الحصر من فوت درك الحاجة. والناس لا يعيرون الخرس، ولا يلومون من استولى على بيانه العجز. وهم يذمون الحصر، ويؤنبون العيّ، فإن تكلفا مع ذلك مقامات الخطباء، وتعاطيا مناظرة البلغاء، تضاعف عليهما الذم وترادف عليهما التأنيب. ومماتنة العيّ الحصر للبليغ المصقع، في سبيل مماتنة المنقطع المفحم للشاعر المفلق «١»، واحدهما ألوم من صاحبه، والألسنة إليه أسرع.
وليس اللجلاج «٢» والتمتام، والألثغ والفأفاء، وذو الحبسة والحكلة «٣» والرتة «٤» وذو اللفف «٥» والعجلة، في سبيل الحصر في خطبته، والعييّ في مناضلة خصومه، كما أن سبيل المفحم عند الشعراء، والبكي «٦» عند الخطباء، خلاف سبيل المسهب الثرثار، والخطل المكثار.
ثم اعلم- أبقاك الله- أن صاحب التشديق والتقعير «٧» والتقعيب من الخطباء والبلغاء مع سماجة التكلف، وشنعة التزيد، أعذر من عييّ يتكلف الخطابة، ومن حصر يتعرض لأهل الاعتياد والدربة. ومدار اللائمة ومستقر المذمة حيث رأيت بلاغة يخالطها التكلف، وبيانا يمازجه التزيد. إلا أن تعاطي الحصر المنقوص مقام الدرب التام، أقبح من تعاطي البليغ الخطيب، ومن تشادق الأعرابي القح وانتحال المعروف ببعض الغزارة في المعاني والألفاظ، وفي التحبير والارتجال، إنه البحر الذي لا ينزح، والغمر الذي لا يسبر، أيسر من انتحال الحصر المنخوب إنه في مسلاخ «٨» التام الموفر، والجامع
1 / 35