وبصعوبة وصلت؛ فقد كان علي ألا أسأل، والشوارع في تلك البقعة لا تزال جديدة لم تركب لها اللافتات بعد، بل أسماؤها لا تزال محل خلاف، والسكان معظمهم لا يعرفون بعضهم بعضا.
وطرقت الباب تلك الطرقة التي كنا متعارفين عليها، وفتحت راقية زوجة شوقي وهي كعادتها تضحك، وما كاد الباب يفتح حتى فوجئت بضجة لم أكن أتوقعها، ضحكات خافتة وأصوات أناس يتحدثون كلهم في وقت واحد، وصراخ بنت شوقي ذات الستة الأعوام. وحين دخلت لم أستطع أن أحدق في الموجودين أو التعرف عليهم، انتابني كالعادة ذلك الوجل الذي ينتابني حين أواجه جماعة، ومع هذا كنت قد لمحت البارودي، كان جالسا في ركن يتحدث بصوته المنخفض وابتسامته الطفلة، وملامحه هي هي التي أعرفها لم تتغير وإن كان وزنه قد زاد قليلا ووجهه امتلأ امتلاءة المفرج عنهم بعد سجن طويل.
وأحسست بكل حبي له يتجمع في الصيحة التي أطلقتها: حمد الله ع السلامة.
وتوجهت إليه وفي غمرة الانفعال الدافق عانقته وقبلته وحملته من فوق الأرض، وهو يبتسم ويقول: ازيك يا يحيى، ازيك يا راجل؟
وكان جو الحفل قد انقطع بمجيئي، ولكن الجميع سرعان ما عادوا إلى ما كانوا فيه، وكل الحاضرين كنت أعرفهم، والحقل متواضع جدا، عماده بضع زجاجات بيرة وطعام قليل أعدته راقية، وأحاديث كثيرة نصفها ضاحك، والبارودي الذي كان نجم أية مناسبة كتلك، هو الذي يعزم ويتحرك وينكت ويخلق الجو الصاخب المرح بطريقة لا يمكن أن تعتقد معها أنه هو نفس البارودي الزعيم الخطير، هذه المرة كان جالسا صامتا يزوغ من أسئلتنا عما حدث له في السجن، وأحيانا يتطوع برواية أشياء صغيرة غريبة عن الطعام أو المهازل التي كانت تقع في أثناء الذهاب إلى الحمام.
وما كادت تمضي بضع دقائق حتى كانت كل وساوسي قد زالت، وحتى كنت مرة أخرى أحس أني في حضرة البارودي الذي عرفته دائما والذي لم يغير منه السجن جزءا واحدا من تفصيلاته، وحتى كنت أحس بسعادة حقيقية مبعثها إحساسي بالعودة إلى الحياة وسط مجموعة مترابطة قوية أكن لها أقوى الحب ويملؤني وجودي بينها بالفخر، ما أروع الانتماء! كل ما يحدث أنه في أحيان - كأصوات الطلقات البعيدة - يدهمني شعور مربك، ترى ماذا يحدث لو عرف هؤلاء جميعا قصة علاقتي بسانتي؟ أي خزي يصيبني حينئذ وأي عار؟! وكلما حدث هذا كان رد الفعل عندي يقوى، وأحس أني كنت في كابوس طويل علي أن أستيقظ منه، وفي الحال يجب أن أخرج سانتي من حياتي تماما وأعود كما كنت نقيا مستقيما كحد السيف.
وفي لحظة حماس مددت يدي في جيبي وعددت ما فيها من نقود، وجدته مبلغا أكثر قليلا من الثلاثة جنيهات، فقمت وانتحيت بالبارودي ركنا وقلت له هامسا: أنا ما قدرتش أجيب هدية، إنما الهدايا بيننا ممكن تأخذ شكل القرض، خذ دول.
ومددت له يدي مقبضة بالجنيهات الثلاثة، فقال وهو يبتسم بلا خجل: متشكر جدا، إيه الكرم ده!
ومد يده، واستغربت؛ فقد ظل يمدها في اتجاهات كثيرة دون أن تقابل يدي، فقلت له: خد يا أخي ... مالك؟
فقال وأغرب شيء ما قاله: إيدك فين؟
صفحه نامشخص