ودخلت سانتي ضاحكة، ووقفت وقابلتها ضاحكا أنا الآخر، عازما عليها بالغداء، وفوجئت بها تقبل وتوقعني في حيرة عظمى، فلم تكن شقتي مجهزة بأدوات طعام تليق بها أو بأي إنسان آخر سواي. ثم إن الطعام نفسه لم يكن يصلح ليقدم للضيف؛ فهو طعام شاب أعزب يتناول مرتبا لا يزيد على العشرين جنيها إلا بضعة قروش. قبلت سانتي وجلست تأكل معي وأنا خجل أردد تلك الكلمات التي نقولها لنعتذر بها في لهجة مهذبة عن فقرنا وحاجتنا، اعتذارات هدفها أن نبدد عن أنفسنا فكرة الحاجة والفقر، ولكنها مضت غير عابئة بكلامي تأكل بشهية متفتحة وتثني على طهي أم عمر، الواقفة قريبا منا كالديدبان الحارس، المتلهفة على رأي الخوجاية في طهيها، القائلة بعدما ترجمت لها ذلك الرأي: بالهنا والشفا يا بوي، والله يا سي يحيى البنت دي طيبة وباين عليها العز، إنما مش عارفة خايفة عليك منها ليه يا بوي، ما تزعلشي أهو كلام من كلام خالتك أم عمر الفارغ، بالهنا والشفا يا بوي.
وفي الواقع لم يكن هذا أنسب وقت لكلامها الفارغ؛ فقد كنت غارقا فيما أنا فيه من حرج، وفي عشرات الأسئلة التي مضت تحوم في عقلي عن سانتي وكنهها ومن هي وماذا تعمل وما هي حكاية زواجها ذلك.
وانتهى الطعام.
وجلسنا ندخن السجائر ونحتسي القهوة، وهمي كله أن أراقب سانتي وهي تدخن السيجارة وتأخذ الرشفات، ولا أعرف لماذا ننظر إلى المرأة وهي تدخن تلك النظرة الغريبة التي يختلط فيها الإعجاب والدهشة والاستحسان ببعض الاستنكار أيضا. ما أعرفه أني كنت أتلهى بمراقبتها عن الأسئلة الكثيرة التي تتزاحم على لساني لتنطلق وتجد إجابات شافية مقنعة لها. كانت متناقضات كثيرة غامضة تكتنف سانتي. كانت أحيانا تبدو كأنها غنية غنى فاحشا، وأحيانا تبدو في زي الكادحات. كانت تتحدث بالعربية في انطلاق من يعرفها أحيانا، وأحيانا لا تعرف معنى أبسط الكلمات. كانت تقول إنها تعمل، ولا يبدو عليها أنها تعمل أو أن هناك حاجة تدفعها للعمل. وبالأمس عرفت بشكل قاطع أن لها على الأقل زوجا، ومع هذا فلم تذكره مرة واحدة في حديثها معي ويكاد لا يبدو عليها الزواج، وها أنا ذا أتأكد الآن أن هناك دبلة في يدها اليسرى كأن ما رأيتها قبلا.
أسئلة كنت أمنع انطلاقها، وأمنع حديثنا أن يقترب منها مخافة أن تأتي الإجابة عليها أو على أحد منها بعقبة ضخمة تقف بيننا وأوجدها أنا بحب استطلاعي الغبي. لماذا أسألها؟ ولماذا أحاول معرفة أي شيء أكثر من أنها هنا معي، جاءت من أجلي وجالسة تتحدث إلي؟
ولكن الأسئلة التي منعت لساني أن ينطلق بها لم أستطع أن أمنع سانتي من أن تقرأها مرتسمة بكل تفاصيلها فوق ملامحي. لا بد أن هذا ما حدث، ولا بد أنه السبب في ذلك السكوت الذي وجدناه قد خيم على جلستنا، وفي الخجل القليل الذي اعترى سانتي وهي تقطع السكوت وتقول: لعلك لم تدهش حين عرفت أني ...
وتوقفت عن الكلام، ورسمت تساؤلا ضخما على ملامحي، فمضت تقول: إني متزوجة.
قلت وأنا أضحك وكأني أتحدث عن شيء آخر: أبدا! لم أدهش.
ولكن بعد قليل وجدت نفسي أعود للضحك فجأة وأقول: الحقيقة أني دهشت؛ فلم يكن يبدو عليك، إنه شيء لا يستطيع الإنسان تصديقه بسهولة.
قالت: ومع هذا فأنا حقيقة متزوجة.
صفحه نامشخص