ولم تفعل الموسيقى أكثر من أنها مضت كنار المدفأة الهادئة أو كحرارة أفران الخمائر راحت تسوي أفكاري على مهل وتنضجها وتساعد على تفاعلها. أشياء كثيرة أصبحت تشغل بالي، أشياء ليست متعلقة بالمجلة وسياستها فقط، ولكنها عموميات تبدو المجلة جزءا صغيرا من أجزائها.
هذا النقاش الذي دار مع البارودي أنا نفسي كنت أعجب له، لم أكن قبلا أفكر هكذا، بل قبلا لم أكن «أفكر» أبدا. كنت أحيا كالسهم المطيع المندفع، ولكني أردت أم لم أرد، ها أنا ذا قد وصلت إلى مرحلة بدأت أفكر فيها، لم أعد أهضم إقدامي على عمل ما لم أكن مؤمنا تماما بصحته، وأمثالي لا يرحب بهم أمثال البارودي كثيرا. إنهم متعبون، أو كما درجوا على تسميتهم «مثقفون ليبراليون»، يفكرون لأنفسهم بأنفسهم، وهم يريدون جنودا وعساكر لينفذوا فقط ما يفكرون هم فيه، ويريدون جيشا هم وحدهم أصحاب الحق في أن يفكروا له، وما على البقية إلا السمع والطاعة، يريدون «جسدا» لهذا «العقل المفكر».
وحتى حين أمرت نفسي بالتنازل عن كل آرائها وأفكارها وعدت، كنت أخدع نفسي؛ فمن تعود أن يفكر لا يمكنه أبدا إلا أن يظل يفكر، بل ما أكثر ما تمنيت أن أناقش البارودي مرة مثلا فيقنعني بخطئي وأعود كما كنت. ولكن نقاشي معه كان يزيدني اقتناعا بصوابي وبضرورة أن أستمر في طريقي، ورغم هذا أظل أتمنى أن يثبت في النهاية أني أنا المخطئ وأنهم كانوا على صواب، أتمنى أن يثبت أن خطأهم صواب وأن صوابي خطأ، وأن ينجحوا هم وأفشل أنا؛ ليكون هذا عزائي عن عدم قدرتي على عصب عيني وعقلي والمضي معهم في طريق واحد.
ونفس الموقف تجاه سانتي؛ فأنا أعذرها في موقفها مني وأعذر نفسي في موقفي منها. أنا حائر معها وهي حائرة معي، أريد استئصالها من نفسي لأريحها وأريح نفسي فلا أستطيع، وأتعب وأتعبها معي. ثائر على ضعفي تجاهها ثورة عظمى، وثائر على قوتي التي تقف عاجزة أمام هذا الضعف ثورة أعظم. أحبها بضعفي وأريد قتل هذا الحب بقوتي فلا تستطيع هي أن تمد يد العون لتغلب ضعفي على قوتي أو تغلب قوتي على ضعفي.
وها أنا ذا كالتاجر الذي لم يعد يعرف مكسبه من خسارته، كلما خلا إلى نفسه أو كلما عزلته الموسيقى أو الوحدة أو الحياة عن واقعه وعما حوله؛ أخرج دفاتره القديمة وأوراقه ومضى يعد ويحسب، ويخرج من عده وحسابه كما يخرج كل مرة دون أن يصل إلى نتيجة أو قرار.
18
قبل أن أغادر البيت إلى عملي في الصباح، كان شوقي قد جاء ليستصحب البارودي لحضور اجتماع على مستوى عال، وحين أصبحت وحيدا أو بعد عني البارودي بمناقشاته وملاحظاته بدأت أفكر في التراجع، وفي أن أكتب خطابا آخر لأمي وأختي أطلب فيه عدم الحضور ليظل هو معي، لا للأسباب التي أنبت نفسي عليها في اليوم السابق فقط، ولكن لأني من طريقته في نقاشه معي عن سانتي أدركت أنه لم يأخذ كلامي عنها ببراءة، وأن من المستحسن أن أنفي له ما قد يتصوره من ظنون وأن يبقى معي في البيت ليرى بنفسه أن تردد سانتي علي ليس فيه ما يدعو إلى الشك.
كنت قد قررت هذا، وفقط ظللت أنتظر إلى أن تتجمع جرأتي وأستطيع أن أنفذ القرار.
ولكني فوجئت بقرار آخر غير إرادتي، لم يكن لي على بال.
فقد عاد البارودي في الظهر مع شوقي، وتناولنا الغداء معا، ومكث شوقي بعد الغداء قليلا ثم مضى.
صفحه نامشخص