وأوضح مذهبه هذا بقوله: «فالقصد في ذلك تجنب السوقي والوحشي، ولا تجعل همك في تهذيب الألفاظ وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني. وفي الاقتصاد بلاغ وفي التوسط مجانبة للوعورة وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه» «١» .
وينظر الجاحظ في أصل اللغة، ويذهب إلى أنها توقيف، أو وحي من الله. فجد العرب إسماعيل بن إبراهيم ألهم العربية على غير التلقين والتمرين وهو في الرابعة عشرة من عمره. ويقدم عدة أدلة على أنها توقيف: منها كلام عيسى في المهد، وإنطاق الله يحيى بالحكمة صبيا، وكلام حواء وآدم. ومعنى ذلك أن الإنسان يحتاج ليتفاهم مع بني جلدته إلى اللغة، وحواء وآدم لم يعلمهما أحد اللغة، فكان لا بد من أن يلهمهما الله إياها. وإذا لم يكن إسماعيل أول عربي تكلم العربية فينبغي أن يكون ثمة أب آخر للعرب كان أول عربي من جميع بني آدم تكلم العربية. ومنها ما تفوّه به ذئب اهبان بن أوس، وغراب نوح وهدهد سليمان، والنملة وحمار عزيز وقد أنطق الله هذه الحيوانات بقدرته وسخرها لمعرفته، فلم لا يكون الإنسان مثلها قد أنطقه الله بمشيئته؟
ويربط الجاحظ تعلم اللغة بالمعرفة، ويذهب إلى أن الإنسان يعرف الأمور طباعا بواسطة ما منحه الله من ذكاء، ولا يحول دونه والمعرفة سوى موانع كالأخلاط الأربعة وسوء العادة والشواغل العارضة وخرق المعلم وإذا أزال الله تلك الموانع وصفى ذهن الإنسان وقعت المعرفة «٢» .
وثمة دليل آخر على أن الله مصدر اللغة، هو وجود ألفاظ في القرآن لم يعرفها عرب الجاهلية، إنها من اختراع الله الذي أوحى بها إلى النبي. يقول مشيرا إلى ذلك: «وقد علمنا أن قولهم لمن لم يحج صرورة، ولمن أدرك
1 / 19