرف متى ينتهي ولماذا أنا سائر فيه؟ ولماذا أنا حائر مشتت بين رغبتي الشديدة فيهن وخوفي الطاغي منهن وعدم اطمئناني إلى أية علاقة قد تنشب بيني وبينهن؟ عدم اطمئنان مرجعه لا بد إلى أني كنت أشك في أحيان كثيرة بعلاقتي بأمي، أشك إن كانت أمي حقيقة؛ فلم أكن أبدا أحس أنها أمي، حتى وأنا أميل عليها لأقبلها حين كبرت وأرى التجاعيد في وجهها والشيب في شعرها كنت أكاد أفيق لنفسي وأقول: ترى أهذه حقيقة أمي؟
ومن يشك في أول علاقاته بالناس وأقربها - العلاقة الغريزية التي لا تقبل أي تساؤل أو عدم تسليم - له العذر لو تشكك في أية علاقة تنشأ بينه وبين أي إنسان. فإذا كانت الظروف قد دفعته لأن يتساءل: أهذه أمي؟ فمن باب أولى أن يظل يتساءل: أهذا صديقي، أتلك حبيبتي، أهذه زوجتي؟ وقد يقضي حياته كلها يسأل ويمضي عمره دون أن يجد الجواب، ولكن النتيجة أنه حتما سيظل وحيدا محاطا بالشك في نفسه والشك في الآخرين، بالخوف منهم وتخويفهم، بسور من جهنم الدنيا المريع.
كنت دائما أفتقد أمي في مظاهر الترحيب بي، ودائما أذهب وأصالحها، ودائما تقبل صلحي على مضض، وكنت ما أكاد أصبح في قلب بيتنا، البيت المهدم ذي الطلاء الأبيض المصفر المتهالك، والكلب العجوز والحوش المهمل، ما أكاد أصبح وحولي كل هذا حتى أفيق، وكأننا نحيا في المدينة في حلم طويل لا نفيق منه إلا حين نعود إلى قرانا. وهناك نجد الحقيقة، هناك ندرك أننا فقراء مطحونون نتستر بالحيل لنعيش. إننا في المدينة نحاول أن نبدو كأهل المدينة، ولأننا لسنا منهم لأننا فلاحون، نحاول أن نبزهم ونتفوق عليهم في ملبسهم ومعيشتهم وكأنما لندفع تهمة الفلاحين عنا، حتى إذا عدنا وجدنا حقيقتنا الجرداء. وجدنا أصلنا وأقاربنا وجلابيبهم الرثة المرقعة، وإخوتنا الحفاة، وأمهاتنا وهن يدارين البيضة ويبعنها للصرف على بيوتنا. حين نعود نجد هذا، ونجد نفس المشاكل التي غادرناها لا تزال قائمة ولا تزال بغير حل، ونفس الكلمات والمجاملات التي من كثرة ألفتنا لها مججناها وأدركنا من زمن بعيد أنها لا تعني شيئا على الإطلاق. حين نعود ونجد هذا كله نحس أننا هبطنا من سموات أحلامنا إلى الأرض العارية، الأرض التي تبدو لنا المدينة منها كعالم جميل مفقود أفقنا منه لنبدأ نؤنب أنفسنا ونعجب من تصرفاتنا. كيف كنا نجرؤ على صرف الجنيه بكل تلك البساطة، والجنيه هنا شيء ضخم كبير ممتنع كنجوم السماء. الجنيه هنا حياة كاملة، ثروة وضياعه مصيبة وحادثة قد يظل صاحبها يذكرها حتى الممات.
ما أكاد أصبح في قلب بيتنا حتى أفيق وأحس أنني مجرد آثم يلهو في المدينة وأهله هنا حفاة عراة غلابة طيبون، ينظرون له وكأنه إله، وكأن قوة خفية قد رفعته عنهم وفضلته عليهم، يرون أنه لم يعد منهم، أصبح أفنديا يحجبون عنه - وهم أهله - أسرارهم، ويحاولون إخفاء ما بهم من عيوب، يعاملونه وكأنه لم يعد ابنهم، أخذته المدينة منهم وأصبح ابنها هي.
وحتى حين أفيق وأندم وأحس بجرمي لا أستطيع أيضا أن أفعل شيئا، وكأنما لعنة حلت بي وغيرتني إلى الأبد. كل ما أحسه أني بين قوم غرباء أتفرج عليهم ويتفتت قلبي من أجلهم، ولكني أدرك أن قد أصبح بيني وبينهم شيء، أصبحت أمت إلى عالم آخر مختلف تماما عن عالمهم ودنيا غير دنياهم، دنيا أحس خجلا شديدا منها وأنا في دنياهم، أحس بالمدينة والحياة فيها كأنهما معصية كبرى ارتكبتها ومواظب على ارتكابها ويبدو أنني لن أتوب، ارتكبتها حين انسقت وراء أهلها أتطبع بطبائعهم وآكل مثلهم وأحيا حياتهم.
ما من مرة كنت أعود فيها إلى بلدتنا إلا وتنتابني أحاسيس كتلك، أحاسيس تخف وطأتها وأتعود عليها عاما بعد عام. وفي تلك المرة أيضا كانت تحفل بها نفسي وأنا جالس وحولي عائلتنا، أستقبل أقربائي وأصدقائي الذين جاءوا يهنئونني بالقدوم، وأنا أعيد على الناس والناس تعيد علي، وحتى وأنا أحاول المحاولات اليائسة الأخيرة للفوز برضاء أمي ودعواتها، ووجهها جامد لا ينفك، أحاول أن أقرأ فيه بادرة حنان واحدة تعزيني عن الحنان الذي افتقدته وأنا صغير فلا أجد، تماما كما ظللت أفعل من سنين وأفشل، ويدفعني الفشل إلى البحث عبثا عن الحنان في إخوتي وأبي، فأجد بعض العزاء ولكنني لا أجد الحنان كله؛ فحنان الأم يبدو أنه كلبنها لا يقوم مقامه بديل، ومن لم يذقه من المؤكد أنه سوف يظل يبحث عن طعمه لدى الناس أجمعين، ومن المؤكد أيضا أنه لن يعثر له على أثر أو بديل.
لم تتعد الأيام التي قضيتها في البلدة يومين أو ثلاثة، وطوال تلك الأيام كانت سانتي تحيا معي باستمرار. كنت أنظر إلى أبي الطيب وإخوتي وأمي والفلاحين أبناء البلدة، وأرى التراب والمرض والفاقة والخراب وأقول لنفسي هناك، في مكان ما من هذه الدنيا جنة صغيرة مخبأة لي، هناك تلك الفتاة الحلوة ذات الإشعاعات، هناك سانتي.
كنت أقارن بين ما أراه حولي وبين تلك الصورة السرية التي خبأتها في نفسي لا يعرفها أحد ولا تصل إليها عين إنسان، فأحس بالدفء، وكأنني أحتفظ برغم كل ما كنت أراه بكنز خاص بي لا تفتحه إلا كلماتي أنا، كنز ساحر براق يملؤني بالغنى والسعادة ويرسل أنوار أمل في كل ما كنت أراه، وكل ما كنت أراه كان يبدو لي خاليا تماما من الأمل. وكل يوم يمضي وكل ساعة تمر تركز صورتها المخفاة وتلهبها وأحس بها أكثر، وأرى فيها شيئا غامضا رائعا جذابا يهيب بي أن أحيا، ويجعلني أجد للحياة مذاقا وطعما، أجمل طعم ومذاق.
وكان يوم الأحد ثاني أيام العيد.
وثاني أيام العيد في الأرياف شيء مقدس كأول يوم فيه.
صفحه نامشخص