إهداء الكتاب
لمحة من حياة المؤلف رحمه الله
دمعة وعهد
تمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الوثائق السياسية الرسمية
تعليقات
بعض مراجع الكتاب
إهداء الكتاب
لمحة من حياة المؤلف رحمه الله
دمعة وعهد
تمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الوثائق السياسية الرسمية
تعليقات
بعض مراجع الكتاب
البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام 1832
البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام 1832
تأليف
داود بركات
المؤلف.
إهداء الكتاب
إلى مصر العزيزة التي أحبها داود من صميم قلبه فضمته هي في صميم قلبها.
إلى أبطال مصر من عهد محييها محمد علي باشا إلى عهد حفيده فؤاد الأول أمد الله في عمره.
إلى أصدقاء داود وصحبه وإخوانه.
إلى روح داود التي أفرغ منها في كل سطر من هذا الكتاب نفثة.
أهدي هذه الصفحة المجيدة من تاريخ البطولة المصرية.
بركات بركات
لمحة من حياة المؤلف رحمه الله
في صباح اليوم الثامن من شهر ديسمبر سنة 1867 ولد داود بركات في بلدة «يحشوش»، إحدى القرى الكبيرة في فتوح كسروان في لبنان، وتلقى وهو في عهد الطفولة مبادئ العربية والسريانية والإيطالية واللاتينية على عمه المرحوم الخوري يوسف بركات الذي كان من حاملي ألوية العلم والأدب، ودخل بعد ذلك مدرسة المحبة في بلدة عرامدن، وهي مدرسة قديمة كانت تتقن تعليم اللغة العربية على الخصوص. ثم انتقل منها إلى مدرسة الحكمة في بيروت، وهي المدرسة المشهورة بتخريج العلماء والكتاب والشعراء حتى لا يكاد يخلوا قطر في العالم من خريجيها، فكان داود من أنبغ تلامذة العلامة المشهور المرحوم عبد الله البستاني.
ولما أكمل دروسه - وهو لا يزال في سن المراهقة - تولى التعليم في مدرسة «بير الهيت» من المدارس المحلية في لبنان، ولكن المحيط الأدبي كان في نظره ضيقا، فهجر لبنان وجاء إلى مصر حيث التحق بإحدى الوظائف الحكومية في مديرية الغربية، وظل فيها سنة تقريبا ثم انتقل بعدها إلى التدريس في مدينة زفتى.
ولما كان يميل بطبعه إلى الكتابة، فقد كان ينشر في الصحف بين حين وحين بعض الكتابات في شتى الموضوعات، إلى أن حدثت فاجعة في زفتى فالتهمت النار منزل أحد الأعيان. عندئذ أثرت الحادثة بنفسه، فكتب عنها إلى جريدة المحروسة مقالا أعجب به صاحبها، وكان ذلك سببا لاشتراك الفقيد في تحريرها من مدة الزمن.
ولم يطل عمله في المحروسة، فأنشأ مع صديقه الشيخ يوسف الخازن وابن عمه الأستاذ إبراهيم بركات جريدة الأخبار التي راجت في ذاك العهد رواجا كبيرا.
وفي سنة 1899 انتقلت الأهرام إلى القاهرة، فتولى رئاسة تحريرها، وظل فيها إلى أن وافاه القدر المحتوم في 4 نوفمبر سنة 1933 في منتصف الساعة العاشرة صباحا.
هذه لمحة موجزة لحياة الفقيد، ولو حاولنا التبسط في الكتابة عنها من الوجهة الأدبية والخيرية والعلمية ... إلخ، لملأنا مجلدا بأكمله. رحمات الله عليه!
دمعة وعهد
أي داود ...
ظننتني وأنا أبكيك حولا كاملا أن الدمع قد يطفي شيئا من حر قلبي، ولكن الظن خاب، وما كان من نار الحزن إلا أن زادت سعيرا، والدمع يا أخي يجلب الدمع!
ها هو العام يمضي ونحن نعيش بدونك.
نتلمسك في البيت صباحا فإذا البيت كئيب يندبك، ونترقبك في العش ليلا فإذا بالعش خال إلا من الزغاليل، تصيء بعد فقد عميدها، وتميل إلى بعضها ليصعد كل منها مع الآخر زفرة تتصاعد وتعلو ثم تعلو إلى أن تبلغ السماء حيث أنت، ولكنها بعد ذلك تضمحل وتخفت وتتبدد في اللانهاية وأنت ساكن ساكت، وما عودتنا من قبل صمتا وإعراضا!
أخي داود!
ما غيبك الجدث ولا القبر طواك، بل أنت ماثل أمام العين، وستظل ماثلا ما دام في العين نور وفي القلب خفقة.
وما أزال ولن أزال أترسم خطاك متخذا طريقي طريقك ومقتفيا في الباقي من حياتي أثرك إلى أن يجمعني الله بك.
وكانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حيا
ما نسيت قط يا أخي عندما كنت أخلو إليك في البيت أو في الطريق أو المكتب أو أي مكان آخر ما كنت تطلعني عليه مما يجول في صدرك من شتى الموضوعات والرغبات، وتحدثني عما ترتاح إليه نفسك في مختلف مناحي الحياة وما يضيمها ويزيد في متاعبها.
وإن أنس لا أنسى رغبتك في أن يكون تاريخ «البطل الفاتح إبراهيم» مجموعا في سفر واحد بعد أن كنت قد نشرته فصولا في الأهرام.
وها أنا الآن - وقد ربيتني كما ربيتني - أبر بوعدي لك بتنفيذ رغبتك، وأجمع - على قصوري - هذا التاريخ المجيد، فأجعله خير إكليل أضعه على قبرك في مثل هذا اليوم الذي شاءت العناية أن تختطفك فيه منا، ويا ليت الناموس الطبيعي كان قد لها عن تدوينه في حياتنا وفي سني العمر.
نعم ها أنا أسجل بنشر هذا التاريخ حبك لمصر وتفانيك في خدمتها، فلعلي بذلك أكون قد قمت بشيء من واجبي نحوك وواجبك نحو وطنيك: لبنان ومصر خاصة والشرق عامة.
فتقبل يا أخي داود، مع الدمع الذي أذرفه على قبرك، ما قد فعلت تنفيذا لرغبتك، وارقد بسلام يا شقيقي الحبيب.
وإلى الملتقى.
صباح 4 نوفمبر سنة 1934
بركات بركات
مقدمة الكتاب
روحان تآخيا في الحياة فلم يفصم الموت تآخيهما: أنطون الجميل، وداود بركات.
وها هو الأستاذ الكبير أنطون الجميل بك يفرغ من عواطف نفسه تحية إلى داود في تاريخ «البطل الفاتح إبراهيم».
فهل هناك خير منها مقدمة للكتاب؟ ***
داود بركات ...
حال الحول على وفاته، ولا يزال اسمه ملء الأفواه والأسماع، ولا تزال الحسرة عليه ملء الجوانح والقلوب.
كل يذكره بحسنة من حسناته، حسب الجانب الذي عرفه من جوانب حياته: فالكثيرون يذكرون فيه الصحفي اللبق والكاتب الفياض القريحة.
والكثيرون يذكرون فيه الصديق الأمين والخل الوفي.
والكثيرون يذكرون فيه رجل النجدة والمروءة والهمة القعساء.
أما أنا فأذكر فيه كل ذلك؛ لأني عرفته من جميع هذه النواحي مدة ربع قرن؛ فقد كان أول من قرأت من الصحفيين الذين يعالجون الموضوعات القومية العامة، وقد كان لي طول هذه السنين الصديق الودود، بل الأخ العطوف. ولطالما خبرت غيرته ومروءته واستعداده لتلبية من يستنجده.
عرفت فيه ذلك كله، فكان حزني عليه بقدر ما عرفت وما خبرت، وكان حزنا مضاعفا لأنه اشترك فيه العقل والقلب، وما كانت الحوادث في كل يوم من هذه السنة إلا لتجدد ذكراه وتثير عاملا جديدا على الأسف عليه.
وإذا كنت قد دعيت اليوم لكتابة هذه السطور في صدر هذا الكتاب، فقد تلقيت هذه الدعوة بالشكر والحمد؛ لأنها أتاحت لي الفرصة لأقوم بواجب الذكرى وواجب الوفاء، فأظل ذاكرا وفيا له بعد الممات، كما كان لي وكنت له في الحياة. •••
هذا الكتاب حسنة من حسناته، أودعه شيئا من حبه لمصر؛ وطنه المختار، ومن إعظامه لبناة مجده ورجالاته، كما أودعه شيئا من حبه للبنان وطنه الأول وتعلقه بتقاليده وعاداته. فلقد طالما سعى وكتب لتوثيق عرى الوداد والولاء بين القطرين الشقيقين، ولم يكن أحق من «إبراهيم الفاتح» في تمثيل القطرين في شخصه؛ فقد كان سيفه صلة الوصل بينهما، كما كانت أقلام الكتاب فيما بعد موثقة لهذه الصلة. وإذا كان تمثاله قد قام في قلب العاصمة المصرية يذكر بفتوحه وانتصاراته، فإن له في قلوب الناس في الديار الشامية تمثالا يذكر بعدله وإصلاحاته.
كان إبراهيم من أبرز الشخصيات في تاريخ الشرق العربي الحديث ومن أبسل قواده. قاد الجيوش المصرية المظفرة في حروب الوهابيين والمورة والشام. ولعل فتحه الشام كان من أكثر أعماله توفيقا وأبعدها أثرا، فقد سار فاتحا، والنصر معقود بأعلامه، من غزة إلى عكا إلى دمشق إلى حمص إلى حلب، وتخطى تخوم سوريا إلى آسيا الصغرى، من أطنه إلى طرسوس إلى أزمير فقونيه، وهو يهزم أو يأسر جيشا بعد جيش حتى أصبح يهدد الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية.
هذا هو الفتح المجيد الذي رأى المؤلف - رحمه الله - أن يدون حوادثه ووقائعه ونتائجه السياسية والاجتماعية في فصول متتالية نشرها منذ ثلاث سنوات في «الأهرام» لمناسبة مرور مائة عام على فتح الشام.
كان الفقيد من أغزر الكتاب مادة وأجودهم قريحة وأخصبهم إنتاجا، ولو قام من يجمع الفصول والمقالات الشائقة التي دبجتها يراعته، في مختلف الموضوعات، في «الأهرام» وفي غيرها من الصحف مدة ثلث قرن، لتوفر لديه مجلدات ضخمة في السياسة والعلم والأدب والاجتماع. ولكن فصوله هذه التي ضمتها دفتا هذا الكتاب قد تكون خليقة بالنشر قبل سواها لعلاقتها الروحية الوثيقة بما وقف عليه حياته من خدمة القطرين اللذين جمع إبراهيم باشا بينهما بروابط سياسية تمكنت السياسة من فصمها بعد حين، وبروابط أدبية ومعنوية لم يكن مرور قرن كامل ليضعفها.
ما حدثت الفقيد يوما في وجوب جمع بعض آثاره العلمية إلا ابتسم معرضا. أما فصوله المجموعة في هذا الكتاب عن البطل الفاتح فقد كان يبتسم مرتاحا إلى نشرها، وكان قد بدأ يأخذ العدة لذلك بنفسه عندما عاجلته المنية.
لذلك أحسن شقيقه الأبر، الأستاذ بركات، الإحسان كله في قيامه بهذا العمل وانصرافه إلى تنسيق تلك الفصول ونشرها في هذا الكتاب، تذكارا لمن كان له أبا وأخا: فكان كلاهما بارا بأخيه شأن النفوس الزكية.
ولا ريب في أن محبي داود والمعجبين بداود يقدرون لأخيه صنيعه، ولعل القراء يمهدون له السبيل لينشر تباعا بعض آثار الفقيد كتاريخ الثورة العرابية، وتاريخ المسألة المصرية، وغير ذلك من الفصول والمباحث.
أما أنا فإني - فوق إجلالي لعمله - أشكره لأنه مكنني في ختام العام من أن أضع زهرة الذكرى على ضريح هذا الفقيد العزيز.
أنطون الجميل
تمهيد
هل ندري ونحن نمر أمام ذلك التمثال في ميدان الأوبرا أمام أية قوة من قوات البطولة نمر؟ وهل نعرف أن هذا التمثال سفير كبير لأجل صفحة من صفحات التاريخ؟ وهل نعرف أنه يجب علينا أن نقف أمامه ذاكرين، وأن نعلم أولادنا من هو صاحب التمثال، فإذا علمناهم حببنا إليهم البطولة وعلمناهم تاريخ مصر الحديثة، بل تاريخها المجيد؟
أندري إلى أي حد بلغ جهل العامة، فقدموا ذكر الحصان على راكبه، فيضربون الموعد للقاء عند «الحصان» أو في القهوة أمام «الحصان»، وتعلو الفلاحات الساذجات فوق الكافة، فينظرن إلى الفارس لا إلى الفرس، ويقلن إذا ما تحدثن عنه: «المادد إصبعه»!
أندري إلى ما تشير تلك اليد الباطشة القوية؟ إنها تشير إلى المورة وكريد وبلاد اليونان، وقد أعجز الباب العالي إخضاعها، فندب لها إبراهيم على رأس 16 ألف جندي دوخوها ودكوا حصن موسوليغي الحصين إلى أن أخذت أساطيل الدول أسطوله بنيرانها من كل جانب وهو راس في فرضة نافارين، فوقف إبراهيم البطل البطاش والفاتح العظيم ينظر إلى ذلك الأسطول الذي كان الثالث في أساطيل البحر المتوسط يحترق بلا إنذار ولا وعيد، فدمعت عيناه ولم يفه إلا بكلمة وجهها لأحد رفاقه من الضباط الفرنساويين: «أتشترك فرنسا بتحطيم الأسطول الذي بناه مهندسوها؟!» وكان الأسطول مؤلفا من 63 سفينة حربية و100 مركب لنقل الجنود، ثم صدر إلى إبراهيم أمر أبيه بالعودة برجاله فعاد، ولم تستهل سنة 1825، ووصلت اليونان بعد عودته إلى استقلالها بتألب الدول في سنة 1826.
أندري أن هذا البطل هو الذي صعد في السودان إلى النيل الأبيض فسمي في ذاك الحين باسمه كما سمي النيل الأزرق باسم أخيه إسماعيل وكما سميت بحيرة الأوغندا «الإسماعيلية» باسم ابن إبراهيم.
وهل ندري أنه هو الذي أخضع بلاد العرب كلها: نجد - بعد أن شتت شمل الوهابيين - والحجاز واليمن، وأعاد مفاتيح الكعبة لتركيا؟
أندري ونحن ننظر إلى تمثال هذا البطل المغوار والفاتح العظيم، أنه تولى حكم مصر السفلى ولم يزد عمره على 17 سنة ليمكن والده من السفر إلى الحجاز في سنة 1813، فأظهر من الحنكة والدراية ما كان مضرب المثل؟
أندري أنه وهو فتى الإهاب كان يعامله أبوه وهو يعامل أباه النابغة معاملة النظير للنظير، حتى خيل للسذج من رجال الدولة الذين يجهلون تاريخه أنه ليس ابن محمد علي، بل هو ابن زوجه، تبناه محمد علي بعد وفاة ابنه طوسون الذي قاد قبل إبراهيم حملة الوهابيين ومات في برنبال بالطاعون، ولكن مؤرخ محمد علي «إدوار جوين» رد هذه الفرية ودفعها، فقال: إن محمد علي تزوج من ثيب غنية لما أظهره في بلده من البطولة، فرزق منها خمسة أولاد ذكور؛ منهم إبراهيم وطوسون وإسماعيل، وكان مولد إبراهيم في سنة 1789، وقد وصف الذين زعموا ذلك الزعم بالقحة والسماجة والباطل!
حمل إبراهيم علم مصر عاليا من سنة 1814 إلى سنة 1840، فما نكس بيده مرة واحدة، بل رفرف هذا العلم بيده والنصر معقود بأهدابه في الجزر اليونانية وبلاد اليونان والصرب وفي أفريقيا والأناضول وبلاد العرب وسوريا.
وإذا كان إبراهيم قد اشتهر بصلابته في القتال، فإنه قد اشتهر أيضا بصلابته في العدل بين الناس، حتى بات إلى اليوم مضرب المثل بالعدل في بلاد الشام التي حكمها ثماني سنين، فلم يكن الحاكم العسكري فقط، بل كان العسكري المصلح الذي بقيت آثاره هناك إلى اليوم، ولا يزال الناس يتغنون بعدله إلى الآن ويضربون على ذلك الأمثال.
وهذا ما حمل بعض الأدباء في لبنان إلى مكاتبة أصدقائهم هنا بأن تؤلف لجنة من المصريين والسوريين لإقامة عيد السنة المائة لاستيلاء إبراهيم على بلاد الشام من حدود صحراء سينا حتى جبال طوروس. وإبراهيم هو الذي نظر مع والده إلى وحدة هذه البلاد، فلما تألبت عليه الدول وقررت أن تكون حدود مصر سيناء، رأى إبراهيم ورأى والده أن تتلقى العلوم في المدراس المصرية العالية مجانا طائفة من أبناء تلك البلاد، وأن يكتب على شهاداتهم التي ينالونها ما يشعر بذلك؛ لتكون دليلا على عطف مصر وإخائها. وظل الحال على هذا المنوال إلى أن كان الاحتلال الإنكليزي، فقطع هذه الصلة الروحية بعد أن قطعت الدول الصلة المادية بإقامة الحدود التي محاها إبراهيم بسيفه.
كثرت أساطير الناس وأقاويلهم عن إبراهيم، فإذا لم تكن تلك الأساطير والأقاويل صحيحة، فإنها تدل فقط على اعتقاد الناس بحكمته وعدله؛ فقد رووا أنه لما عزم محمد علي على استئناف النضال في بلاد الوهابيين - بعد وفاة ابنه طوسون الذي عقد هدنة مع زعيم الوهابيين - جمع قواده ورجال الحكم والسلطة وبسط لهم إرادته، وبعد ذلك أمر ببسط إحدى الطنافس الكبيرة في الدار ووضع في وسطها تفاحة، وقال: إن الذي يتناول التفاحة بيده ويقدمها لي دون أن يمس السجادة أوليه قيادة الحملة. فأخذ الحاضرون يتطاولون إلى التفاحة بلا جدوى، إلى أن جاء دور إبراهيم وكان قصير القامة، فلم يزد على أنه تناول طرف الطنفسة بيده وطواها إلى أن وصل إلى التفاحة، فتناولها وأعطاها لأبيه، فولاه قيادة الجيش.
لا شك في أنهم يقولون ذلك ويبتدعونه كما ابتدعوا حكاية البيضة وكريستوف كولمب إذ ازدرى حساده بعمله أمام الملك، فطلب منهم أن يوقفوا بيضة على رأسها، فلما أعجزهم الأمر تناول البيضة وكسر أحد رأسيها فوقفت!
ويروي أهل الشام عن عدله، أن عجوزا شكت إليه جنديا أكل تينها اغتصابا، فأتى بالجندي وسأله فأنكر، فقال للمرأة وقال للجندي: إني سآمر ببقر بطنه فإذا وجدت فيه بزر التين أكون قد أنصفتك منه، وإلا فإني ألحقك به. فارتضت، ووجد بزر التين بأمعاء الجندي - أسطورة عندهم على عدله. •••
قبل أن نتكلم عن فتح الشام والأناضول نحتاج مع القارئ إلى استعراض الحالة السياسية في ذاك العصر؛ لنعرف كيف اندفع محمد علي إلى الفتح، والسبب الذي دفعه، وماذا كانت مهمة إبراهيم في بلاد اليونان وبلاد العرب، ولماذا وكيف دكت تلك الإمبراطورية التي ألفها إبراهيم بسيفه ومحمد علي بحكمته. وقد وصف المؤرخ «جوين» محمد علي بقوله: «سلك مسلك الثعلب أحيانا، ومسلك الأسد دائما، فألقى بالعثمانيين بأيدي المماليك، وبالمماليك بأيدي الألبانيين، وبهؤلاء بأيدي المصريين. وهدم أربعة ولاة دون أن يخشى الجلوس على أريكة مزعزعة، حتى قالوا إن صعوده إلى تلك الأريكة كان عملا عظيما جدا، ولكن بقاءه على تلك الأريكة كان أعجوبة.»
كانت تركيا مريضة تحتضر، ولم يكن يمنع الدول عن اقتسامها سوى اختلافهم على ذلك الاقتسام. وكانت مصر مطمح أنظار الفرنساويين، فبعد أن أخرج الإنكليز جيش نابليون منها وفسخوا معاهدة «أميين» التي كانت تقرر الاحتفاظ بمصر كما هي، تطلعوا إلى بسط حمايتهم عليها بواسطة المماليك الذين كانوا يحكمونها. وكانوا فيها حلفاء الإنكليز الذين كانوا قد قدموا للباب العالي اقتراحا بإثبات هذه الحماية، فأرسل الفرنساويون قنصلهم دي ليسيبس إلى مصر ليبحث عن الرجل الذي يستطيع مقاومة الإنكليز إذا هم حاولوا الاستيلاء على مصر، فوجد ضالته بمحمد علي، فبذل له كل مساعدة، ووجد محمد علي بالعلماء أصحاب السيطرة أكبر عون، فاختاروه واليا وطردوا الولاة الثلاثة الذين عينهم الباب العالي؛ لأن البلاد كانت قد ضجرت وملت حكم المماليك، وأراد الإنكليز احتلال البلاد فتمكن محمد علي من طردهم بعد احتلال الإسكندرية ستة أشهر، وكانت تابعة للباب العالي فضمها محمد علي إلى حكم البلاد.
وعرف أن الإنكليز هم أعداؤه السياسيون، فحاول الاتفاق معهم، ولكن حكومتهم فضلت اتباع سياسة هدمه على سياسة محالفته، وظلت هذه السياسة سياستهم حتى النهاية، واحتكر محمد علي الغلال، فاستطاع أن يؤلف جيشا ويبني أسطولا، وأن يضع أمام عينيه امتلاك بلاد العرب وسوريا والعراق وتأليف إمبراطورية عربية.
ولم يفاجئ محمد علي حكومة إستامبول برغبته في أن يتولى حكم سوريا، بل طلب ذلك من صارم بك رسول السلطان إليه، كما طلبه من نجيب أفندي الرسول الثاني، ولكنه قرن الطلب بأن يكون حكم مصر وسوريا وراثيا، وكانت حكومة السلطان تجعل الحكم في البلاد إقطاعيا، فلا يهمها إلا أن يدفع الوالي المال، فإذا تقدم آخر بالزيادة ولته وخلعت الذي تتقدمه. أما الحكم بالتوارث فلم تكن تسلم به، وبلغ ما عرضه محمد علي على الباب العالي مقابل حكم سوريا 60 ألف كيس في السنة - الكيس 500 قرش - فعرض الباب العالي عليه حكم المورة وكريد وقبرس وهو يعلم بضياعها، وحكم بلاد العرب وهو يعلم أنها عبء ثقيل على حاكمها. ولكي ينفذ محمد علي خطته أخذ منذ سنة 1825 يعد الأنصار والأصدقاء في بلاد الشام، فتوسط لدى الباب العالي بأن يعين عبد الله باشا الخازنه جي واليا على عكا. وعكا هي مفتاح سوريا، وقد ثبتت في وجه نابليون ولم يستطيع فتحها، فارتد عنها واستعان القائد الفرنساوي بأمير لبنان بشير الثاني فلم يعنه، واحتاج عبد الله باشا إلى المال ليدفعه للباب العالي فأمده محمد علي.
ثم وجه نظره إلى الأمير بشير، فأحكم به صلاته، ونزل الأمير بضيافته في مصر في حاشية كبيرة مدة ثلاثة أشهر، وكان اتفاقهما تاما، ثم أوفد إليه الأمير ابنه الأمير أمينا، فظل في مصر سنة وشهرا، ولم يرجع إلى لبنان إلا قبل قيام حملة إبراهيم باشا بأيام قليلة، وجاء مصر أحد أكابر البلاد الشيخ علي العماد للغرض ذاته. وكان حنا البحري الحمصي هو الصلة بين أمراء سوريا ومحمد علي، حتى صارت شئون تلك البلاد شطرا من شئون مصر في نظر محمد علي، يتدخل بها تدخلا فعليا، حتى إنه هدد والي دمشق بإرسال عشرة آلاف مقاتل بقيادة ابنه طوسون إذا لم يتحول عن اضطهاد اللبنانيين الذين يدخلون بلاده فيسجنهم إلى أن يدفع أميرهم الفدية.
ولم ير الباب العالي من وسيلة لصد محمد علي عن غرضه إلا أن يحرض لمقاومته عبد الله باشا والي عكا، ففتح عبد الله باشا ذراعيه لجميع المصريين الفارين من بلدهم لسبب من الأسباب، حتى بلغ عددهم ستة آلاف شخص، فكتب محمد علي إلى عبد الله باشا أن يعيدهم إلى وطنهم، فأجابه جوابا جافا وقال فيه: إن هؤلاء الستة آلاف هم رعايا السلطان، وشأنهم هنا كشأنهم بمصر، فإن شئت فاحضر لأخذهم. فأجابه محمد علي: إني سأحضر لأخذ ستة آلاف وواحدا فوقهم! وأراد بهذه الكلمة أخذ عبد الله باشا ذاته. وكان كتاب عبد الله باشا إنذارا، وكان جواب محمد علي ردا على ذاك الإنذار. ولما قيل إن الأمير بشيرا هو حليف محمد علي وسيكون في صفه كتب قنصل النمسا يقول لدولته: «إن وجود الأمير بشير في صف محمد علي لهو عبارة عن وجود سوريا في قبضة مصر.»
وغادرت طلائع الجيش المصري مصر إلى عكا في 14 أكتوبر 1831، واحتلت الحملة البحرية المصرية يافا في 8 نوفمبر، ووصل إبراهيم باشا قائد الحملة إلى حيفا في 13 نوفمبر، وضرب الجيش المصري نطاق الحصار حول عكا في 8 ديسمبر، وهكذا بدأ فتح الشام والأناضول.
ولم تلق طلائع الحملة المصرية من العريش إلى عكا مقاومة تستحق الذكر، بل لقيت في بعض الأماكن كل المساعدة والتسهيلات.
الفصل الأول
عدد الجيش المصري.
الأسطول.
حامية عكا.
الحصار. ***
كانت الحملة المصرية التي وجهت إلى عكا وسوريا مؤلفة من ستة آلايات من المشاة، وأربعة من الفرسان، وسلاحها أربعون مدفع ميدان، وأكثر منها من مدافع الحصار، وكان هذا الجيش المصري أول جيش شرقي سار على النظام الحديث، حتى إن إبراهيم باشا ذاته تعلم في المدرسة النظامات العسكرية كأحد الجنود. وقد بلغ عدد الجيش المصري الذي نظم يومئذ على الطراز الحديث نحو مائة ألف مقاتل، وكان مع هذا الجيش عدد كبير من الفرسان العرب ورجال القبائل المصرية.
أما الأسطول الذي جدده المهندس الفرنساوي «سيرزي» ونظمه «بيسون» بعد احتراق الأسطول في فرضة نافارين، فقد ركبه إبراهيم باشا من الإسكندرية إلى يافا، وكان أركان حرب الحملة مؤلفا من عباس باشا حفيد محمد علي، ومن إبراهيم باشا ابن أخيه، ومن سليمان بك - الكولونيل سيف - ومن أحمد بك المنيكلي.
وكان هذا الأسطول مؤلفا من خمس سفن كبيرة تبعتها السفن الصغيرة في مدى أربعة أيام، فلما رسا الأسطول قبالة يافا نزل وجهاؤها وعرضوا على إبراهيم تسليم المدينة، وكانت حاميتها 250 جنديا، فأنزل بلوكا لاستلامها وأبقى المتسلم حاكما عليها. وجاءته حامية غزة مسلمة، واستولى على مدافع قلعة يافا، وكانت 47 مدفعا مع الذخائر، وأخذ بعض رجال البحر من أهل يافا لإرشاد الأسطول في مياه عكا، ووصل إليه وهو في يافا أن أهل الشام قتلوا رجال الحكم من الترك، واختاروا خمسة منهم لإدارة الأعمال، إلى أن يصل إليهم إبراهيم «سر عسكر» الجيش العربي - كما كان يلقب نفسه - ويوقع أوامره ورسائله إلى أهل تلك البلاد.
ولما ضرب الجيش البري النطاق حول عكا قام الأسطول بحصرها بحرا وقوامه خمس سفن كبيرة وعدة فرقاطات كانت صغيرة، وكانت جملة الجيش ومجموعه 24 ألف مقاتل.
إبراهيم باشا.
أما حامية عكا فكان عددها ستة آلاف مقاتل من الرجال الأشداء، يقودهم بعض الضباط المهندسين من الأوروبيين. وكان سور المدينة منيعا وسلاحها من أقوى الأسلحة. وبعد أن أحكم إبراهيم باشا النطاق حول المدينة برا وبحرا أخذ في 9 و10 ديسمبر يرميها بالقنابل من كل جهة. ولم تكن تلك القنابل يومئذ سوى قنابل من كتل الحديد والفولاذ المستديرة، لا تنفجر بل تدك وتهدم، وكثير منها لا يزال موجودا إلى الآن في ميادين القتال التي قاتل فيها إبراهيم باشا، وقد استخدمه الأهالي لرص الطرقات. واستمر ضرب المدينة برا وبحرا من الفجر إلى المساء، فألقي عليها في يوم واحد عشرة آلاف كرة وثلاثة آلاف قنبلة، وقد رووا أن فرقاطة واحدة مصرية ألقت 3700 قنبلة. أما حامية عكا فإنها كانت تقتصد بالذخائر كل الاقتصاد لعلمها بأن المدد قد لا يصل إليها سريعا من البر أو من البحر، لا كما كان أمرها يوم حاصرها نابليون قبل حصار إبراهيم بنحو اثنين وثلاثين سنة؛ لأن الإنكليز كانوا يومئذ يمدونها بالذخائر من البحر.
سيرزي بك مؤسس البحرية المصرية.
وأصيب بعض سفن الأسطول المصري، فعاد إلى الإسكندرية لإصلاح ما حل به من التلف. وفي 19 ديسمبر نصب جيش إبراهيم مدافع الحصار وأخذ بإطلاقها على المدينة التي ظلت على المقاومة حتى آخر يناير، وحينئذ تبين لإبراهيم باشا أن الحصار طويل، فأرسل إلى الأمير بشير الثاني الشهابي - الذي قلنا إنه جاء مصر ونزل في ضيافة محمد علي - ليوافيه إلى عكا، فتأخر قليلا؛ لأن والي حلب - وكان وزيرا كبيرا - طلب منه مقاومة إبراهيم باشا ورده عن سوريا، «فإن لم يفعل يدك لبنان دكا ويبيد سكانه.» ولما تأخر الأمير بشير عن المجيء إلى عكا كتب إبراهيم إلى والده عن تأخره، فكتب محمد علي إلى الأمير كتابا يلومه فيه عن تأخره ويهدده بأنه «إذا خالف عهده معه ووعده له يخرب مساكنه ويزرع في أرضها تينا.»
وقبل وصول كتاب محمد علي إلى الأمير بشير، كان هذا قد ركب من مركزه بلبنان بمائة فارس إلى عكا، وقبل أن يصل إليها التقى برسول محمد علي ومعه ذلك الكتاب، فواصل سيره حتى وصل إلى سهل عكا، فخرج إبراهيم باشا بأركان حربه وبشرذمة من جيشه لمقابلته وأمر بإطلاق المدافع تحية له، فدخل معسكر إبراهيم بموكب عظيم. وكتب إبراهيم باشا إلى والده خبر وصول الأمير قبل أن يتلقى كتابه، فكتب إليه محمد علي يمتدح صدقه وإخلاصه. وحدث إبان ذلك أن عبد الله باشا رفع الأعلام البيضاء فوق أسوار عكا دلالة على التسليم، فأرسل إليه إبراهيم باشا رسله، وبينما كانوا يتفاوضون بشروط الصلح قطع عبد الله باشا المفاوضة وعاد إلى القتال؛ لأنه تلقى من السلطان كتابا بأن المدد واصل إليه على جناح السرعة، لأن الأوامر كانت قد صدرت إلى الولاة بجمع الجنود لقتال إبراهيم باشا ورده عن عكا. فبعد قطع المفاوضة عاد إبراهيم إلى ضرب القلعة، وحينئذ أرسل الأمير بشير إلى ولده الأمير خليل بأن يحضر إلى عكا، فحضر وتلقى منه الأمر بجمع الرجال اللبنانيين. وأرسل محمد علي إلى إبراهيم بأن يعطي الأمير بشيرا إيالة صيدا، وأن يجعل في يده تصريف أمور المتسلمين وأصحاب المقاطعات. وأرسل إبراهيم باشا الأمير خليلا بألف مقاتل لبناني إلى طرابلس ليقطع الطريق على محمد علي باشا سر عسكر السلطان الذي كان قد وصل إلى حمص، وفي الوقت ذاته وصل القائد التركي عثمان باشا إلى اللاذقية معينا على طرابلس ومعه خمسة آلاف مقاتل، فقبض الأمير خليل على بعض مراسلاته مع مشايخ البلاد وأرسلها إلى والده في عكا، فأمر الأمير بشير ولده أمينا بجمع الرجال، وأرسل إلى «زحلة» الأمير قاسما لجمع المؤن لجيش إبراهيم باشا ومعه ألفا لبناني. وفي أثناء ذلك أرسل إبراهيم باشا أربعة آلاف رجل إلى طرابلس مددا للأمير خليل، ولكن عثمان كان قد وصل من اللاذقية قبل وصول المدد، فقاتله الأمير خليل حتى كسره، وقبض على القاضي والمفتي اللذين كانا يراسلانه ليسلماه المدينة، وقصد إبراهيم باشا ذاته إلى طرابلس، فعند وصوله إلى البترون - وهي على مسيرة ساعتين من طرابلس - فر عثمان باشا ومن معه إلى جهة حمص، فصمم إبراهيم باشا على اقتفاء أثره إلى هناك، والتقى جيشه برجال والي الدين ووالي قيسارية وعثمان باشا فدحرهم وغنم ما معهم.
الأمير بشير الشهابي أمير لبنان.
أما عكا فإنها ظلت ثابتة على المقاومة، وأضر المطر والبرد بالجيش المصري إضرارا شديدا، ورأى إبراهيم باشا أن يكتفي بالحصار، فاستدعى إليه من الإسكندرية الكولونيل «روماي» الطلياني؛ لأنه اشتهر في حصار قلعة موسوليغي في بلاد اليونان، فوصل مع رفيقه كارتو - وهو كورسيكي - وألبرتيني - وهو إيطالي - إلى معسكر عكا في 2 فبراير، فغيروا شكل الحصار والضرب.
وفي 3 مارس بدءوا بضرب القلاع على الطريقة الجديدة، واستمروا على ذلك عشرة أيام كاملة إلى أن دكوا البرج الذي يحمي باب المدينة، واندك معه جانب من السور، فردم الخندق وهجم المصريون من تلك الفتحة التي فتحتها المدافع، ولكنهم اصطدموا بجيش عبد الله باشا، ولم تكن الفتحة تتسع لأكثر من ثلاثين رجلا، وكان عبد الله باشا قد نصب في تلك الفتحة ذاتها مدفعين، فاستولى عليهما المصريون برءوس الحراب.
ولما دخل الجنود المصريون المدينة أخذ جنود عبد الله باشا يلهبون ألغام البارود المبثوثة في الأرض وتتناولهم نيران البنادق من المنازل، فخشي القواد سوء العاقبة، فأمروا الجنود بالارتداد، وهكذا حبط هجوم 9 مارس 1832.
ولكن هذا الهجوم دل على أن المدينة باتت في حالة الاحتضار؛ لأن الحامية نقصت ولم يبق منها للقتال سوى 900 مقاتل، ولأن الأمراض تفشت فيها وقلت اللحوم والبقول.
أما الباب العالي فإنه لم يفعل شيئا لإمداد عكا؛ لأن رجاله كانوا منصرفين إلى التحاسد أكثر من انصرافهم إلى التعاون، ولأن صدمتهم في طرابلس وحمص أوهنت قواهم وفرقت شملهم.
ولما اجتمع قناصل الدول عند محمد علي لتهنئته بعيد الفطر في 4 مارس حدثهم وحدثوه بأمر الحملة على عكا، فقال لهم محمد علي:
أين هي جيوش جلالة السلطان؟ وأين هم قواده العظام؟ أهو باشا حلب الذي كان منذ عهد قريب باش قواص؟ لا ... إنه يحسن بالباب العالي أن يعمل حسابه قبل أن يهجم على جيشي.
وكان من عادة الباب العالي أن يصدر في كل سنة يوم عيد الفطر التوجيهات أو جدول باشاوات السلطنة وأصحاب الرتب والولايات، فصدرت التوجيهات في تلك السنة وليس فيها اسم محمد علي وابنه إبراهيم، فلم يدل ذلك لا على غضب السلطان فقط، بل على عزمه على تأديبها - كما كان يفهم دائما من هذا العمل ...
وإليك ما جاء في مقدمة التوجيهات: «رأينا ألا نقطع بتوجيه ولايات مصر وجدة وكريد حتى يصل إلى بابنا العالي جواب محمد علي باشا على ما أرسلنا إليه من الرسائل والفرمانات بشأن ما ارتكبه من الخروج على خليفته وسلطانه، ولزوم عدوله عن خطة الخسة والدناءة التي سار عليها هو وإبراهيم ولده، أو رجوعه إلى حد التأديب وقهره بقدر ما تصل إليه القدرة إن شاء الله.»
أما من الوجهة العسكرية، فالذي يصح قوله أن إبراهيم أدرك عند ظهور عثمان باشا أمام طرابلس وظهور قواد آخرين بين حلب وحمص، أن القواد الأتراك يجمعون قواتهم ليهاجموه، وبدلا من أن يكون حاصرا عدوه يصير محصورا، فأبقى أمام عكا آلايين وصار بعشرة آلاف جندي لمقاتلة قواد السلطان، ووكل إلى الأمير بشير وابنه أمين حراسة خطوط المواصلات وجمع المؤن في زحلة وبعلبك والرياق. ولما وصل إبراهيم باشا إلى القصير خرج أعيان حمص لمقابلته وتهنئته، ثم عاد إبراهيم باشا إلى بعلبك وزحلة، فظن عثمان باشا ورفاقه أنه تقهقر، فقصدوا إلى جيشه ومعهم 12 ألف جندي، فارتد عليهم وفرقهم، فاتجهوا نحو حماه على ما قلنا، واتجهت أنظاره إلى عكا للخلاص من حصارها، فترك قوته في بعلبك بقيادة أخيه عباس باشا ليرقب حركة الجيش التركي.
وهكذا اتبع إبراهيم خطة نابليون قبل ذلك باثنين وثلاثين سنة، فاستولى وهو سائر إلى سوريا على غزة ويافا وحيفا والقدس ونابلس.
الفصل الثاني
فتح عكا بعد حصار ستة أشهر.
قرار الباب العالي بخلع محمد علي باشا.
تعيين حسين باشا.
حاكما على مصر.
الجيش المصري في سوريا. ***
خريطة تبين مواقع القوات البرية والبحرية أثناء حصار عكا.
في 27 مايو بدأ هجوم المصريين عند الفجر على قلعة عكا من ثلاث جهات، وظل هذا الهجوم متواليا حتى الظهر ثم أوقف خوفا من الألغام؛ لأن أرض المدينة كانت ملغمة كما أنبأ الأسرى. وكان إبراهيم مصلتا سيفه في مقدمة جيشه، فبعد الكر والفر والتقدم والتقهقر توصل إبراهيم بآلايه لاحتلال أحد خانات المدينة وامتنع فيه، وأخذت جنوده وما تلقته تلك الجنود من الإمداد تتسرب إلى جوف المدينة من جهاتها الأربع، وظهر العجز والملل على الحامية، وظهر الضجر والسآمة والقنوط على السكان، فأرسلوا إلى عبد الله باشا بأن أوان التسليم قد حل، وأرسلوا إلى عبد الله باشا وفدا يطلبون منه العفو، فأجابهم إبراهيم باشا أنه لا يمس أحدا بسوء إذا ألقى عبد الله باشا والحامية والأهالي سلاحهم في الحال. وخشي عبد الله باشا أن تفتك الحامية والأهالي به إذا حاول الفرار، فمكث في داره حتى صباح اليوم التالي إلى أن أرسل إبراهيم باشا حرسا يحرسه في مجيئه إليه، فربط عبد الله باشا وربط الكخيا منديلا في عنقه دلالة على الاستسلام والخضوع.
ولما دخل عبد الله باشا على إبراهيم انحنى إلى الأرض، فتناوله إبراهيم باشا في الحال بكلتا يديه وقال له: «أنا وأنت متساويان؛ فذنبك إلي لا يغتفر ولكنك تجرأت على محمد علي وهو أكبر حلما!» فرد عبد الله باشا بقوله: «هذا حكم القدر.» وجامل إبراهيم خصمه كثيرا حتى أزال وحشته، وبعد تناول العشاء معه هم عبد الله باشا بالانصراف إلى غرفة النوم التي أعدت له في منزل إبراهيم، فقال إبراهيم: «إنك يا عبد الله باشا ستنام الليلة مرتاحا.» فأجابه عبد الله: «كراحتي في كل ليلة مضت.» ثم التفت إلى إبراهيم وقال له: «لا تعاملني يا باشا معاملة الحريم؛ فإن دفاعي يبرهن لك على الضد، وكل أخطائي أني اعتمدت على الباب العالي الذي لا يزيد شرفه في نظري على شرف المومس، ولو أني عرفت ذلك لاتخذت الحيطة ولما كنت اليوم ملقى بين يديك.»
وفي رسالة قنصل فرنسا بكريد إلى حكومته أن عبد الله قال له وهو مار بتلك الجزيرة في شهر يناير بعد إطلاق سراحه: «كان لدي للدفاع عن عكا جدرانها وأسوارها والرجال والمال، ولما استولى عليها إبراهيم باشا كانت أسوارها قد تهدمت ورجالها قد بادت، وقد قتل 5600 من ستة آلاف، ولم يبق معي من المال سوى بعض الحلي.»
محمود بك الأرناءوطي ناظر الجهادية وجد عزيز عزت باشا.
وأحصى ما ألقته المدافع على عكا من القنابل الكروية والأسطوانية، فإذا هو 50 ألف قنبلة كبيرة و180 ألف قنبلة من القنابل الصغيرة. ولما سلم عبد الله وأقبل الناس على إبراهيم باشا يهنئونه قال في جمع عظيم: «إني سأذهب في فتوحاتي إلى حيث تنتهي البلاد التي يتكلم أهلها العربية.» لذلك كان يلقب جيشه بالجيش العربي.
أما عبد الله باشا، فإنه من الولاة الأشداء الممتازين، طمع في سنة 1822 بأن يضم دمشق إلى البلاد التي يتولى أمرها، فاتفق الولاة على مقاتلته خوفا من امتداد سلطانه، واضطر أن يرجع إلى عكا للدفاع عنها؛ لأن أعداءه حصروها، وكان يخشى أن يحصرها الباب العالي بحرا، فوسط محمد علي باشا لدى الباب العالي فنال ما طلب على شرط أن يدفع 60 ألف كيس - الكيس 500 قرش - فأقرضه محمد علي قسما من هذا المال، ولكنه لم يشأ دفع القرض وجعل عكا ملجأ للفارين من مصر.
وفي 30 مايو سافر عبد الله باشا والكخيا إلى مصر على سفينة حربية مصرية، فوصلت بهما إلى الإسكندرية في 2 يونيو، وعند وصولهما أطلقت المدافع، فأرسل محمد علي قواصا إلى عبد الله باشا ليبلغه أن محمد علي في انتظاره في الديوان.
فلما دخل مر بين صفين من القواصة بقيادة أحد الضباط، ودخل الديوان فإذا بمحمد علي واقف ينتظره، فانحنى أمامه طالبا العفو والغفران، فصافحه محمد علي وطمنه ثم جلس وأجلسه إلى جانبه، وأمر بأن تقدم له القهوة والشبق. وكان الجمهور حاشدا لرؤية عبد الله باشا، فأمر محمد علي ذلك الجمهور بالانصراف، واختلى بأسيره ثم صرفه إلى دار الضيافة التي مكث فيها إلى أن أطلق سراحه وسافر إلى الآستانة في أوائل شهر يناير.
ولما وصل البريد بخبر فتح عكا أمر محمد علي باشا بأن تطلق المدافع من جميع القلاع والحصون بالمدن والبنادر ثلاث دفعات في اليوم مدة ثلاثة أيام؛ إعلانا للفرح والسرور ولإعلان البشرى في أنحاء البلاد.
ثم صدر العفو عن المسجونين والمنفيين ما عدا القاتل وقاطع الطريق إجابة لإبراهيم باشا، وكان السجن والمنفى في مدينة رشيد.
وأمر محمد علي باشا بعمل وسام مكتوب عليه اسم «محمد علي» بحجر البرلنتي لإرساله إلى إبراهيم باشا تذكارا لانتصاره.
وبلغت خسارة المصريين 1429 جريحا و512 قتيلا.
ونظم الشيخ شهاب الدين تاريخ فتح عكا في البيتين الآتيين، وقد نشرا في ختام تقرير إبراهيم باشا في الوقائع المصرية؛ وهما:
عباس باشا حفيد محمد علي وقومندان القوات المصرية في زحلة والبقاع وبعلبك.
لقد نصر المليك عزيز مصر
وبلغه المنى عزا وملكا
فنادته العلا أن طب وأرخ
بمجد العز تفتح ألف عكا
وبعد سقوط عكا وصل عباس باشا ابن طوسون باشا بأمداد كبيرة من العسكر والعربان، فأرسله إبراهيم باشا لضبط الثغور كصيدا وبيروت، وأرسل الرسائل إلى أهالي البلاد ليطردوا العساكر العثمانية من بلادهم، ووجه إلى متسلم القدس والمفتي وقاضي القضاة الرسالة الآتية:
تعلمون أن في بيت المقدس كثيرا من الديارات والكنائس والآثار الدينية التي تحج إليها في كل عام طوائف النصرانية واليهود، وقد شكا إلينا هؤلاء مما يلاقونه منكم من العنت والقسوة والغلظة عليهم والتحقير لدينهم، فضلا عما أنتم فارضوه عليهم من التكاليف والمغارم الفادحة، غير ناظرين إلا إلى إرضاء أنفسكم والعمل بهواكم، على أن هذه الغايات الدنيئة والأفعال الرديئة لا ترضاها النفوس الأبية، ولا يصح السكوت عليها؛ ولذلك أنهاكم وأحذركم من عاقبة التعرض لأولئك القوم، وأسألكم أن تفسحوا لجماعة القسيسين والرهبان والشمامسة أهل ذلك البيت المقدس من جميع المذاهب قبطا كانوا أو روما أو أرمنا في دينهم ودنياهم، ولا تمنعوهم من إقامة شعائر دينهم، ولا تأخذوا ممن يذهبون زائرين لبحر الشريعة شيئا من الكلف والمغارم، ولا تضيقوا على زائري كنيسة القيامة، ولا تلزموا الصغار بدفع المال؛ فإن أطعتم أحسنتم لأنفسكم، وإن خالفتم أسأتم إليها، والسلام عليكم ورحمة الله.
تقرير إبراهيم باشا
نشرت الوقائع المصرية في 11 محرم سنة 1248 ملخص التقرير الوارد من إبراهيم باشا عن معارك عكا وفتحها، قال فيه «إنه كلف أحمد بك أمير اللواء ومعه مختار أغا البكباشي من الآلاي الثاني، بالهجوم على الباب بطرف القلعة، وأن يذهب إسماعيل بك أميرالاي اللواء الثاني ومعه الأورطة الثانية إلى باب البرج الذي يصير عليه الهجوم، وأن يذهب إلى الزاوية اللواء عمر بك ومعه الأورطة الثالثة، وإلى برج الكريم عسكر الأورطة الأولى، وأن يكونوا مستعدين لتسلق الأسوار ومعهم السلالم، فيبدأ الهجوم بعد مرور تسع ساعات وربع من الليل بمجرد سماع إطلاق ثلاث قنابل. وجعلنا أحمد يكن باشا مأمورا على محل الهجوم، وتوجهت إلى طابية المدافع خلف عسكر المحاربين على رأس الزاوية ووقفت الأورطة الرابعة مع يكن باشا قبالة البرج ووراءها الأمداد؛ لأن في البرج مستودع عبد الله باشا. وكان التصميم أن نرسل عسكرا إلى الوكالة الواقعة على البحر، ولكن قبل الهجوم بليلة واحدة قرر الذين فروا من القلعة أن تحت تلك الوكالة أربعة ألغام، فعدلنا عن إرسال القوة.»
وبعد أن وصف الهجوم قال: «إن الكلام لا يتسع لوصف الشجاعة الفائقة التي أبداها الجنود، وإذا أخذنا بالأصول الحربية حكمنا بأن استبسالهم كان فوق ما يمكن تقديره، ولكن الأورطة التي تسلقت برج الكريم كانت خسارتها كبيرة لجهل قائدها؛ لأنه لم يدعهم يهجمون على جميع أنحاء المكان عند إعطاء الإشارة. والهاجمون على الزاوية تسلقوا السور بكل سرعة، وعند وصولهم إلى الخندق أطلقوا البنادق ثم صعدوا منه إلى الجهات الأخرى، ولحق بهم بقية العسكر حتى برج الخزينة الذي انقطع سوره. ولما وصلوا إلى باب البرج استل عبد الله باشا سيفه وهجم على عسكرنا فردوه إلى طرف الخندق. ولما رأينا هذا الارتداد هجمت القوة التي معي على طابية المدافع، ثم ارتدوا ثلاثين أو أربعين خطوة، فسللت سيفي أنا وأحمد بك أميرالاي الفرسان ومشيت نحوهم لنردهم إلى الأمام، ولكنهم كانوا يمشون تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال، وحينئذ أمرت أحد الجاويشية بأن يأخذ العلم من حامله، فأبى البيرقدار تسليم العلم، فتقدم جاويش آخر لأخذه منه، فامتنع عن تسليمه، ثم تقدم وفي دقيقة واحدة فعل عسكرنا العجب، وتوارى عسكر العدو وأخذوا يتراشقون بالحجارة، ولم يستطع العدو أن يرجع إلى مكانه الأول، وقل الذين نجوا منه، وحينئذ رفع عسكرنا بيرقهم وهجموا على البرج الصغير، وصعد الأنفار بسرعة وأخذوا يقاتلون دون ضباطهم، فشتتوا العدو وارتمت بقاياه في الخندق. ولحماية الرجال أمرت ببناء متراس، واستل ثلاثة من الجاويشية سيوفهم، ثم رأيتهم يرمون الرصاص أمامي وسيوفهم مكسرة، وفي الساعة الحادية عشرة وقف إطلاق الرصاص، وأرسلت ضابطا إلى الباب فوجده مفتوحا، فوقف لضبط الوكالة وحصرها. وأمرت بجمع الجرحى من الفرسان؛ إذ رأيتهم مرتمين في الأرض مستلين سيوفهم عند صعودهم القلعة، وبعد ذلك حضر أناس لطلب الأمن والأمان.»
خلاصة تقرير يكن باشا «كان الهجوم يوم الأحد قبل طلوع الشمس على قلعة عكا، فصعد المرحوم إسماعيل بك قائد الآلاي الثاني مع أورطته الثانية، وأحمد بك قائد اللواء مع الأورطة الأولى، إلى برج الباب من الطرف الأيمن، ونصبوا بيارقهم على البرج، فهجم عليهم العدو فردوه إلى الخندق، ورددت أنا الأورطة الرابعة إلى الوراء حذرا من الألغام في البرج. وقد رأيت أن أفندينا السر عسكر مضايق للأعداء كل المضايقة من طرف الزاوية، وأن العدو موجه كل قوته إلى تلك الجهة، فأمرت الجنود بالهجوم على العدو للتخفيف عن قوة السر عسكر، فاستولى رجاله على البرج، ثم اتجهوا إلى اليمين لإقامة المتراس، وضبطوا من البرج مدفعا وأخذوا يلقون ناره على داخل القلعة، وتوفي الميرالاي إسماعيل بك بعد ساعة من إقامة المتراس، وهجم علينا الأعداء ثلاث مرات ولم يظفروا بطائل. وفي الساعة العاشرة دخلت الأورطة الأولى التي أرسلها سر عسكر بين البرج الذي بيدي والبرج المسمى ببرج الإنكليز، ثم دخلت الوكالة واستوليت عليها، فنشر فوق الوكالة بيرق طلب الأمان. وبعد أن استمد الأعداء الأمن والأمان انقطع إطلاق البنادق، وحضر للتسليم والاستسلام جماعة من معلمي الطوبجية ومفتي البلدة وإمام عبد الله باشا، طالبين من مراحم السر عسكر الأمان، فتفضل عليهم به وعفا عن جميع ما يملكون، وأمر برفع السلاح عنهم. وبما أنه أعطى عبد الله باشا الأمان أيضا، فإنه أرسل إليه بعد الغروب اللواء سليم بك، وفي الساعة الخامسة وصل الباشا المشار إليه مع كتخداه إلى محل حضرة السر عسكر، فقوبل مقابلة الوزير ونال الالتفات والعطف. وفي الساعة السادسة توجه سعادة السر عسكر مع عبد الله باشا ومعهما كتخدا باشا إلى القصر خارج القلعة وأقاموا تلك الليلة. وبما أن العساكر دخلوا القلعة بالحرب، فقد امتدت أيدي بعضهم إلى بعض الأشياء، وإنما صدر إليهم الأمر في اليوم الثاني بأن يردوا كل شيء إلى صاحبه، فردت تلك الأشياء جميعا. وطلب عبد الله باشا التوجه إلى مصر في يوم الثلاثاء 28 ذي الحجة، فأرسله سعادة السر عسكر إلى حيفا مع اللواء سليم بك، ومن هناك توجه بحرا في السفينه المسماة بشيري جهاد من سفن الأسطول المصري.»
إبراهيم باشا داخلا عكا راجلا على رأس جيشه.
بعد وصول عبد الله باشا والي عكا إلى الإسكندرية ونزوله في ضيافة محمد علي بدار الضيافة، وصل أتباعه - وهم جمهور كبير - فأمر محمد علي بإكرامهم وبإنزالهم في ضيافة حكومته المصرية.
وكانت خزانة عبد الله باشا قد وصلت على السفينة التي ركبها من حيفا إلى الإسكندرية، فأمر محمد علي بألا تمس وبألا تدخل دارا من دوره، وأن ترسل مقفلة إلى عبد الله باشا، وكان في تلك الخزانة حليه وجواهره، والحلي والجواهر هي كنوز العظماء في ذاك الحين.
وكان بيد عبد الله باشا وصل على أحد اليونان؛ قسطنطين أنجلو من مدينة صور، بمبلغ مائتي ألف فرنك ليقدم له به المؤن والذخائر، فأرسله إلى محمد علي باشا باعتبار أنه ملك الدولة الفاتحة، فأمر بأن تدفع له قيمته. أما برج الخزانة - الذي أشرنا إليه - فإنهم وجدوا فيه نصف مليون قرش تركت أيضا لعبد الله باشا. •••
قبل أن يفتح إبراهيم باشا عكا أعد للنصر معداته، لا بتأليف جيش ضخم على أحدث الطرق الحربية والأنظمة العسكرية، ولا بإنشاء أسطول قوي؛ بل بمحالفة زعماء سوريا وأمير لبنان، فعاهده مشايخ نابلس على المال والروح، وجمع الأمير بشير الثاني 35 ألف رجل ضبطوا أنحاء البلاد وانصرفوا لجمع المؤن. وكانت الفتن قائمة يومئذ في الأناضول وألبانيا والبلقان فاتهم بها الباب العالي محمد علي. ولما لم يلق رسل السلطان إلى محمد علي - كصارم أفندي ونجيب أفندي - ما يشفي غلة الباب العالي، توسط قنصل إنكلترا في بيروت لدى إبراهيم باشا، ولكن بلا جدوى. ولما كان 23 أبريل 1832 أمر السلطان محمود بعقد المجلس الشرعي؛ لأنه لم يبق أمامه سوى السلاح الديني الذي أجاب عليه محمد علي في جمع من قناصل الدول بقوله: «هل يسمح السلطان لنفسه أن يحاربني باسم الدين، وأنا أحق منه بمهبط الدين والوحي؛ لأني أنقذت الحرمين الشريفين وأعدت للدين سلطانه، وأنا الآن أحكم مكة المكرمة والمدينة المنورة؟»
انعقد المجلس الشرعي في إستامبول، وهو مؤلف من: ثلاثة مفتين، وأربعة عشر من قضاة العسكر، واثني عشر قاضيا من قضاة المحاكم، وتسعة من أئمة السراي السلطانية والمدارس الشاهانية ومن إمامي جامع أيا صوفيا وجامع السلطان أحمد، فلما اجتمعوا وجه إليهم السؤال الآتي للإجابة عليه:
س:
ما الذي جاء به الشرع الشريف من الأمر بطاعة أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين؟
ج:
قد فرضت له الطاعة والوقوف عند حد أوامره جهد الاستطاعة.
س:
ما الذي جاء به الشرع الشريف في عقاب العامل المارق عن طاعة خليفته وسلطانه الذي أحسن إليه وأتم نعمته عليه، فطغى وتجبر ودس الدسائس وأقام الأحقاد وأيقظ الفتنة الراقدة وعمل على تمزيق ملك سلطانه، فركب متن الجور والعسف وأراق الدماء هدرا وخرب ديار المسلمين، ولم يرض بالطاعة للدين ولا عمل بسنة سيد المرسلين؟
ج:
يجرد من سائر رتبه ووظائفه، ولا يعهد إليه بأمر من أمور المسلمين، ثم يحل به القصاص ويلقى لوحوش البرية أو إلى طيور الفلا، وهذا جزاؤه في الدنيا، وفي الآخرة الخزي والنار الآكلة.
س:
هل يكون الخليفة مسئولا أم ذلك المارق أمام الله والناس؟
ج:
لا جناح على الخليفة ولا تثريب؛ فإنه قام بما فرضه الشرع الشريف وجاءت به أحكام الدين الحنيف.
ثم أصدر أولئك المشايخ الحكم الآتي:
حيث ثبت خروج محمد علي وولده إبراهيم عن طاعة سلطانهما فحق العقاب عليهما كما حق على سائر من حذا حذوهما بشق عصا طاعة أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، وبذلك قضى الشرع الشريف.
أولا: تجريد محمد علي وولده إبراهيم من جميع الرتب والمناصب الديوانية وألقاب الشرف الممنوحة لهما من لدن أمير المؤمنين، ثم بقصاصهما مع سائر من شاركهما في هذا العصيان والخروج عن طاعة السلطان.
صدر ذلك الحكم، فحمله إلى محمد علي قومندان إحدى السفن الإنكليزية، فلم يعبأ به وأخذ مشايخ العلم في مصر وسواها يهزءون بالفتوى والحكم.
وكان جماعة من كبار الأجانب مجتمعين عند محمد علي يوم شاع أن القيصر نقولا قد جن على ما روت الجرائد، فقال أحد الكبراء من الأجانب: لقد سمعنا أن القيصر قد جن، فأجاب محمد علي أن ذلك ليس غريبا، ومهما بلغ جنونه فإن جنون متبوعي السلطان لأكبر، فهو الآن يدعو محمد علي إلى المثول بين يديه بحجة التعاقد معه على ما فيه المصلحة، ونسي كل ما فعله. ثم قهقه ضاحكا حتى استلقى على ظهره من الضحك. ومن خلق محمد علي أنه كان صريحا في القول، لا يكاد يكتم شيئا. ولم يكتف السلطان باستصدار تلك الفتوى والحكم، بل أصدر فرمانا بتولية حسين باشا سر عسكر الدولة؛ أي القائد العام، حكم مصر وكريد وبلاد الحبشة. وإليك ما جاء في ذلك الفرمان:
من سلطان الدولة العلية العثمانية وولي نعمة المملكة العظمى الشاهانية إلى فخر الأمراء المعظمين وقدوة أعيان دولتنا المفخمين حسين باشا ... إلخ.
الموجه إليه من لدن مكارمنا المشهورة ولاية ديار مصر والحبشة وجزيرة كريد وما يتعلق بها.
لا يخفى على من تهمه أخبار دولتنا العلية وما هي عليه مملكتنا العثمانية الشاهانية، أن محمد علي باشا والي الديار المصرية سابقا، بعد أن كان فردا من أفراد الرعية، لا يعرف له حسب ولا نسب، قد تدرج إلى أوج المعالي، وما زال حتى تولى حكومة الديار المصرية من قبل بابنا العالي، فنظرنا إليه بما جبلنا عليه من كرم الطباع، وعاملناه بالرفق والتودد والإخضاع، وكنا نظن أنه يقف عند حد الشكران ولا يخالف لنا كلمة ولا يغلب على طبعه النكران، وأن يقابل نعمتنا بالصدق، ولكنه أطاع هواه وداخله الغرور والكبرياء ... وجاهر بمعاداة حكومتنا، ولم يقف عند حد من إثارة الفتن وتعميم القلاقل والإحن. وقد أقلق راحة أهالي ألبانيا والرومللي الشرقي بشن الغارة على بلادهم، وكثيرا ما ألح على مصطفى باشا بواسطة جلال بك وفاوللي مصطفى بالخروج عن طاعتنا سرا ، وطالما مناه بالمال والرجال، على أنه لم تخف عنا خافية، وكثيرا ما دس إلى عبد الله باشا والي عكا المخلص في طاعتنا فوقعت بينهما الحرب. وجاء إبراهيم بن محمد علي في عسكر جرار إلى يافا، ففتحها والي طرابلس ودمشق فاستولى عليهما والي عكا فحاصرها فلم نعجل بمؤاخذته. وقد حم القضاء فلم يبق من باعث على التهاون والإغفاء، ومع ذلك نعفو عمن يأتي إلى بابنا؛ سواء كان هو وولده أو أرباب المناصب والعساكر.
وقد أصدرنا فرماننا هذا بتوجيه ولاية مصر وكريد وبلاد الحبشة وما يتبعهما إليك، ورسمنا منا بنزعها من أيدي أولئك المارقين، فعليك أن تسير بالعسكر المنصور إلى حلب ثم تنحدر إلى ديار مصر، فتنزع تلك البلاد من أيديهم. واذكر شفقتي ولا تنس عفوي عمن يتوب ويرجع إلى طاعة الله ورسوله وطاعة خليفته.
ضابط وعساكر نظامية في جيش محمد علي.
وقد أذيع أن السلطان جند 60 ألفا، ولكن محمد علي كان يعرف أن الجيش الذي يستطيع السلطان الاعتماد عليه لا يتجاوز 25 ألفا، وأن الأسطول العثماني مزعزع الأركان لا يستطيع الانتقال من جزيرة إلى أخرى، ومع ذلك عزز قواته وأنشأ خمس سفن جديدة ضخمة سلاح كل واحدة منها مائة مدفع، وأنزل الأولى إلى البحر يوم فتح عكا، وكان الاحتفال بذلك كبيرا في ميناء الإسكندرية.
القائد سليمان باشا الفرنساوي.
وكتب قنصل النمسا إلى دولته «أنه باتت أمام محمد علي بعد فتح عكا خطتان؛ الأولى: أن يستولي على سوريا كلها؛ أي ولايات عكا ودمشق وطرابلس وحلب، وأن يقف في حلب باعتبارها آخر حدود سوريا. والثانية: التقدم في الأناضول بإثارة ولاتها وإيصال الاضطراب والقلق إلى الآستانة. والثانية واسعة النطاق شديدة الخطر؛ لأنها قد تفضي بتدخل الدول، وهذا ما يخشاه؛ ولذلك يفضل الخطة الأولى.»
وإلى الثانية كان يميل إبراهيم، ولم يختلف الأب والابن على الغرض والغاية ولكنهما اختلفا على الوسيلة. ومما قاله هذا القنصل: «إن مذكرة واحدة أو إنذارا واحدا من إنكلترا تعيد محمد علي أدراجه.»
وكتب المستر باركر قنصل إنكلترا في الإسكندرية إلى حكومته أن محمد علي يرضى بعد فتح عكا بولاية عكا وطرابلس، ولكن فتوى المجلس الشرعي وفرمان السلطان لحسين باشا السر عسكر أثارا سخطه، فأصدر أمرا بتعيين شريف باشا واليا على دمشق، وقد جاء في أمر تعيينه ما يأتي:
إنه بالنظر إلى استحسان ولدنا سر عسكر باشا صدر أمرنا إلى قوله لي محمد شريف باشا الكتخدا حكمدارا مستقلا لإيالة عربستان الشاسعة الملحقة بالحكومة المصرية، وموافقة ما رآه ابننا المشار إليه، نرى حضوره إليه على وجه السرعة بمفرده لتوجيهه للجهة المذكورة بحرا، ثم إرسال أمتعته برا.
وورد على محمد علي من أنحاء سوريا أن الأهالي ينضمون إلى جيش إبراهيم ويقدمون طاعتهم لحكومة مصر ليخلصوا من حكومة الباب العالي الجائرة المخربة إلى حكومة مصلحة معمرة، وأن عرب السردية وعنزة عرضوا تقديم جمالهم للحملة، وأهالي دمشق ينتظرون دخول إبراهيم مدينتهم، وأهالي حلب ينتظرون وصوله بفارغ الصبر. •••
أصدر الباب العالي أمرا إلى الأسطول بالخروج، وهو مؤلف من ست سفن حربية كبيرة ومن ثماني فرقاطات ومن ماية مركب نقل. وقد روى يومئذ قائدا الأسطولين الإنكليزي والفرنساوي أن الأسطول التركي انتقل إلى بشكطاش فقط، فإما أن يدمره أسطول محمد علي إذا هو تعرض للقتال، وإما أن يحصره في أحد الموانئ ويأخذه أسيرا. وقد قرن الباب العالي خبر خروج الأسطول بخبر حشد مائتي ألف مقاتل بقيادة السر عسكر حسين باشا. ولما حدث محمد علي في ذلك كله قال: إن الباب العالي لم يرد سوى تخويفه، ثم حكى محمد علي حكاية تركية فقال: «إن جملا حمل المحمل إلى مكة مدة ثلاثين سنة، فبعد هذه السنين الثلاثين ترك وشأنه في أسواق المدينة يبحث عن غذائه. ولم يكن أحد يجرؤ على إزعاجه، ولكن أحدهم رأى أن الجمل يتناول كل شيء ولا يعف عن شيء، فأراد منعه ولكنه لم يجرؤ على مسه، فلما اقترب الجمل من محله أخذ يضرب على الأخشاب والآنية بكلتا يديه، فسأله جاره: ولم ذلك؟ قال: لأخيف الجمل وأبعده عن تناول أشيائي. فقال ذلك الجار: أتظن أنه يسمع هذا الطنين وقد كلت أذناه في مدى ثلاثين عاما من أصوات المدافع والموسيقات؟ وبعد أن قص محمد علي هذه الحكاية قال لمحدثيه: أما ذلك الجمل فهو أنا محمد علي.»
شريف باشا والي ألوية الشام ووزير المالية فيما بعد.
أما جيش محمد علي في سوريا فقد قسم إلى ثلاثة أقسام، كل واحد منها كان مؤلفا من 13 إلى 14 ألف مقاتل؛ فالأول في طرابلس تحت إمرة الأمير خليل ابن الأمير بشير ومصطفى بربر عامل الأمير بشير على تلك المدينة، والثاني تحت إمرة عباس باشا في زحلة وبعلبك ومعه سليمان باشا الفرنساوي والأمير أمين ابن الأمير بشير، والثالث جيش عكا مع إبراهيم باشا.
وقد رأى الباب العالي أن يستعين بالدعوة الدينية، فاستدعى من بورصة إلى الآستانة أحد الأشراف المنفيين، وقابله مقابلة فخمة، وعينه أميرا لمكة بدلا من أميرها المخلص لمحمد علي. ووكل الباب العالي إلى سفينتين نمساويتين الوقوف على أخبار الأسطول المصري، فلما وصلت إحدى السفينتين إلى الإسكندرية قال محمد علي لربانها إنه مستعد لإبلاغهم جميع الأخبار حتى يدرك الباب العالي أنه لا أمل له بالفوز.
وشعر محمد علي أن الباب العالي يبذل أقصى جهده في الأهبة والاستعداد برا وبحرا، فعقد عزيمته على أن يقابله بالمثل، فطلب من قنصل فرنسا أن يعرض على حكومته عقد قرض له بمبلغ 12 إلى 15 مليون فرنك - وإن يكن عالما بأنه ليس باستطاعتها أن تفعل ذلك علنا ولكن باستطاعتها أن توحي سرا بعقده - غير أن الحكومة الفرنساوية رفضت أن تعقد هذا القرض أو تساعد عليه مراعاة للباب العالي والحياد، ولكن ذلك لم يقعده عن مواصلة الاستعداد، فأخذ بإرسال النجدات إلى سوريا.
محمد علي باشا.
وأرسل الباب العالي - بعد أن أصدر المجلس التشريعي فتواه - إلى الدول بألا تسمح لرعاياها بالاتصال بالمواني المصرية، فأرسل وزير خارجية فرنسا رده بأن هذا الذي يطلبه الباب العالي مخالف للقوانين البحرية، وذلك ما أخذت به الدول. ومضمون تلك القوانين هو: «أن حصار الشواطئ والسواحل يجب أن يكون تاما، وأن يحذر المركب في حالة الحصار التام من دخول الميناء، فإذا خالف حق عليه العقاب.» وأما أن تقطع الدول اتصالها بالمواني المصرية بمجرد التنبيه، فذلك ما لا يقول به أحد ولا تقبله الدول.
وكان الأسطول المصري قد ضبط مركبين روسيين ومركبين نمساويين تحمل المؤن والذخائر للأتراك في سواحل سوريا، فاحتجت هاتان الدولتان، وانتهى الأمر بالاتفاق على أن تصادر الحكومة المصرية المؤن والزخائر وأن تدفع أجرة المراكب فقط، وهكذا قطع الأسطول المصري المدد بحرا عن الجيش التركي في سوريا.
أما إبراهيم باشا، فإنه بعد دخول عكا أمر بترميم جدرانها وأسوارها وقلاعها، ونصب المدافع فيها لأنه عزم على جعلها مركزا لجيشه في بلاد الشام.
وكان علماء الأزهر قد وضعوا ردا شرعيا محكما على فتوى المجلس التشريعي في الآستانة، فأذيع ردهم في جميع الأقطار.
ولما حدث القناصل محمد علي في ذلك أجاب أن علماء الأزهر أحفظ للدين وأعرف بأحكام القرآن الكريم من جميع علماء الإسلام، فأنا لم أطلب منهم شيئا، ولكن ما فعلوه إنما هم فعلوه دفاعا عن حرمة الدين من أن تنتهك. أما الرد من جانبي فيحمله ابني إبراهيم إلى قواد السلطان.
لم يضع إبراهيم باشا وقته، فعزم أن ينقض انقضاض الصاعقة على خصومه، فاتجه بعسكره إلى دمشق، وأمر الأمير بشيرا أن يوافيه إليها برجاله، وأمر جيش عباس باشا برقابة الجيش التركي في جهة حمص. وإليك البلاغ الرسمي عن الاستيلاء على دمشق كما نشر في الوقائع المصرية.
في 10 المحرم/11 يونيو توجه العسكر المنصور إلى جهة دمشق، فوصل في 14 منه إلى القنيطرة، ثم انتقل إلى داريا التي تبعد عن دمشق ساعة ونصف الساعة. وفي الساعة الثامنة رتب عسكر آلايات المشاة والفرسان كهيئة قامة. ولما شاهدوا في اليوم التالي نحو 800 فارس من الأعداء في الجانب الأيسر طلبا للحرب، وفي الجانب الأيمن جماعة من المشاة من أهل دمشق، استحسن أفندينا السر عسكر أن يستصحب معه آلايات الفرسان وأحمد بك أمير اللواء مع الأورطة الرابعة من الآلاي الثامن، ويذهب إلى الذين وقفوا إلى الجانب الأيسر، ويذهب قوجه أحمد أغا مستصحبا فرسانه وفرسان العرب إلى الذين وقفوا في الجانب الأيمن. فلما رأى أصحاب المشأمة إقدام أفندينا السر عسكر عليهم ولوا الأدبار، فتبعهم العسكر وقتلوا منهم بعضا وقبضوا على البعض، وكان علي باشا والي دمشق والشوربجي وشمدين أغا في المعسكر في المكان المسمى «المرجة»، وكل من أمين الكلار والمفتي والنقيب ورشيد أغا والترجمان في بيت أمين الكلار والقاضي في المكان المسمى «باب توما»، فهربوا جميعا وكانوا نحو 1500 فارس و500 راجل، وحينئذ جاء جماعة من المدينة طلبا للأمن والأمان، وطلبوا أن يتشرفوا بمقابلة أفندينا رئيس العسكر، فأرسل إليهم رسولا يبلغهم بأنه أعطاهم ما طلبوه من الأمن والأمان.
لوحة تذكارية تمثل إبراهيم باشا يقود جنوده أثناء حصار عكا واقتحامه أسوارها.
وعند شروق الشمس وصل الأمير بشير ومعه نحو 5000 من الفرسان والمشاة، وتقابل مع أفندينا، وذهب مع رجاله إلى المدينة من طريق وذهب أفندينا إليها من طريق آخر. وبينما هو في الطريق حضر كبارهم لاستقباله، وفي الساعة الرابعة أعد لكل فريق من جيشه المنصور مكانا خاصا به في المدينة، ونظم شهاب الدين هذين البيتين في تاريخ فتح دمشق:
ولما جل شأن عزيز مصر
ودان لعزه غرب وشرق
دعته الشام شرفني وأرخ
بيمن العز قد ملكت دمشق
ولما كان بعض الدروز والمتاولة قد نهضوا لارتكاب الشغب في لبنان والبقاع وحوران بتحريض القواد الترك، أمر إبراهيم باشا بنزع سلاحهم وبتوزيع 13 ألف بندقية على اللبنانيين لمطاردة المشاغبين.
ورأى إبراهيم باشا تأليف مجلس شورى في دمشق لضبط الأعمال، فصدر عن ذلك البيان الآتي الذي أعلن في 15 صفر:
صدر أمر السر عسكر إبراهيم باشا في 15 صفر إلى الأشخاص المذكورة أسماؤهم فيما بعد، وهم من أشهر عائلات دمشق الشام وأكابرها وأعيانها وشيوخها؛ ليكونوا أعضاء المجلس المخصوص، وهم: محمد حافظ بك العظم، وسليم أفندي كيلاني، ومحمد أفندي عجلان، ومحمد نسيب أفندي حمزة، وعلي أغا كاتب الترجمان، وصالح أغا المهايتي، وعلي أغا كاتب الخزانة، وعبد القادر أغا كيلاهلي، وأحمد أفندي البكري، وأحمد أفندي المالكي، ومحمد راغب أفندي حسني، وأحمد أفندي أنسي، وإبراهيم بك المسودن، والحاج نعمان أغا باشجي، والشيخ سعيد، والحاج إبراهيم بستولي من التجار، وصباحي أغا الحكيم، ومحمد أغا الكبير، ومحيي الدين أغا خير، وعبد القادر أغا خطاب من أغوات الاختيارية، والخواجه روفائيل الصراف، والخواجة ميخائيل كحيل، وجميعهم 22 ذاتا.
فليكن معلوما أنه عملا بالحديث القائل: كل راع مسئول عن رعيته. وجب علينا النظر في أمور الرعية وأحوالها بما فيه الراحة والرفاهية من كل الوجوه، الأمر الذي لا يحصل إلا بنشر بساط العدل والإحسان عليهم وفصل الأحكام فيها بالحق. قد استحسنا تشكيل مجلس مخصوص من خواص العقلاء وأصحاب الرأي من الأعيان والأكابر والتجار للنظر في القضايا والمشورة فيها؛ ولذلك قد اخترناكم من عموم أهل دمشق الشام، وأذناكم بسماع الدعاوى وبتحويل الشرعية منها على الشرع الشريف.
أما ما يتعلق بسياسة الأمور الأخرى، فيكون الفصل برأيكم وبعد التشاور وتداول الآراء بين أرباب المجلس جهرا، واتفاق الآراء يحكم بما تتفق عليه الآراء، وبعد الحكم يقدم تقرير بذلك إلى مجلسنا للتنفيذ، ويكون ذلك بلا ميل ولا غرض في النفس ولا شهوة خاطر، ولا انحراف إلى كبير أو صديق أو وجيه. وكل من أخفى رأيه لعلة أو لعدم نقد كلام من هو أعظم منه من أرباب المجلس، فيكون قد خالف أمرنا وأوقع نفسه تحت طائلة الملامة.
صدر أمرنا هذا ليكون حجة عليكم، فاغتنموا ثواب الرعية وجزاء الخدمة الدينية الجليلة، والحذار الحذار من الخلاف.
وبعد احتلال دمشق أسرع إبراهيم باشا بجيوشه لمقابلة قوات الباشوات الترك في حمص.
الفصل الثالث
بعد فتح دمشق.
الزحف على حلب. ***
يقول المصريون: إن الشام جنة الدنيا، وقد فتحنا لهم الشام فماذا يريدون فوق ذلك؟
من كتاب إبراهيم باشا لوالده
في 15 يونيو 1832 دخل إبراهيم باشا دمشق وأقام عليها أحمد بك العظم متسلما، إلى أن أعلن تأليف المجلس المخصوص من 22 عينا ليتولى شئون الولاية والألوية. وكان محمد علي باشا قد عين محمد شريف باشا واليا على دمشق، ووكل إبراهيم باشا إلى الأمير بشير تعيين المتسلمين، فعين متسلمي صيدا وبيروت وطرابلس واللاذقية من الأمراء الشهابيين أبناء عمه، وصدرت أوامر إبراهيم باشا إلى محمد منيب بك والي عكا بتأييد هؤلاء المتسلمين. ولم يصرف إبراهيم باشا سوى أيام قليلة في دمشق؛ لأن الباشاوات قواد الجيوش التركية كانوا قد اجتمعوا بجيوشهم في سهول حمص، فصمم على مباغتتهم والزحف على حلب للاستيلاء عليها، وكانت حلب آخر مرمى محمد علي إذا لم يضطره السلطان إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك. ولما كان محمد علي واثقا كل الوثوق من الفوز والنصر ومن الاستيلاء في أيام قليلة على مدينة حلب، عقد النية على أن يمهد الطريق السياسي، فاستأجر مركبا فرنساويا في 24 يونيو ليحمل منه رسالة إلى حاكم مالطة الإنكليزي، بغية أن يرسلها هذا الأخير إلى حكومته؛ لأنه لم يكن يثق أقل ثقة بالقنصل الإنكليزي، لما كان يظهر من الجفاء نحو مصر ودس الدسائس لمحمد علي وإبراهيم، وليحمل رسالة من قنصل فرنسا إلى حكومته بآراء محمد علي.
وقد حدثنا عن ذلك قنصل فرنسا ميمو في رسالته إلى وزير الخارجية سيبستياني فقال:
إن محمد علي لم يستأجر السفينة الفرنساوية لتحمل إلى مرسيليا ومنها إلى أوروبا خبر فتح دمشق، ولكنه استأجرها لتحمل منه رسالة إلى الحكومة الإنكليزية بواسطة حاكم مالطة؛ لأنه لا يثق بالقنصل الإنكليزي، ويعتقد بأنه يتلاعب بالإعراب عن أفكاره وآرائه. أما أنا فلم يسلمني رسالة، ولكنه أملى علي أفكاره التي يريد أن يعرضها على وزير الخارجية، وهي:
يرى محمد علي أن تركيا واصلة حتما إلى أزمة من الأزمات الكبيرة التي يتقرر بها مصير الأمم والدول، والآن يتم الانفصال بين شطرين من السلطة تقضي الحوادث والأنظمة والضرورة والأقدار بفصل أحدهما عن الآخر. وكان بالإمكان تلافي ذلك لولا غفلة السلطان؛ لأن محمد علي كان يود دائما - بالرغم من انفصال أحد الشطرين عن الآخر بالفعل والواقع - أن يظل التابع الخاضع المخلص، ولكن العناية أرادت غير ما أراد، فالآن قد تم تأليف المملكة العربية، والبلاد العربية هي مهبط الوحي، وهي تحتضن الأماكن المقدسة، وفيها مقر الخلافة وتطوقها الجبال من كل جانب كالأسوار، وإذا اضطرت للدفاع عن نفسها أنشأت القلاع والحصون التي سيتضاعف عددها.
واليوم ننتظر أن يرتمي أسطول السلطان وجيشه على أسطول محمد علي وجيشه، فيكون مصير أسطول السلطان وجيشه السحق. فلماذا مواصلة هذا القتال الذي لا فائدة منه؟ وأية أمة أوروبية تجد فيه ربحها؟ فلا هي فرنسا ولا هي إنكلترا ولا النمسا ذاتها. وذلك للأسباب التي يعرفها الجميع ولا يجهلها أحد.
والدولة الوحيدة التي يهمها سقوط السلطنة العثمانية هي الدولة الروسية. ألا يقوم الدليل على ذلك بدفعها الباب العالي بكلتا يديها ضد محمد علي مع إعلان الغضب والسخط عليه؟
فمنذ تملكت الغفلة الباب العالي نراه لا يعمل شيئا إلا بنصيحة روسيا وأوامرها، وروسيا تعرف أن مصر صارت قوة، وأن هذه القوة تؤيد عند الحاجة الباب العالي ضدها. ولكن الجنون تملك الباب العالي فانساق لإرادتها ضد الشطر القوي الحي في السلطنة، ولذلك تريد روسيا أن يمزق بعضنا البعض.
فهل تسمح فرنسا وإنكلترا بأن تحفر السياسة الخادعة هذه الحفرة ليتردى فيها الجهل والغباوة؟
إن عليهما وحدهما وعلى رأيهما ووساطتهما الحيلولة دون فعل الدسائس، فإذا فعلتا كان عملهما خدمة للباب العالي ذاته وللسلام وللإنسانية.
أما محمد علي، وإن كان قد أهين وسب، فهو لا يطلب - والنصر حليفه - إلا ما كان يطلبه قبل القتال، فلا يمتد نظره إلى أبعد من إلحاق سوريا حتى حلب بولاية مصر تحت سيادة السلطان، وعلى شروط موافقة للسلطان كل الموافقة. أما إذا ترك قياد السلطان لصديق ماكر، فقد تكون النتيجة عليه بلايا شديدة.
فهو الآن محتقر مكروه من جميع المسلمين؛ لأنهم يعدونه المخرب والعدو للسلام. أما محمد علي، فهو في نظر الجميع السند للدين والمدافع المخلص عنه، والمؤمنون في جميع أنحاء السلطنة تتجه أنظارهم إليه، وكل جهة ترسل إليه رسلها في طلب المساعدة والعون.
وهل من يشك الآن في أن الانتصار في سهول حلب بفضل عبقرية إبراهيم العسكرية، وبفضل تفوق العرب، وبفضل فوز الأسطول المصري، سوف يحكم بمصير إستامبول؟
فإذا كانت الدولتان الصديقتان تريدان أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فمحمد علي يود إبلاغه ذلك. وعنده أنه لم تبق إلا هذه الوسيلة للحيلولة دون انحلال السلطنة، وهذه الوسيلة هي المتفق عليها بين جميع عقلاء السلطنة؛ لأنها تصون الوحدة التي تساعد على إنقاذ الجميع.
وأشار قنصل فرنسا إلى فتنة والي أشقودرة قبل ذلك، وأنه كان الغرض منها خلع السلطان وتولية ابنه تحت مجلس وصاية.
ذلك كان مسعى محمد علي السياسي المقرون بالنجاح العسكري، ولكن هذا المسعى لم يوقفه عن إرسال النجدات لإبراهيم، فأرسل إليه ستة آلاف جندي نظامي؛ حتى قالوا إن مصر خلت بعد هذا من الجند النظامي؛ لأن محمد علي كان في مأمن من الأسطول التركي.
وكان جيش إبراهيم باشا مؤلفا يوم دخوله دمشق من 30 ألفا، يؤيدهم 15 ألفا من رجال الأمير بشير الشهابي، وصدر أمر محمد علي إلى أسطوله بالخروج إلى البحر للبحث عن الأسطول التركي وهو مؤلف من:
3 سفن صف، وسلاح كل واحدة أكثر من 100 مدفع.
1 سفينة صف، سلاحها 74 مدفعا.
5 فرقاطات، سلاح كل واحدة 60 مدفعا.
2 فرقاطتان، سلاح كل واحدة 44 و50 مدفعا.
ويتبع ذلك مثل هذا العدد من السفن الأخرى الصغيرة الحربية، و4 جرافات كبيرة يتولى قيادتها جماعة من اليونان، وهذا ما دعا الباب العالي إلى الاحتجاج لدى الدول؛ لأن محمد علي استخدم في بحريته متطوعة اليونان من أهالي الجزر.
أما قواد السفن الكبيرة، فكانوا فرنساويين اثنين وإنكليزيا واحدا ومصريا كان قد أتم تعليمه في البحرية الفرنساوية، وكان أميرال هذا الأسطول محمد عثمان باشا، وهو رجل شديد البأس واسع المعرفة.
أما الأسطول التركي فكان مؤلفا من:
2 من السفن الضخمة، سلاح كل واحدة منهما 140 مدفعا.
3 سفن، سلاح كل واحدة منها 84 مدفعا.
6 فرقاطات، منها ثلاث كبيرة.
10 نسافات.
5 جرافات.
2 زورقان.
1 نقالة.
وكان سلاح الأسطول التركي أضعف من سلاح الأسطول المصري، وأكثر رجاله ممن لم يركبوا البحر، فلم يكن أحد من رجال البحر يصدق أن أسطول السلطان يستطيع مواجهة أسطول مصر. •••
أما خطة إبراهيم باشا، فكانت القضاء على جيش الباشوات في حمص، وهو لا يزيد على 26 ألفا قبل وصول جيش السر عسكر حسين باشا وهو 12 ألفا، وقد جاء من طريق قونيه ومر بطريق أنطاكية .
نهض إبراهيم باشا من دمشق في 30 يونيو قاصدا حمص، ومعه الأمير بشير وابنه الأمير خليل وأمراء وادي التيم ومشايخ نابلس، ولما وصل إلى النبك وجه الأمير بشيرا ومن معه إلى دير عطية، واتجه هو ذاته إلى القصير، فخيم على مجرى نهر العاصي ثم نهض إلى بحيرة حمص. وبينما كان مجدا السير كان الباشاوات الترك الثمانية منهمكين بتبادل الزيارات وتقبل التحيات ونصب الخيام الضخمة ... إلخ.
ففي صباح 8 يوليو انقض جيش إبراهيم على حمص انقضاض الصاعقة، فمزق شمل الجيش التركي كل ممزق، واستولى على سلاحه ومهماته ومراسلاته، ومنها رسالة من الباب العالي إلى باشا حلب بأن يرسل إبراهيم باشا حيا إلى إستامبول. وبلغ عدد قتلى الجيش التركي 2500، وقتلى الجيش المصري 102، وجرحاه 162، وأسر الجيش المصري نحو ألفين أرسلوا إلى عكا وخيروا بين الذهاب إلى بلادهم أو الانضمام إلى المعسكر المصري في بلدة النحيلة.
أما الباشاوات قواد العسكر التركي فكانوا: محمد باشا والي حلب وهو القائد الأكبر، وعثمان باشا والي المعدن، وعثمان باشا والي قيسارية، وعلي باشا والي دمشق، وعثمان باشا والي طرابلس، ومحمد باشا الكريدلي، ومحمد باشا فريق عسكر الجهادية، ونجيب باشا، ودلاور باشا. ولم يقف إبراهيم باشا في حمص، بل سار بجيشه يقصد إلى حماه للحاق بهم، ولكنه تلقى الخبر بأنهم لم يقفوا في حماه، بل تركوا مدافعهم في الطريق وواصلوا السير، فسطت عليهم عربان عنزه، فأرسل إبراهيم باشا إلى عكا في طلب الطوبجية لإصلاح المدافع التي غنمها، وهي جميع مدافع الجيش التركي الذي ارتدت بقاياه بلا مدافع، وبقايا هذا الجيش لا تزيد على 1500 مقاتل.
ولم يقف إبراهيم باشا في حماه، بل واصل السير إلى حلب، وبينما هو في قرية زينان جاءه فرسان العرب بستة من الأسرى فأخبروه أن الباشاوات ومعهم السر عسكر حسين باشا طلبوا من محكمة حلب إصدار حكم بتقديم المؤن للعساكر، فأبت وأبى الأهالي تقديم هذه المؤن، وتظاهروا بالعداء، فغادر الباشاوات حلب إلى عينتاب تاركين في حلب 16 مدفعا والخيام والذخيرة والمهمات، فركب إبراهيم مع الفرسان بقيادة عباس باشا ووصل إلى حلب، فدخلها على الترحاب وقدم له الطاعة قاضيها ومفتيها وأعيانها.
وقبل أن يدخل إبراهيم حلب كتب إلى محمد علي والده يقول: «ها قد فتحنا الشام التي يقول المصريون إنها جنة، فماذا يريدون منا فوق ذلك؟»
وهكذا انتهى فتح الشام الذي كانت بدايته في شهر أكتوبر سنة 1881 ونهايته في شهر يوليو سنة 1882.
وهذا هو المنشور الذي صدر لأهالي حلب:
عمدة العلماء الأعلام، حاكم الشريعة الغراء بمدينة حلب الشهباء، الأفندي الأفخم زيد فضله.
والمأذون بالإفتاء بها نخبة العلماء الكرام، الأفندي المكرم زيد بقاءه.
وفرع الشجرة الزكية، طراز العصابة الهاشمية، قائمقام نقيب أشرافها، الأفندي الأكرم زيد شرف سيادته.
وافتخار الأماجد والأكارم، متسلمها حالا سياف زاده السيد إبراهيم أغا زيد مجده.
مفاخر الأماجد والأعيان، وجوهها الكرام وأعيانها وساداتها ذوي الاحترام.
أحيطوا جميعا علما بأنه يجب قيامنا وتحريك ركابنا لطرف مرعو. فاقتضى إيفاد قائمقام لأجل تدوين أمور بلدتكم وضبطها وإجراء حكومتها وربطها.
بناء على ذلك قد نصبنا رافع أمرنا هذا افتخار الأماجد والأكارم سياف زاده السيد إبراهيم أغا المتسلم الموما إليه، وأبقيناه لأجل إدارة مصالح البلدة ورؤية أمورها.
فأنتم أيها المخاطبون إذا صارت الكيفية معلومكم تكونون جميعا مع الأغا الموما إليه بالاتفاق، وتشدون عضد المواحدة والاتفاق لإيفاء مراسم الخدمة المبرورة وإجراء مراسم المساعي المقبولة المشكورة لدى جانب ولي النعم أفندينا السر عسكر باشا المعظم.
وأنت أيها القائمقام يلزم منك الانتباه واليقظة في محافظة الطرقات وأبناء السبيل، وعدم التعرض لأحد إلا بالوجه الشرعي، واستجلاب دعوات الفقراء والرعية وديعة رب البريه، وبذلك تحوز رضا سعادة أفندينا ولي النعم المعظم ورضانا ... إلخ.
1248
خاتم
إبراهيم توفيق
طغراء
يكن إبراهيم
قائمقامي حلب
الفصل الرابع
آخر معركة في الأراضي السورية وارتداد الترك إلى الأناضول. ***
دخل إبراهيم باشا مدينة حلب في 15 يوليو، ونظم فيها الحامية، واحتل القلعة، وأرسل طلائع جيشه إلى جهة الفرات ليقف على أحوال العراق وأعالي الأناضول، حتى يكون آمنا من تلك الجهات على مؤخرة جيشه. وكان قد عين متسلما لحمص وآخر لحماه من أعيان دمشق، وأعاد الأمير بشيرا إلى لبنان، ولم يبق أمامه لإتمام فتح سوريا سوى القضاء على جيش السر عسكر حسين باشا الذي قلنا إن السلطان محمودا أصدر أمرا بتعيينه واليا على مصر وكريد وبلاد الحبشة وملحقاتها، والرجل كان واليا على أدرنه، وكان مشهورا بقوته البدنية، فما وصل هذا السر عسكر إلى أنطاكية حتى كان إبراهيم باشا قد قضى على جيش الباشاوات الثمانية في حمص، فلم يمكن السر عسكر من الانضمام إلى جيش الباشاوات. والتقى السر عسكر بفلول الجيش المكسور في جسر الشغور، ولم يساعده أعيان حلب على دخول تلك المدينة، فاتجه إلى بيلان.
وبيلان واد بين جبلين عاليين، يطلقون عليه اسم البوغاز، وفيه تمر القوافل بين حلب والإسكندرونة، وهو مشهور في التاريخ بمناعته، وقد كان ممر جميع الجيوش المقبلة من الغرب إلى الشرق، فأخذ حسين باشا يحصنه بمدافعه وجنوده. وقد قالوا إن سلاح جيشه كان 160 مدفعا، وعدد ذلك الجيش ستون ألفا؛ منهم 45 ألف جندي نظامي، فأسرع إبراهيم لمقاتلته قبل أن يسترد جيش السر عسكر قوته وقبل أن يستريح ويتم معاقله في جنبات ذلك الوادي.
وإذا كانت للقيادة أهميتها، والقائد من الجيش كالرأس من الجسم، فاسمع كلمة كلوت بك في حسين باشا سر عسكر جيش السلطان محمود، قال: «ألبس السلطان محمود قائده العام كسوة القيادة العليا، وهي المعطف القصير ذو البنيقة المزركشة بأسلاك الذهب، وأهدى إليه سيفا مرصعا بالألماس وجوادين عربيين مطهمين، وقلده رتبة المشيرية. فمن هو هذا القائد العام الذي فاز بمثل هذه الزلفى من الحضرة السلطانية واقترن نجمه بالسعد إلى هذا الحد؟
هو مبيد الانكشارية، كان في أول عهده حمالا، ثم جاسوسا، ثم رئيس قلعة، ثم مهيجا، ثم جلادا ثم باشا الباشاوات. كان سيفا ماضيا فيما مضى، ولكنه الآن سيف لا يخرج من قرابه، وكان الفريق محمد باشا معتوق حسين باشا قائد الطليعة.» •••
وصل جيش إبراهيم باشا إلى مضيق بيلان في 29 يوليو عند الساعة الثالثة بعد الظهر، وأخذ في الحال يدرس مواقع أعدائه في الجبلين المشرفين على الوادي، فوجد أن جيش السر عسكر حسين باشا قد أهمل بعض الأنجاد العالية، فأدرك لساعته أن احتلال تلك الأنجاد يمكنه من سحق عدوه، فلم يقعد ولم يسترح، بل وجه بعض قواته إلى احتلال تلك المرتفعات، وحول عنها نظر أعدائه بمهاجمتهم وإطلاق المدافع عليهم من الجهة المقابلة، فلم يلتفت قواد الجيش التركي إلى ما وراءهم، فأخذهم جيش إبراهيم بحركة التفاف من ورائهم. وهنا ندع تفاصيل الموقعة ونتائجها للتقرير الرسمي الذي أرسل إلى محمد علي وإلى الأمير بشير وإلى جميع الولاة والمتسلمين في أنحاء سوريا ليذيعوه، وهذا هو نص التقرير، وهو آخر تقرير عن آخر معركة في الأراضي العربية السورية:
القشرة الثامنة لجيش سوريا
في 2 ربيع الأول/29 يوليو في نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل، زحفت قوتنا من جسر مراد باشا، وفي الساعة الثامنة قبل الظهر وصلت إلى المضيق المسمى بوغاز بيلان، وفي الساعة الخامسة أنبئنا أن المشير حسين باشا ومحمد باشا - الذي كان واليا على حلب - وآخرين سواهم قد عسكروا وراء المضيق مع بقية جيوشهم النظامية والمتطوعة، وأنهم نصبوا المدافع على الروابي والآكام، وأنهم نصبوا بعض البطاريات على القنن العالية.
ولما ثبتت للقائد العام إبراهيم باشا صحة هذه الأخبار، أمر اللواء حسن بك أن يتقدم بالآلاي الثالث عشر من المشاة، والآلاي الثامن من الفرسان، مع خمسة مدافع في الطريق الواقع على الميمنة، وسار القائد العام على المسيرة ومعه الآلاي 18 والفرقة 8 البيادة وآلاي الحرس و12 مدفعا.
أما الآلايات الأخرى من الفرسان فأوقفت في الجهات الأخرى من المضيق. ولما رأى العدو تقدم قواتنا أخذ يطلق مدافعه من الآكام المشرفة على طريقي الجيش، ولكن مدافعنا صبت عليهم النار الحامية، فأسكتت بعد ساعة مدافعهم، إلا مدفعا واحدا ظل يطلق نيرانه. وبينما كانت مدافعنا تصب نارها على ميسرة العدو، صدر الأمر إلى الآلاي الثامن بالتقدم. ولم يمض إلا القليل حتى وصل هؤلاء الأبطال إلى الأعالي التي تشرف على مواقف العدو في الميسرة، ومن هناك ضربوه بشدة عظيمة، حتى اضطر إلى الفرار تاركا مدافعه ومهماته وذخائره، فارا عندما أذنت الشمس بالمغيب متجها نحو أدنه .
أما عسكرنا، فإنه صرف ليلته في محل المعركة . وفي اليوم التالي؛ أي 30 يوليو، وجهت فرساننا منذ الفجر لاقتفاء أثر العدو، وذهب باقي الجيش إلى بيلان، وهناك التحق عارف بك أميرالاي الفرقة العاشرة من جيش العدو بجيشنا، فعينه القائد العام أميرالايا للآلاي العشرين من المشاة.
ومما يقوله عارف بك أن فرقته كانت مؤلفة عند قيامه من قونيه من 2268 رجلا، فصار عددها من جراء المرض والفرار والموت في صباح أمس 1888 رجلا.
وبعد فرار عليش باشا من اللاذقية جاء 60 فارسا و600 رجل من الإسكندرونة مستسلمين للقائد العام، فترك لهم حرية البقاء أو العودة إلى بلادهم، وأمر بأن يعطوا حاجتهم في السفر. والذي رواه هؤلاء أن عليش باشا أرسل حريمه إلى قبرص وركب باخرة إلى الإسكندرونة لينضم إلى إبراهيم باشا ومعه ستة مدافع.
أما فرساننا، فإنهم ظلوا يعملون بسيوفهم في مؤخرة الباشاوات حتى أدنه، وعادوا ومعهم 1900 أسير.
وفي أول أغسطس قدم أهل أنطاكية خضوعهم وطاعتهم، فعين خليل بك متسلما لإقليم بيلان، أما باشا حلب فإنه مر بعينتاب تاركا مهماته التي غنمناها، وقد بلغنا أنه الآن بملاطيه ومعه بضعة أنفار.
وخسارة العدو في بيلان 39 مدفعا غنمناها.
وفي 2 أغسطس تلقى القائد العام من أيوب بك من قبيلة مللي كتاب الخضوع، فأثبته القائد العام في وظيفته في أورفة.
وجملة ما غنمناه من العدو في المعارك: 80 مدفعا، ومدفع هاون، وكمية كبيرة من الذخائر من كل نوع، وعدد قتلاه والأسرى أكثر من 12 ألفا، أما الفارون فعددهم كبير جدا. والذي يؤخذ من تقرير عارف بك أن الجيش التركي كان في جهة حمص 36 ألفا نظاميا، لم يلحق منهم بحسين باشا سوى 5 آلاف، وكانت خسائرنا في بيلان 20 جريحا وقتيلا. ا.ه.
سوريا الشمالية.
ومن المخطوطات المحفوظة كتاب إبراهيم باشا إلى متسلم دمشق أحمد بك العظم عن هذه الموقعة الأخيرة في البلاد العربية، وهو بنصه:
افتخار الأماجد الكرام، ذوي الاحترام، الحاج أحمد بك. غب السلام التام بمزيد العز والإكرام نبدي إليكم: إنه نهار الأحد الواقع في 12 ربيع أول سنة 1248 قد لاقت حلول ركابنا بالعساكر المنصورة إلى مرحلة خان قراموط لأجل ضرب عساكر المحتشدين في بوغاز بيلان.
وفي الساعة الستة باليوم المذكور قد تحرك ركابنا من مرحلة الخان المذكور بالعساكر المنصورة وآلة الحرب المهولة، حيث إن البوغاز المرقوم المتحصنين فيه بالقرب من المنزلة التي تحول ركابنا بها.
وفي الساعة التاسعة قد كانت المصادمة في عساكر الدشمان وابتداء ضرب الأطواب عليهم.
وبخصوص تحصينهم بعمل الطوابي وعسر الطرقات هذا جميعه ما أفادهم شيء سوى أنه في مسافة ساعتين زمان الذي تبقى منهم بعد الذين قتلوا وانمسكوا باليد ما بين مجروح وقتيل، قد فروا هاربين وللنجاة طالبين مهزومين إلى ناحية أدنه عن طريق إسكندرونة، وتركوا أطوابهم وموجوداتهم، فعند ذلك حالا صدر أمرنا بتوجيه خيالة العساكر المنصورة الجهادية والعرب لأجل اتباع أثرهم ومسكهم جميعا، بحيث إنه لا ينفذ منهم أحد. وبحوله تعالى لا بد من حصول المراد وتدمير الجميع، فبناء على ذلك أصدرنا إليكم مرسومنا هذا لكي بوصوله تعلنوا البشائر إلى جميع المقاطعات، لكي يكونوا جميعا حائزين على السرور والفرح على النصرة العظيمة والمنة الجسيمة؛ ليكونوا دائما مداومين بالدعوات الخيرية بدوام بقاء هذه الدولة السعيدة بوجود دولة أفندينا ولي النعم والدنا عزيز مصر المعظم.
فبناء على ذلك أصدرنا لكم مرسومنا هذا؛ اعلموه واعتمدوه غاية الاعتماد.
وبعد استيلاء إبراهيم باشا على بيلان، أرسل إليه مفتيها السيد محمد واثنان من كبارها؛ هما أحمد أفندي والحاج إسماعيل أغا أخو محمد باشا أحد القواد الترك، الكتاب الآتي:
يا صاحب السعادة
أمام أقدامكم نقدم خضوعنا، والفرح الذي دخل على قلوبنا بوجودكم لهو فرح عظيم ينسينا جميع الآلام التي أصابت مدينتنا مدة وجود جنود الأعداء فيها، فهؤلاء الجنود لم يبقوا على شيء. فمنازلنا وأموالنا ومواشينا وغلالنا نهبت، ولجأنا إلى الجبال وقاية لحياتنا، ومن هذه الجبال رفعنا الدعوات لنصر جيوشكم ولنجاح مقاصدكم في إنقاذ بلادنا.
فاسمحوا لنا أن نتقدم إليكم بأشخاصنا لنكرر لكم تأكيد عواطف محبتنا، وعرفان الجميل الذي نضمره لكم من زمن بعيد.
وأرسل متسلم بيلان وأخوه مصطفى باشا الكتاب الآتي:
يا صاحب السعادة
منذ عشرين سنة ونحن نود الانخراط في سلك خدمة عزيز مصر، ولم نتوان عن رفع الدعوات لنجاح بيتكم الكريم، حتى أسعدنا الحظ بأن وصل إلينا خبر وصولكم إلى هذه البلاد التعسة وتخليصها من أيدي غاصبها.
ولقد فعلنا كل ما كان بإمكاننا فعله لتنفيذ الأوامر التي شرفتمونا بها، وإذا كنا قد عجزنا عن المجيء قبل الآن لنقدم لسعادتكم الخضوع الواجب، فلأنه قبض علينا الظالمون، ووضعونا تحت أنظارهم؛ لذلك أخرنا إلى اليوم هذا العمل المفرح الذي كنا بانتظاره. ا.ه.
الفصل الخامس
ماذا فعل الأسطول المصري؟ ***
تولى محمد علي مصر في سنة 1805، ورد الإنكليز عنها في سنة 1807، وعرف أن حكما أو ولاية أو ملكا مستقلا لا يستند إلى القوة لهو ملك زائل ضائع. ولم يخطر له أن يستقل عن تركيا كل الاستقلال، ولكنه خطر له أن يجعل نير سيادتها عليه خفيفا جهد الطاقة - كما يقول مؤرخوه. فبعد أن وحد حكم مصر وأزال حكم الإقطاع والمماليك، وجه نظره إلى تنظيم قوته البرية والبحرية: فبعد أن كان جيشه 20 ألفا جعله بإرشاد سليمان باشا - الكولونيل «سيف» القائم تمثاله في وسط القاهرة وفي الميدان المعروف باسمه - والجنرال ليفرون، والجنرال بواييه، والكولونيل جودان، مائة ألف. فدرب على أحسن الأساليب والأنظمة الحديثة، ووضع نظام القرعة ليكون الجيش مصريا بحتا، ويتخلص من متطوعة الأرناءوط والجركس وسواهم ممن لا يستطاع الركون إليهم، ووجه عنايته إلى الأسطول كما وجه هذه العناية إلى الجيش، ووكل إلى الأميرال بيسون إنشاء الأسطول، كما وكل إلى الكولونيل سيف تأليف الجيش، ولكن مصر الواقعة على البحرين الأبيض والأحمر بحاجة إلى أسطولين بحريين، ومصر الجاري النيل في وسطها بحاجة إلى أسطول نهري ليصل عليه إلى السودان؛ فأنشأ الأساطيل الثلاثة.
ولما كلفه السلطان بإخماد ثورة الوهابيين، الذين استفحل أمرهم؛ فهدموا المساجد والمزارات والقباب في الأماكن المقدسة، وانتزعوا الزينات كالأواني والمصابيح والقناديل من الذهب الخالص و500 لوح من النحاس مصفحة بالذهب و20 سيفا مرصعا بالجواهر عدا الطنافس من الروضة المطهرة، وأخذوا اللؤلؤة الكبيرة وهي بحجم البيضة، وكانت معلقة فوق الضريح الشريف باسم «الكوكب الدري»؛ لما كلفه السلطان بإخماد فتنهم، لم ير بدا من إنشاء أسطول البحر الأحمر، فكان يعد قطع الأسطول في الإسكندرية ويكلف عشرة آلاف بدوي بحملها إلى السويس؛ حيث ركب ثماني عشرة سفينة في مدى شهرين فقط يتراوح محمول وحداتها بين مائة طن و250 طنا، وكان العمال بالسويس أكثر من ألف عامل من إفرنج وأروام، وجعل مخازن المؤن بالقصير ومخازن المهمات الأخرى بالسويس، وكان محمد علي يقطع المسافة بين القاهرة والسويس في 18 ساعة، وكانت القوافل تقطعها في ثلاثة أيام.
ولما استفحل أمر الثوار اليونان ومزقوا جيش خورشيد باشا الذي كان يناوئ «محمد علي» في مصر - وعدد هذا الجيش خمسون ألف مقاتل، انتحر بعد الانكسار قائده ودمر اليونان المراكب التركية - طلب السلطان برسالة تاريخها 16 يناير 1824 من محمد علي أن يرسل جيشه إلى المورة لإبادة العصاة. ولما تلا بوغوص بك وزير خارجية محمد علي على مولاه كتاب السلطان، صاح في وسط الديوان: «فليضع الله جميع تيجان الأرض على رأسك؛ إنك أهل لذلك وجدير به، وإنك الآن بطل أفريقيا وبونابرتها»؛ لأن استنجاد السلطان بالوالي كان أمرا عظيما جدا.
وفي 10 يوليو 1824 قام الأسطول المصري من الإسكندرية، وهو مؤلف من 63 سفينة حربية، ومن مائة سفينة نقالة ترفع أعلام الدول ما عدا فرنسا، ونقلت هذه السفن الأورط المصرية المنظمة على النظام الحديث؛ وهي أربع أورط، وأربعة بلوكات من مهندسي الطرق، و700 جواد بإمرة حسن بك، ومدافع الحصار والميدان. وكان إسماعيل أغا يقود الأسطول ويقود الجيش إبراهيم باشا، فبعد أن قهر إبراهيم الثوار بمعاونة الجيش التركي اتفقت الدول الثلاث فرنسا وروسيا وإنكلترا على إنقاذ اليونان.
وأبلغوا ذلك إبراهيم باشا، فأجابهم أن الأمر للسلطان ولوالده، ورفض السلطان وساطة الدول، وصدر أمر محمد علي لإبراهيم بمواصلة القتال، وأرسل إليه 92 مركبا عليها أربعة آلاف جندي نظامي. وكان أسطول إبراهيم مؤلفا من سفينتين كبيرتين؛ سلاح كل واحدة 84 مدفعا، و12 فرقاطة كبيرة؛ سلاح كل واحدة 65 مدفعا، و27 سفينة صغيرة، و41 نقالة. فاجتمعت هذه السفن المصرية بالسفن العثمانية واصطفت على شكل هلال، وفي 28 أكتوبر 1827 دخلت أساطيل فرنسا وإنكلترا وروسيا بين الأسطولين المصري والعثماني، ولم يبد منهم العدوان، ولكن سفينة إنكليزية تحرشت بنسافة تركية، فوقع القتال بينهما. وظل محرم بك قائد الأسطول المصري على الحياد، ولكنه اضطر للاشتراك بالمعركة التي دامت أربع ساعات، وأنقذ إبراهيم باشا، وأصلح من أسطوله سفينة كبيرة وست فرقاطات وعشر زوارق مسلحة و35 مركب نقل؛ هذا كل ما بقي من الأسطول المصري.
وفي شهر أبريل 1829 وكل محمد علي إلى المهندس البحري سريزي ترميم أسطوله وإنشاء أسطول جديد بمعاونة المسيو بيسون. وكان يستخدم في بناء الأسطول أربعة آلاف عامل من رجال الصعيد الأشداء، يرشدهم مائتا عامل أوروبي من عمال البحرية، وإنشاء الحياض ودار الصناعة لصنع السلاح والذخائر، ويشرف على العمل بنفسه، فيكافئ المجتهدين ويوبخ ويعاقب المهملين، حتى تمكن من أن يرسل لحصار عكا خمس سفن ضخمة؛ سلاح كل واحدة مائة مدفع، ومن فرقاطات عديدة قطعت البحر على الأمداد التركية، فأسرت سفينتين روسيتين تحملان الذخائر والمؤن لعكا، وسفينتين نمساويتين تحملان مثل ذلك لطرابلس، وفرقاطة تركية وزورقين مسلحين في خليج الإسكندرونة. ونقلت سفن الأسطول آلايين مصريين من الحامية المصرية في كريد إلى سوريا.
ولما اتجه السر عسكر حسين باشا بقوته من الأناضول إلى سوريا، صدر الأمر السلطاني إلى قبطان باشا بأن يسير بالأسطول إلى الإسكندرونة، وكان هذا الأسطول مؤلفا من سفينتين كبيرتين؛ سلاح كل واحدة 140 مدفعا، ومن أربع سفن؛ سلاح الواحدة 65 مدفعا، ومن 8 فرقاطات مختلفة الحجم، ومن عشر طرادات صغيرة، و8 زوارق مسلحة، وزورقين صغيرين، ومركب بخاري، و45 نقالة من مراكب الأمم الأخرى. فأصدر محمد علي في 14 يوليو أمره إلى أسطوله بالخروج ومقابلة الأسطول التركي، وكان أسطول مصر مؤلفا من ثلاث سفن؛ سلاح كل واحدة مائة مدفع، ومن خمس فرقاطات؛ سلاح كل واحدة 60 مدفعا، ومن فرقاطتين؛ سلاح كل واحدة منهما 52 مدفعا، ومن 5 طرادات؛ سلاح الواحدة من 22 إلى 25 مدفعا، ومن 8 نسافات؛ سلاح الواحدة من 8 إلى 20 مدفعا، ومن 20 نقالة، و6 جرافات، ومدفعية بقيادة عثمان باشا والأميرال وسطوش بك وكيله. واستخدمت تركيا باخرتين نمساويتين وأخرى روسية لنقل أخبار الأسطول المصري إليها، واستخدمت مصر باخرة فرنساوية وأخرى إنكليزية للغرض ذاته. وكان قيصر روسيا قد تظاهر بعداوة مصر، فسحب قنصله من الإسكندرية وحرم على السفن الروسية خدمة مصر.
ولما وصل الأسطول التركي إلى رودس انقسم قسمين: قسم ليقل الرجال والمؤن إلى جهة الإسكندرونة لتعزيز قوة السر عسكر، وآخر لجأ إلى لارانكا في سواحل قبرص، وبعد قليل وصل الأسطول المصري إلى ليماسول في الجانب الآخر من قبرص.
وأخذ الأسطول المصري زورقين حربيين من زوارق الأسطول التركي بلا قتال، والتقت بعد ذلك فرقاطة مصرية بطرادة تركية سلاحها 26 مدفعا، فقبضت عليها بلا قتال، إلا طلقة واحدة أطلقتها الطرادة.
وكان عشرون مركبا قد أنزلت المؤن والذخائر في الإسكندرونة، فاستولى عليها المصريون بعد انتصارهم في حلب؛ لأن هذه المراكب وصلت متأخرة.
والذي يؤخذ من تقارير بعض القناصل أن محمد علي أصدر أمره إلى أسطوله في قبرص بأن يرقب الأسطول التركي، ولا يهاجمه إلا إذا حاول إنزال الجنود في الجزيرة. وفي تقارير قواد السفن الأوروبية أن خليل قبطان باشا كان يتحاشى لقاء الأسطول المصري، وأن هذا الأسطول انتقل من ليماسول إلى لارانكا بعد خروج الأسطول التركي منها متجها إلى سواحل كارامانيا؛ حيث اتصلت به في أغسطس إحدى السفن الحربية الفرنساوية، فقال قبطان باشا لقائد تلك السفينة إنه لا يتوخى قتال الأسطول المصري إلا إذا اصطدم به؛ لأن لأسطوله مهمة أخرى.
وفي 18 أغسطس التقى الأسطولان، ولكنهما لم يقتتلا؛ لأن الأسطول المصري توارى تحت جنح الظلام بلا قتال. ولما التقى قائد الطرادة الفرنساوية بالأسطول التركي في 24 أغسطس، قال له إنه يفضل أن يكون تحت حكم محمد علي على أن يكون تحت حكم السلطان.
وفي أوائل شهر سبتمبر أرسل محمد علي مع قومندان البارجة الإنكليزية - التي كانت تنقل إليه الأخبار - كتابا إلى قبطان باشا يقول له فيه إنه قد حان الوقت لحقن دماء العثمانيين، وإنه يود تلافي الخطب الذي يهدد السلطنة إذا رفض السلطان أن يترك له حكم سوريا مقابل الإتاوة اللازمة، كما كان يحكم تلك البلاد الباشاوات الذين تقدموه. فأرسل خليل باشا الرد بأنه من رأي محمد علي باشا، وبأنه أرسل كتابه إلى إستامبول، وسيرسل إليه الرد. وطلب من محمد علي أن يرسل إليه يوسف بوغوص بك لذكانته، ووعد قبطان باشا بالمجيء إلى مصر إذا كان رد الباب العالي بالموافقة. وبعد تبادل هذه الرسائل مع قبطان باشا، أمر محمد علي بإعداد الأماكن اللازمة لنزوله ولرسو أسطوله، وهكذا كانت الهدنة بين الأسطولين.
الأساطيل المصرية في موقعة نوارين.
ولما أبطأ رسول قبطان باشا بالمجيء، أمر محمد علي أسطوله بالعودة إلى حالة الحرب، فقبض الأسطول المصري على مركبين من ثلاثة مراكب كانت تنقل «البقسماط» للأسطول التركي من سلانيك. وكان محمد علي يحاول تخويف قبطان باشا بكل الطرق والأساليب؛ ولعلمه أن قنصل النمسا ينقل الأخبار إلى الباب العالي، كان يصرح أمامه بأنه سينزل آلايان في خليج مرماريس، ويركب هو ذاته البارجة الجديدة القاهرة، ويأمر الأسطول بأن يضرب الأسطول التركي بحرا، كما تتولى البطاريات المصرية بقيادة الضابط ريمي - الذي اشتهر بحصار عكا برا - ضرب الأسطول التركي من البر. ولما وصل إلى قبطان باشا أن الباب العالي قرر تعيين خلف له في قيادة الأسطول، عاد بأسطوله إلى الدردنيل، وذهب الأسطول المصري إلى خليج السودا بكريد، ثم تلقى الأمر بالعودة إلى الإسكندرية لإصلاح عدده.
وظل محمد علي مجدا في تعزيز أسطوله، حتى صارت السيادة على شرقي البحر المتوسط للأسطول المصري وحده، وحرم الترك كل مساعدة من جانب أسطولهم، إلى أن جمع السلطان في سنة 1839 جميع ما في الدولة من القوات والقوى البرية والبحرية، فوجه جيشه ضد إبراهيم، وأخرج أسطوله لضرب الإسكندرية بقيادة أحمد فوزي باشا، فهدم إبراهيم آخر جيوش السلطان في «نصيبين»، وجاء الأسطول التركي إلى الإسكندرية، فسلم لمحمد علي، وظل هناك إلى ما بعد عقد الصلح، بل كان تسليم الأسطول من أوائل شروط الصلح. •••
وتوفي السلطان محمود، وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد وهو في السابعة عشرة من عمره. •••
هذا ولا تزال بقايا أسطول محمد علي في بواخر الشركة الخديوية ، كما صارت المراسي ملكا لهذه الشركة، وأفضى تألب الدول على مصر إلى حرمانها من النصر والجيش والأسطول ورفع علمها فوق البحار، وانتهت على تركيا بفقدان جيشها وأسطولها وسلطانها. فهل لمصر اليوم أن تستعيد استقلالها وقواتها البرية والبحرية والنيلية بعدما تركت 39 باخرة في السودان بعد الجلاء ثم تعززها بالقوة الجوية؟
الأمر بيد الأمة بعد الله.
بوغوص بك يوسفيان.
الفصل السادس
آخر المعارك في أرض سوريا.
الزحف على قونيه وفتحها.
على أبواب إستامبول.
تحرك السياسة الأوروبية.
تدخل أوروبا وفرضها الصلح.
اتفاق كوتاهيه. ***
كانت معركة مضيق بيلان بين حلب وأنطاكية في 29 يوليو أشد المعارك وآخرها في أرض سوريا. وبعد انتهائها سلمت أنطاكية والإسكندرونة، ووصلت حامية اللاذقية فسلمت، وقد تركها قائدها عليش باشا لاجئا إلى إحدى الجزر بأمواله. وقد عرفنا أن إبراهيم باشا غنم في ما غنم في الإسكندرونة حمولة 17 مركبا كانت ترافق الأسطول العثماني بقيادة قبطان باشا وتحمل المؤن والذخائر إلى جيش السر عسكر حسين باشا.
على أن عباس باشا ظل يطارد العساكر التركية المنهزمة ومعه الفرسان العرب، فلما وصل إلى بياس انتصر على حاميتها وأسر منها 1900 رجل.
ثم تقدم جيش إبراهيم باشا نحو أدنه؛ لأنها كانت مرمى أنظار محمد علي لشدة حاجته إلى الخشب لبناء المراكب، فاحتل إبراهيم باشا طرسوس، ودخل أدنه ذاتها في 31 يوليو 1832، وهناك تلقى إبراهيم الأمر من والده بالوقوف؛ لأنه بلغ الغاية التي كان يرمي إليها من الزحف؛ أي الوصول إلى آخر حدود البلاد العربية وأول بلاد الأناضول؛ أي جبال طوروس.
وقف إبراهيم عن الزحف، ولكنه أرسل آلايين إلى أورفه التي كانت قد قدمت له طاعتها، وأرسل مع الآلايين قوة من الفرسان العرب ليرقبوا الطريق من أرضروم وسيواس وديار بكر، فاحتلوا مدينة مرعش، وأرسل قوة أخرى نحو الفرات، وإن لم يكن يخشى أية قوة تركية هناك؛ لأن العراقيين ثاروا على واليهم داود باشا فقتلوه، وقتلوا معه جميع أنصاره لشدة ظلمه وجوره، وكانوا كسواهم من العرب في صف إبراهيم باشا.
الأساطيل المصرية في نوارين.
ثم ظل إبراهيم من 30 يوليو إلى 21 ديسمبر في موقف الدفاع؛ لأن محمد علي - كما قلنا - كان يريد جس نبض الدول؛ ليعرف هل بإمكانه الاعتماد عليها لتنيله سوريا، ويظل تابعا للسلطان على نحو ما كان قد اقترح على فرنسا وإنكلترا بعد دخول جيشه مدينة حلب، وكما كان قد كتب إلى قائد الأسطول التركي ولم يتلق جوابا.
أما السر عسكر حسين باشا الذي كان موضع ثقة مولاه السلطان، فأغدق عليه إنعاماته، وجعله قائدا عاما لجيشه ولقبه بالمشير الأكرم، وولاه مصر وكريد وبلاد الحبشة؛ فقد كان عند نشوب معركة بيلان واثقا بالنصر جالسا جلسة الملوك في خيمته يتلقى مظاهر الإجلال والإكرام، ولكنه لم تمض ساعتان على نشوب القتال حتى بات طريدا شريدا بين المضايق والآكام، فلم يقفوا له على أثر، ولا سمع عنه أي خبر، ولكنه شاع عنه الكثير مما لم يثبت منه شيء، فقال فريق إنه استأجر مركبا يونانيا ففر بأمواله وأموال الجيش إلى إحدى الجزر، وقيل إنه لجأ إلى قرية صغيرة في بورصة، وقال آخرون إن رجاله فتكوا به وأخفوا أثره.
والظاهر أن الباب العالي صدق الرواية الأولى، فكلف إحدى السفن الإنكليزية أن تبحث عنه في الجزر وتستعيد منه الأموال، ولكنه ظهر في النهاية أن الرجل أصيب بالرمد الصديدي وفقد نظره في إحدى مزارع ولاية بورصة.
كانت عين محمد علي متجهة إلى إنكلترا وحدها؛ لمعرفته أن فرنسا تؤيده في أن يكون والي سوريا، وأن الروسية تظهر العداوة له حتى اقترحت إرسال جيش روسي لقتاله، وأن النمسا تخدم سياسة الباب العالي.
أما إنكلترا، فإنها لزمت الصمت التام؛ لأن سياستين قويتين كانتا تشدان أطراف الخطة التي يجب عليها اتباعها؛ فالخطة الأولى هي أن تدع محمد علي يؤسس الدولة العربية الفتية القوية؛ لتكون حاجزا في وجه التيار السلافي الذي قضى على الدول، بأن تصون تركيا من الضياع لصد ذلك التيار، ولكن تركيا ظهرت يومئذ بمظهر الشيخوخة والعجز.
والخطة الثانية هي الاحتفاظ بتركيا وتقويتها؛ لتظل ذلك الحاجز، وهدم الإمبراطورية المصرية النابتة؛ لأنها إذا عاشت تمتلك آسيا وأفريقيا، وبذلك تقوم حاجزا قويا على طريق الهند الذي كانت قد زحزحت عنه نابليون في سنة 1798، وجاء محمد علي النابغة الأمي - كما يسمونه - ليتم خطة نابليون.
تانك هما الخطتان اللتان كانتا تقضيان على إنكلترا بالسكوت إلى أن تعرف الجهة التي تتجه إليها.
بينما كان محمد علي يريد تنظيم عمله على اتجاه السياسة الأوروبية - وقد كانت هذه السياسة غامضة من جانب إنكلترا للسبب الذي بسطناه - كان إبراهيم يرى السياسة بالحزم وأخذ الأمور بالقوة، والقوة في يده، وإيقاف الدول أمام الأمر الواقع؛ لذلك كان يستأذن والده بالزحف على قونيه، بل على الآستانة، ويستأذنه في أن يحمل خطباء المساجد على إلقاء الخطبة باسمه، فكتب محمد علي إلى إبنه إبراهيم في 8 سبتمبر ما يلي:
تقول لي في كتابك إنك تريد أن «تمسك المعدن وهو حام»، وإنك تريد أن يخطب باسمي في جميع المساجد والمعابد.
فاعلم يا ولدي أنا لم نصل إلى مركزنا الذي نشغله الآن إلا بقوة الوداعة وخفض الجانب، فإنه يكفيني أن أحمل اسم «محمد علي» خالصا من كل رتبة وزينة، فهو أكبر لي من جميع ألقاب السلطنة والملك؛ لأن هذا الاسم وحده هو الذي خولني الشرف الذي يجللني الآن، فكيف أستطيع يا ولدي أن أتركه إلى سواه؟! لا يا ولدي، إني أحفظ اسمي «محمد علي»، وأنت يا ابني تحفظ اسمك «إبراهيم»، وكفى، وعليك رحمة الله وبركاته.
ولما عرفت فرنسا بخطة إبراهيم أبلغت المسيو ميمو قنصلها لدى محمد علي بأن يبلغه: أن الحملة الجديدة بعد نجاح الأولى نجاحا باهرا تفضي إلى توزيع نطاق العمل الذي اختطته مصر لنفسها عند تجريد حملة سوريا، وتكون نتيجة ذلك جعل مصير تركيا في كفة الأقدار، وهذا ما لا يخلو من الخطر عليك.
وأبلغت الباب العالي في الوقت ذاته أن إصراره على القتال لا يوصله إلى نتيجة؛ لضعف قوته دون قوة محمد علي التي تتزايد بحرا وبرا.
هذا البلاغ أبلغته فرنسا لمحمد علي، ولكن عين إبراهيم كانت على الترك بعد احتلاله أطنه ومعابر جبال طوروس؛ لأنهم أخذوا بتحصين «تشفت خان، وأولو قشلاق»، ويبدون النشاط في كل جهة؛ حتى إن الباب العالي رفض وساطة فرنسا بحجة أنه لا يستطيع المصالحة مع وال اعتبره بالأمس ثائرا وعاصيا، وأصدر فتوى بكفره.
ذلك كان الرد الرسمي، مع أنه أرسل إلى محمد علي أكثر من مرة يمنيه بالصلح والرضا ويطلب منه الحضور للآستانة، فيلمح محمد علي في ذلك الخديعة ونصب الشراك.
فقد ذهبت إلى الآستانة زهرة هانم أرملة الأمير إسماعيل، ثالث أولاد محمد علي، لزيارة والدها عارف أفندي قاضي عسكر الأناضول، فقالوا إنها رسول محمد علي للتقرب من السلطان ورجال الدولة بواسطة والدها. وقد توصلت الأميرة إلى معرفة الحقيقة؛ وهي أن السلطان لا يريد الصلح، وأنه لا يستمع نصيحة أحد فيه لاعتماده على روسيا وإنكلترا مع كل أعماله في هذا السبيل، يريد منها المماطلة والتسويف ليؤلف قوته الجديدة. وأرسل محمد علي السفينة الحربية «النيل» لتعود عليها إلى مصر، فأتحفها السلطان بالهدايا النفيسة، وتبرع بالمال لرجال السفينة، وأرسل معها أحمد فوزي باشا أحد أميرالاية البحر، فلما وصلت السفينة إلى الإسكندرية تغافل محمد علي عن وصول فوزي باشا، ولكنه أمر كاتم سره حبيب أفندي بإكرامه. وظل فوزي باشا في الإسكندرية إلى أن تلقى أمرا من السلطان بالسفر إلى القاهرة ومكالمة محمد علي بالصلح. وجمع السلطان ديوانه وأبلغهم ذلك، فكان جواب أحدهم برتو باشا أن ذهاب فوزي باشا إلى مصر لمقابلة محمد علي كذهاب الحمل إلى الذئب الكبير المعمر في وكره ليعوده ويتمنى له الصحة، فهل تكون للحمل من أمنية إلا السلامة من مخالبه؟
ثم اتفقت كلمتهم على إرسال صارم أفندي، فلما استدعى فوزي باشا إلى الآستانة أرسل إلى محمد علي يقول: «إياك وخفض الجناح لمن يرسل إليك، واحفظ عليك نفسك.»
ووصل صارم أفندي بحاشية كبيرة، فأكرم محمد علي وفادته. وكان يتردد على محمد علي ليقنعه أولا بالذهاب إلى الآستانة، ثم عرض عليه ولاية عكا وطرابلس، فأجابه محمد علي أنه يطلب بقاء ما فتحه من بلاد الشام في ولايته وولاية ذريته على أن يدفع الإتاوة لجلالة السلطان.
ولما عاد صارم أفندي إلى الآستانة تلقى محمد علي أن السلطان يوليه مصر وعكا وطرابلس، ويولي إبراهيم ولاية الحرمين الشريفين، فأدرك محمد علي أن المراد التفريق بينه وبين ابنه كما أرادوا يوم أنعم السلطان على إبراهيم برتبة فوق رتبة والده مثل هذا التفريق. ولكن الخدعتين لم تجوزا على محمد علي ولا على إبراهيم، وكان جواب محمد علي أنه ينتظر مندوبا من لدن السلطان ليرسل لمناقشة سامي بك وبوغوص يوسف سكرتيره، فلم يتلق جوابا. •••
لما احتل إبراهيم باشا أدنه، أبقى معه من جيشه فيها 12 ألفا من المشاة والفرسان، وأرسل قواته لضبط معابر جبال طوروس. وما كان وقوفه في أدنه إلا إطاعة لأمر والده الذي أراد أن ينهي الخصام والقتال مع السلطان، على أن تكون سوريا في ولايته، وعلى أن تكون الولاية متوارثة في بيته مقابل إتاوة يدفعها في كل سنة لتركيا.
على أن إبراهيم لم يضع الوقت سدى؛ فقد انصرف إلى إصلاح أمور جيشه وتعزيز ذلك الجيش، وكتب المسيو ميمو قنصل فرنسا في الإسكندرية إلى حكومته في 24 سبتمبر يقول: «إن الأسباب التي دعت إبراهيم إلى الوقوف في أدنه وإلى عدم متابعة نجاحه هو انتظار الجواب من والده على بعض المسائل، وأن والده ينتظر الجواب على مساعيه لإنهاء القتال. ولكن هذا القائد الذي لا مثيل لنشاطه وحزمه يستخدم مدة إقامته في ذلك الإقليم لاستخراج خيرات غاباته الكثيفة؛ لأن في أحراج أدنه من الأخشاب الصالحة لبناء المراكب ما لا يوجد في سواها، ودار الصناعة في الإسكندرية بحاجة شديدة إلى ذلك. وقد أرسل عدد كبير من عمال دار الصناعة لاختيار الأخشاب الصالحة، وجمع إبراهيم سكان ذلك الإقليم لقطع الأشجار التي يرى عمال دار الصناعة قطعها، ولفتح الطرقات في أنحاء ذلك الإقليم ونقل الخشب، وينتظر أن تصل إلى الإسكندرية بين ساعة وأخرى مشحونات كبيرة.
وأما تعزيز الجيش، فهو موضوع اهتمامه، فإذا استؤنف القتال كان جيشه 120 ألفا، حتى قال لي محمد علي منذ بضعة أيام إنه ينوي أن يجعل جيشه 25 آلايا من المشاه بدلا من 20 آلايا، و15 آلايا من الفرسان بدلا من عشرة، ولا يدخل في هذا الحساب فرسان العرب المصريين ولا رجال البدو السوريين، وقد أدمج إبراهيم في جيشه من الأسرى الترك أربعة آلاف أسير.»
ظل محمد علي ينتظر رد الباب العالي على كتابه الذي كلف قبطان باشا بإيصاله، فوصل هذا الرد في 24 سبتمبر بإمضاء خسرو باشا إلى قبطان باشا عدو محمد علي؛ لأنه أسقطه من ولاية مصر. ولم يحمل هذا الرد أحد ضباط الأسطول التركي، بل باخرة مالطية. وهذا الرد من خسرو باشا إلى قبطان باشا يفهم منه أن الباب العالي يرضى ضم الشام إلى ولاية مصر على الشروط التي عرضها محمد علي، ولكنه يود أن يعرف الضمانات التي يقدمها محمد علي على حسن نيته وعلى تنفيذ عهوده. فرد محمد علي أن وعده أكبر ضمانة وأن كلمته كافية، وكرر قوله إنه يود وضع حد للقتال وسفك الدماء، وإنه ليأسف كل الأسف أن يكرهه الباب العالي على أن يذهب إلى ما وراء الحد الذي وضعه نصب عينيه.
وفي أثناء وقوف القتال الذي كان شبه «هدنة»، كانت الصحف التركية التي تنشر بلغات أوروبية تذيع أسوأ الأنباء عن جيش إبراهيم وعن حكومة مصر، فكانت أقوال هذه الصحف تترجم لمحمد علي فيرد عليها بالتركية، ولكنه رأى ذلك غير كاف، فأتى ببعض المحررين الفرنساويين من باريس وأنشأ لهم جريدة بالفرنساوية للقيام بهذه المهمة.
وبعد وصول كتاب خسرو باشا استدعى محمد علي قنصل فرنسا وقال له: «نحن لم نتجاوز أدنه عملا بنصيحتكم، ونحن نبقى فيها إلى أن نعرف رد الباب العالي، إلا إذا حكمت علينا الظروف، وللظروف أحيانا أحكام لا ترد، فنحن نريد السلام، فإذا أرادوا الحرب فإني أنهيها كما عرفت أن أبتديها.»
أما إستامبول، فإنها كانت تماطل وتسوف حتى يحل فصل الشتاء وتستطيع تأليف جيش كبير جديد. ولكن إبراهيم كان ينتفض لفروغ صبره، فأرسل إلى والده يقول له: «إنه ليس هناك لقطع الأخشاب ورءوف باشا يجمع الآن بقايا الجيش التركي في قونيه!» فاستأذنه بأن يزحف على قونيه ببعض الآلايات ليفرق بقية ذلك الجيش ، وحدث محمد علي القناصل بذلك وقال لهم: «أما الآن فإنه لا يفعل أكثر من ذلك، وهذا الجيش يعود بعد قضاء مهمته إلى أدنه، فإذا لم تقبل الوساطة، وإذا ظل الباب العالي على المطل والتسويف، فإنه لا توجد قوة تمنع ابني المتقد حمية من الوصول إلى أشقودرة، فإذا لم يستطع الوقوف هناك لقلة المؤن في بلاد خربها الظلم والجور، فلا أستطيع أنا أن أقول ماذا تكون النتيجة.»
ولكي نعرف الروح التي كانت سائدة في الآستانة في ذلك الحين وتحول ولاة الأمور عن رؤية الحقائق، نورد خبرا أرسله البارون دي فارين سفير فرنسا إلى حكومته في 9 أكتوبر، قال:
جاءني اليوم الأرمني كاساس أرتين مدير دار الضرب، وهي الدار التي توزع الأرباح الكبيرة على الباب العالي وعلى السراي، وهو رجل مقرب وذو يد في شئون الدولة، وله نفوذ كبير.
فقال لي إن السلطان قال له منذ بضعة أيام إن إبراهيم باشا يريد إبرام الصلح معه، ولكنه يشترط لإبرام الصلح قطع أربعة رءوس: رأس السر عسكر خسرو باشا، ورأس مصطفى باشا، ورأس المفتي الذي أصدر الفتوى ضد والده، ورأس كاساس أرتين لأنه منع تداول النقود التي ضربت في مصر. وهو لا يعجب من ذلك لشدة إخلاصه للسلطان، ولكنه عندما سمع هذا الكلام من السلطان ذاته طار النوم من عيونه وأرسل إلى المسيو إليون صديقه وسبب نعمته يوسطه لدي لأحول نقمة محمد علي عنه. وإنه لا يهمه المال، فإذا أنا شئت إرسال رسول إلى محمد علي، فإنه يحمله إليه الهدايا. فأظهرت له استغرابي من ذلك ولم أصدقه، فعاد إليه روعه وشكرني.
وهذه صورة مما يجري هنا من ضروب الاختراع وطرق الجواسيس وإفساد الجو بين محمد علي والسلطان.
ولما كان الباب العالي يريد الاستناد إلى إحدى الدول لمقاومة محمد علي - وهو يخشى روسيا ويخشى إن هو حالفها أن يلقي بنفسه في فم الأسد - عرض السلطان وعرض ريس أفندي - الصدر الأعظم - على سترافورد كاننج سفير إنكلترا في 12 أغسطس وهو مسافر إلى لندن، إبرام محالفة دفاعية بين إنكلترا والباب العالي، وغرض الباب العالي من هذه المحالفة المساعدة الأدبية والمادية ضد محمد علي. ووصل ماوروياني سفير تركيا في فينا إلى لندن في 3 نوفمبر، فجدد هذا العرض وزاد عليه أن الباب العالي يتحمل جميع النفقات ويخول إنكلترا جميع الامتيازات التجارية التي تريدها، فأجابت إنكلترا أنها لا تستطيع الرد العاجل على هذه الاقتراحات. وفي 13 ديسمبر وصل إلى لندن نامق بك السكرتير الخاص لجلالة السلطان وهو يحمل مقترحات جلالته، فردت إنكلترا أنها لا تستطيع الاندفاع في عمل عسكري، وأنها تفضل الانتظار. •••
بعد انتظار ثلاثة أشهر بلا عمل ولا حركة في ميدان القتال وبدون نتيجة من الوجهة السياسية، صمم محمد علي على ترك ولده إبراهيم يزحف على قونيه؛ لاعتقاده بأن فتح قونيه يفضي إلى الثورة على السلطان؛ لذلك أصدر أمره إلى إبراهيم بأن يعود من قونيه بعد دخولها، ولكن إبراهيم لم يكن في ذلك على رأي والده؛ فوالده كان يقول بترك الرأي العام يفعل فعله في الآستانة، وأما هو فكان يقول بقيادة الرأي العام إلى ما يريد.
ففي 22 أكتوبر كتب محمد علي في ذلك إلى إبراهيم، فرد عليه إبراهيم في 3 نوفمبر يقول:
يجب علينا - حسب أوامرك - أن نتقهقر إلى الوراء بعد الاستيلاء على قونيه، فالشائع أن الصدر الأعظم يزحف علينا بقوة كبيرة، فإذا نحن تقهقرنا عزوا ذلك إلى الجبن والخوف وعلى عجزنا عن مقابلته، وفوق هذا كله فإن الصدر الأعظم يغنم الفرصة للزحف على قونيه، وقد يتجاوزها للحاق بنا مذيعا خبر تقهقرنا، ومن يدري ما يكون من وراء ذلك؛ فقد ينضم إليه الشعب، وقد تثور سوريا والأناضول علينا ويظل الغرض من تقهقرنا خفيا لا يفهم. وبناء على ما تقدم لا ينبغي لنا أن ندع الفرصة تفوتنا، فنحن نذهب إلى قونيه ونشتت العدو، وننتظر فيها وصول الصدر الأعظم لنقهره إذا أراد مهاجمتنا؛ لذلك أطلب منك يا والدي أن ترسل آلايين من المدد في الحال.
وسأطلب من خادم الفتوى فتواه في إعلان عزل السلطان.
فتلقى إبراهيم باشا من والده في 13 نوفمبر الأمر القاطع بألا يتجاوز قونيه؛ «لأن التقدم إلى ما وراء قونيه في الظروف الحاضرة لا تنظر إليه الدول بعين الرضا.» وفي 16 رد محمد علي على كتاب إبراهيم باشا الذي كان قد أرسله إليه في 3 نوفمبر، فأقره على رأيه، ولكنه يحرم عليه تجاوز قونيه لأنه لا يعرف - بوجه قاطع - رأي الدول. أما الفتوى بخلع السلطان، فقد قال محمد علي لإبراهيم إنها مناقضة لمصلحة مصر في الوقت الحاضر.
ثم سلم بعد ذلك باستصدار الفتوى على شرط أن تكون صادرة من بلاد السلطان لا من مصر، حتى يقال إن الشعب هو الذي أسقط سلطانه «ولا يعترض أحد علينا»، ولكن الحجة لم تقنع إبراهيم باشا؛ «لأن الأمة لا تملك المقدرة على العمل، فالواجب أن نعمل نحن ثم نطلب ثقتها.»
في 14 أكتوبر بدأت طلائع إبراهيم بالاتجاه إلى قونيه، فتقدمت فرقة من جيشه النظامي إلى نمرود، وأخرى من العربان إلى «تشفت خان»، فانسحب الترك بلا قتال إلى أركلي. وفي 15 أكتوبر دخلت قوة إبراهيم أركلي وظلت فيها إلى 20 نوفمبر ثم نهضت تريد قونيه، وقابلتها قوة أخرى من كرمانيا. وقبل الوصول إلى قونيه أخلاها الترك، فأرسل في أثرهم الفرسان، فغنموا الذخائر والمؤن وبعض المدافع. وبعد أن دخل قونيه أرسل قوة ومعها فرسان العرب، فأدركت القوة المصرية الجنود التركية في طريق آك شهر، فأخذوا بعض الأسرى وعادوا إلى قونيه التي أخذ إبراهيم في تحصينها.
وفي 18 ديسمبر ظهرت طلائع الجيش التركي غربي قونيه بقيادة رءوف باشا، فدار القتال بينه وبين إبراهيم باشا، ففرق جيش إبراهيم طلائع الترك، وغنم ثمانية مدافع، وأسر منهم ألفين. وتجدد القتال في اليوم التالي فأسر إبراهيم 750 مقاتلا ومعهم كريدلي محمد باشا أوغلو، وفي مساء ذلك اليوم تقدم 500 أرناءوطي متطوعين في خدمة جيش إبراهيم، وبعد ذلك تلقى إبراهيم باشا الأخبار بأن رشيد باشا الصدر الأعظم قادم بجيش كبير لقتاله، فاتخذ الأهبة لملاقاته.
وفي 20 ديسمبر تم النصر لإبراهيم باشا على جيش رءوف باشا، فلم يبق لذلك الجيش من أثر، وأرسل الخبر إلى والده، فأمر بإقامة الأفراح وإطلاق المدافع ثلاث مرات في النهار من جميع القلاع والطوابي مدة ثلاثة أيام. ولكن محمد علي ظل مترددا في الزحف إلى الأمام؛ ليعرف رأي إنكلترا، وكان يعتمد في ذلك على المستر بريجس صديقه، والمستر بريجس كان في الماضي قنصلا لدولته في الإسكندرية، ولم يكن محمد علي يثق بالقنصل المستر باركر ويعده خصما لمصر كقنصل روسيا قبل أن تستدعيه حكومته. وكان يستند في الأوامر التي يرسلها إلى ابنه إبراهيم بالارتداد عن الأناضول إلى آراء المستر بريجس. وكان محل بريجس في لندن يقدم لمحمد علي حاجاته من إنكلترا ويأخذ مقابل ذلك القطن والحاصلات. ولما كتب محمد علي إلى إبراهيم بألا يعلن سقوط السلطان كما كان قد اقترح عليه، وبأن يرتد إلى قونيه، استند أيضا إلى آراء المستر بريجس. وكان قد وصل إلى إبراهيم أن السلطان عين رشيد باشا صدرا أعظم، وولاه قيادة جيش كبير لقتاله، فكتب إلى والده في 8 رجب 1248 يقول:
يا والدي
إنك تصدر إلي الأمر المطاع بناء على تقرير المستر بريجس وغضب القومندان الروسي بألا أعلن سقوط السلطان وبأن أقف دون تجاوز قونيه!
فيا والدي، إن السياسة السليمة هي قبل كل شيء درس الحالة كما هي، وتقدير نتائجها، ثم الإقدام بعد ذلك على العمل بكل حزم دون التفات إلى زيد أو عمرو.
فمنذ عشرين يوما أبحت لي إعلان سقوط السلطان والآن تحرمه علي، فمهما كانت فائدة الرجوع وتغيير الرأي من جانبنا، لا يجوز لنا أن ننسى أن جيشا قويا باسلا مثل جيشنا لا يحتمل سياسة التردد وجس النبض، وهي السياسة التي لا تعرف الانتفاع من وراء الواقع على أن هذا الجيش لا يستطيع الوقوف دهرا طويلا مكتوف الأيدي. ونحن ذهبنا إلى قونيه اتباعا لأوامرك، فكيف يكون باستطاعتنا العودة على أعقابنا، بينما الصدر الأعظم يزحف علينا بجيش قوي حسن النظام كثير المدافع.
فهل تظن يا والدي أو ترى أن مصلحتنا في الوقوف في قونيه أو في الارتداد عنها؟ وفي حالة انتصارنا على جيش الصدر الأعظم يكون قادرا على الارتداد إلى الوراء، ثم لم شعث جيشه والارتداد إلينا إذا نحن لم نقتف آثاره بعد النصر! وهل يجوز أن يخطر بخاطرنا أن يكون الشعب الأناضولي في جانبنا وقد حكمه الترك ستة قرون إذا نحن ظهرنا بمظهر التردد؟ ألا يعد تقهقرنا غلطة عسكرية فظيعة؟ لقد أمرتني قبل الآن بأن أقف في حلب، ثم سمحت لي بالتقدم إلى كولك بوغاز وإلى قونيه، فدعنا الآن يا والدي نهدم جيش العدو الأعظم. واعلم أن هذه البلاد وجوها لا تشبه أرض مصر ولا جوها، فهي ليست صالحة في كل وقت للأعمال العسكرية، وفوق هذا إن ما يقال في مصر لا يمكن تطبيقه على الحالة الفعلية هنا، فلا يجوز إذن الأخذ بتقارير المستر بريجس ولا بملاحظات قومندان سفينة.
ومهما يكن من الأمر، فإني أرى من مدعاة الأسف أن أضطر مرة أخرى للانتظار عشرين يوما؛ أي إلى أن أتلقى كتابك وأوامرك إلخ ...
وبالرغم من هذا الكتاب كتب محمد علي إلى بريجس في 12 ديسمبر يقول:
إن سكوت الإنكليز هو من بعض الوجوه مفيد لمصر، ولكنهم على ما يظهر ليسوا ميالين لتقدم ولدي إبراهيم نحو الآستانة في الظروف الحاضرة.
ومهما يكن من الأمر، فإني لا أود أن أعرف هل دخولنا إستامبول لا يتفق مع نظر الحكومة الإنكليزية؟
فإذا أرادت إنكلترا أن تقف في موقفنا الحاضر فإني قادر على أن أكره النفس على ذلك.
وفي إبان ذلك وصل إلى مصر القومندان بوثينبف الروسي قائد الطرادة باريس؛ ليطالب محمد علي بمحمول سفينة روسية ضبطها الأسطول المصري. ولما كانت العلائق الرسمية مقطوعة لم يحي المينا ولم تحيه، وقدمه قنصل توسكانا لمحمد علي. ولما طلب منه ما جاء لأجله، أجابه أن الأمر متفق عليه مع القناصل بأن نصادر المحمول إذا كان لتركيا وندفع أجرة السفينة، وإذا كان المحمول للأفراد كان عليهم إثبات ذلك. فارتضى بالجواب، فغنم محمد علي الفرصة، وبسط له رأيه في الاتفاق مع الباب العالي، ثم أراه دار الصناعة، فقال لمحمد علي: «ما سمعت بمثل عملك إلا في القصص والحكايات.» وهذا القومندان كان شقيق سفير روسيا في الآستانة، فحمل الرسالة إلى أخيه، بل قيل إن أخاه أرسله ليطلع على أعمال دار الصناعة، وأرسل محمد علي إلى إبراهيم باشا المدد المتوفر من فرقتين أتمتا تعليمهما، ولم يبق من الجيش النظامي في مصر سوى ثلاث فرق، وكان الصدر الأعظم يقول للسفراء إن إبراهيم كلما بعد عن مركزه ضعفت قوته، ونحن ننتظر ضعف هذه القوة - وهو الآن على بعد 210 أميال من مصر - لنضربه الضربة القاضية. وكان يريد بهذه الضربة القاضية تنفيذ المهمة الموكولة إلى السر عسكر الجديد رشيد باشا الذي كان سر عسكر الرومللي، فطرد من أدرنه مصطفى باشا والي أشقودرة الذي شق عصا الطاعة على السلطان. وكان الرجل يعيش عيشة عسكرية، ولكنه لم يتلق فنون الحرب على الأساليب الحديثة كإبراهيم، ولنفوذه في بلاد الألبان والبوسنة أمره السلطان أن يجمع أكبر عدد يستطيع جمعه من ألبانيا والبوسنة، وأن يأتي إلى الآستانة بالآلايات الستة من المشاة والفرسان المحافظين على الولايات تحت إدارته، وهذا القائد كان زميل إبراهيم باشا في حرب المورة، ثم وجه إليه خطا شريفا، هذا نصه:
تعلم أن حسين باشا عين سردار أكرم لقيادة العسكر الشاهاني المرسل إلى آسيا؛ ليؤدب التأديب اللازم العاصي محمد علي، وأن ولايات مصر والحجاز وكريد والحبشة وجهت إليه. ولكن الأقدار لم تساعده، فتراءى لنا اتخاذ الوسائل الفعالة. وأملي بالله أن توفق في هذه المهمة طبقا لإرادتنا الشاهانية كما وفقت في ألبانيا والبوسنة.
ومنذ برهة من الزمن لم يكن بالاستطاعة الاهتمام بشئون الرعية والأهالي، ويهمني من صميم الفؤاد راحة رعاياي سكان سوريا، وأمنيتي أن جميع الأعمال تقضى على سنن الشريعة المطهرة. وإذا أراد الله بعدما تعيدون السكينة إلى سوريا، ترفعون إلى عتبتي أسماء الولاة والحكام الذين أحسنوا، وقد اخترتموهم لإدارة تلك البلاد، والآن أعهد بها إلى كفائتهم.
وبما أنه لم يبق لحسين باشا من عمل في المعسكر، ففي استطاعتكم أن تكتبوا إليه ليعود إلى إستامبول، أعانكم الله بجاه النبي المصطفى.
وبعد هذا الخط سلمه السلطان خطا آخر بولاية مصر والحجاز وكريد والصعيد وحلب وعكا والقدس، وخطا شريفا ثالثا بالقيادة، وذهب السلطان إلى المعسكر باسكودار ووجه الكلام على مسمع من الجيش إلى رشيد باشا قائلا: «أنقذ الدولة؛ فإن شكري لك ولعساكرك إذا أنت فعلت لا يكون له حد.»
ثم أصدر السلطان أمره باستدعاء الضباط الأوروبيين من الجيش عندما بلغه خبر تذمر الأرناءوط وسواهم من وجودهم فيه.
وقبل أن يلتقي الجيشان في ميدان القتال، كرر سفير فرنسا على الباب العالي كلمة الصلح على قاعدة إجابة مطالب محمد علي، وهي المطالب التي كان الباب العالي يعد بإجابتها، فأجاب الباب العالي أنه يعطيه الجواب بعد ثمانية أيام، ففهم السفير أن القصد من التسويف انتظار نتيجة المعركة. ولما حدث في ذلك «ريس أفندي» قال له إن المجلس موافق بالإجماع على اقتراحه، ولكن الكخيا برتو بك المقرب من السلطان هو الذي يحول دون الاتفاق.
وفي الوقت ذاته وصل إلى الآستانة الجنرال مورافيف الروسي، وأبلغ السلطان أن روسيا تضع أسطولها في البحر المتوسط تحت تصرفه لقتال محمد علي، وأنها مستعدة لإرسال جيش بري لقتاله.
وفي الوقت ذاته تلقى محمد علي من شيوخ ولاية قسطموني وأعيانها الرسالة الآتية:
إن المسلمين الذين عينهم منذ عهد قريب خسرو باشا السر عسكر لحكم هذه الجهات، يرتكبون أشد المظالم ويحيط بهم رجال ملحدون مثلهم، فهم يلوثون الإسلام ويخالفون أوامر الله وأحكام الشريعة المطهرة. ولم يكن باستطاعتنا احتمال هذا المسلك طويلا، فنبهنا إلى ذلك متسلمنا فلم يصغ إلى كلامنا، وزاد مع العمى المحيطين به غلوا، وشكا إلى الباب العالي الرجال النزهاء المخلصين. ثم غادر مع أتباعه المدينة وأوقد الحرب على الأهالي، ولم يدع فظيعة لم يرتكبها ضد الأهالي من قتل ونهب وإحراق. ومثل هذا الجور لم يكن إلا ليزيد الإسلام حماسة في الصدور، فسار المؤمنون بقيادة الحاج مصطفى أغا وقاتلوا هؤلاء اللصوص، وقتلوا المتسلم وأسروا رجاله، وانسحب الباقون إلى ثماني ساعات من هنا، والأهالي من كل جهة يسيرون ضدهم وقد استولوا على مدافعهم وذخائرهم وقتلوا كثيرين منهم، والباقون منهم خرجوا من الولاية منتظرين المدد من إستامبول. فنحن أهالي هذه الولاية عزمنا على أن نترك الحكومة التي لا تستطيع أن تقدم لنا أقل ضمانة للأمن والراحة، ولا توفير الغبطة والسعادة التي ينعم بها الرعايا الذين أنقذتموهم، فنقدم لكم خضوعنا، ونلتمس أن نكون تحت حمايتكم، وأن تعينوا لنا متسلما يكون الحاج مصطفى أغا المشهور بحبه للإنسانية وبنزاهته وبطول خبرته.
وأبلغ محمد علي هذه العريضة المرسلة إليه من أعيان قسطموني إلى القناصل، مبينا لهم أن المسألة لم تبق مسألة السلطان محمود ومحمد علي، وأنه يرى - حقنا للدماء وتفاديا عن الخطر الأكبر - بذل وساطة الدول لإقناع الباب العالي بالتسليم بالأمر الواقع، وبين لهم أنه ليس هناك أقل أمل بنجاح رشيد باشا.
وكان محمد علي يسارع في الوقت ذاته لإرسال الأمداد إلى جيشه، فأرسل - بناء على طلب إبراهيم باشا - الميرالاي كاني بك على رأس فرقة من ست أورط مشاة، وأرسل اللواء محمد بك ناظر الجهادية على رأس فرقة أخرى، وعين إبراهيم بك مدير المهمات ناظرا للجهادية والمهمات. وكانت دار الصناعة قد أتمت بناء خمسة مراكب حربية، فأمر ببناء خمسة أخرى، وأرسل الخلع إلى أعيان الشام، وأرسل 600 فارس من عرب الجوازي والفوائد و300 من عربان أولاد علي، وعين سليمان أغا قبجي ناظرا لأعمال تحصين عكا، وعين أحمد باشا يكن رئيسا للقوة العسكرية بالحجاز لإسكان الفتن التي ظهرت هناك، واللواء إسماعيل بك محافظا لمكة، وأرسل إلى ابنه إبراهيم نشانا من الألماس كتب عليه «لك عون الله» تذكارا لفتح قونيه.
ولما كانت الجنود المصرية قد تعبت من البرد، أمر محمد علي معامله بصنع الملابس الصوفية والأحذية وإرسالها بلا إبطاء لراحة الجيش في فصل الشتاء.
وهكذا وقف إبراهيم في قونيه ينتظر وصول رشيد باشا ويدرب قواته على القتال ويمرنها على الطرقات وعلى الخطط التي وضعها مع أركان حربه.
لما وصل الخبر إلى إبراهيم باشا بأن رشيد باشا يزحف لمقاتلته بجيش كبير لجب، أرسل إلى الأمير بشير أمير لبنان بأن يوافيه إلى طرسوس، وأرسل مركبا حربيا لركوبه، فلما وصل أبلغه أمر رشيد باشا، وأنه بحاجة إلى جمع كل قواته من أطراف سوريا، فهو يكل إليه أمر تلك البلاد ويطلق يده في تعيين المتسلمين. فعاد الأمير بشير، وتولى الأمر بنفسه، وعين المتسلمين لصور وصيدا وبيروت وطرابلس واللاذقية من أبناء عمه الأمراء الشهابيين، وأبقى ابنه الأمير أمينا لدى إبراهيم باشا ليكون صلة الاتصال بينهما، وقبل إبراهيم باشا المتطوعين من بلاد أدنه وكرمانيا، وعاد إلى قونيه، وأخذ يمرن جيشه في سهول قونيه وجبالها ومعابرها على طرق القتال فيها وعلى تنفيذ الخطة التي وضعها.
ولما وصل رشيد باشا إلى أك شهر ونزل في قديم خان - وهي على مسيرة 9 ساعات من قونيه - كتب إلى الباب العالي أن الجيش المجتمع لديه يبلغ عدده ستين ألفا، وأنه عزم على مهاجمة إبراهيم، وأنه أرسل 20 ألفا بقيادة سليمان باشا من سيواس للف حول ميسرة إبراهيم باشا من كرمانيا، وقال في تقريره إن جيش إبراهيم باشا لا يزيد على 25 ألفا، وإن طلائعه أوقعت الخسارة بمقدمات المصريين، ففرحت إستامبول لهذه الأخبار.
على أن إبراهيم باشا أرسل قوة بقيادة أبو دبوس باشا لاحتلال قيصرية والوقوف في وجه سليمان باشا.
ولما وصل تقرير رشيد باشا إلى إستامبول صدر إليه الأمر بالهجوم في الحال على إبراهيم باشا، فتقدم إلى الأمام، ولما وصل إلى يورغان لاديك كتب إلى إبراهيم باشا زميله في حرب المورة يقول:
أخي وعزيزي إبراهيم باشا
إني قد تلقيت من مولانا السلطان الأمر بمهاجمة جيشك وطرده من البلاد التي يحتلها الآن، فأنا أسألك باسم الله الذي نعبده جميعا وباسم ما بيننا من الصداقة والإخاء، إلا كففت عن إراقة دماء المسلمين، فإنك تعلم أن تبعة القتال تقع بعد الآن عليك، فعليك أن تضع حدا لهذه الحرب بانسحابك مع جيشك من بلاد احتلها بدون وجه من وجوه الحق.
فرد عليه إبراهيم باشا بقوله:
أخي وعزيزي رشيد باشا
لا أقدر أن أصف لك مقدار أسفي لاضطراري إلى منازلة رجل أحبه وأجله، وقد تسنى لي أن أقدره حق قدره، ولكن إذا كان صديقي وزميلي رشيد باشا قد تلقى الأوامر بمهاجمتي من سيده ومولاه، فإن إبراهيم قد تلقى الأوامر ذاتها من سيده وأبيه، فهو ليس أقل منه رغبة في حقن دماء المسلمين، ولكنه ليس في الحقيقة سوى خادم مطيع، فلا لوم علينا ولا تثريب نحن الاثنين معا، ولسنا نحن - أنت وأنا - بمسئولين عن الدماء التي تراق، ولكن التبعة تقع على الذين أمرونا به، ولا سبيل إلى مخالفة ما أمروا.
بعد وصول هذا الكتاب إلى رشيد باشا زحف بجيشه إلى سهول قونيه في 21 ديسمبر. وكان إبراهيم باشا يعرف أخلاق رشيد باشا في القتال، ويعرف أنه ينقض على خصمه انقضاض الصقر، فاتخذ إبراهيم الحيطة ليوقعه في الشراك، فتظاهر بالخوف من الاصطدام به، وسحب قواته إلى ما وراء قونيه في مكان يمكنه من إخفاء شطرين من قوته؛ أحدهما على ميمنة رشيد باشا، والآخر على ميسرته. أما رشيد باشا فإنه زحف بكل حزم وعزيمة صادقة على الصدر، وكانت معركة شديدة جدا، وكان عدد الفرسان مع رشيد باشا نحو عشرة آلاف انقضت عليهم الجنود المصرية من كمينها على اليمين وعلى الشمال، فأخذ أولئك الفرسان على غرة من كل جانب، فذعروا وتفرقوا وأحدثوا الاضطراب، وهجمت الجنود المصرية، واشتدت المدافع المصرية بالضرب، حتى إذا ما دنت الشمس من الغروب كان جيش رشيد باشا قد تمزق كل ممزق.
قال إدوار جوين: كان الأتراك ثلاثة أضعاف المصريين في هذه المعركة، إلا أنهم كانوا أضعف منهم في ميدان القتال؛ لفساد التمرينات العسكرية ولبسالة إبراهيم وسليمان بك وبراعتهما في تحريك قوات الجند، فقد ترك الترك بعد الانهزام في هذه المعركة اثنين وتسعين مدفعا وثلاثة آلاف قتيل وعشرة آلاف أسير، ووقع الصدر الأعظم - وهو السر عسكر، وهو مندفع بقوة بسالته وحماسته - في ميدان القتال أسيرا في أيدي العربان المصريين، وجيء إلى إبراهيم باشا فتلقاه بالإجلال والإكرام. ولما كان هذا القائد يعتقد أنه لن يعيش إذا انهزم جيشه، فإنه استودع كاتم سره مفاتيح الباب العالي ومفاتيح السر عسكرية. ولما أوشكت المعركة أن تنتهي هجم بنفسه للقتال، فتقدم منه بعض العساكر الذين خدموا تحت إمرته في بلاد المورة، وقالوا له والدمعة تجول في عيونهم: يا باشا لقد قضي الأمر. فأجابهم: «تشجعوا ولا تيأسوا، ما دامت في العروق قطرة دم فلا محل لليأس.»
ولما نقل كلامه إلى أحد كبار الشيوخ في قونيه قال: «لما كشفت النباتات للقمان عن سر خواصها الطبية، لم يقل نبت واحد منها إن لي خاصة الشفاء من الموت. وقد كان محمد رشيد باشا في هذه المعركة لقمان، ولكن دولتنا كانت الجثة الهامدة الخامدة.»
وهكذا فقدت الدولة العثمانية في أقل من ستة أشهر جيشين كبيرين؛ أحدهما جيش الباشاوات في حمص، والثاني جيش رشيد باشا في قونيه.
وقد قال الترك في تقاريرهم عن معركة قونيه: إن إبراهيم باشا خدع محمد رشيد باشا؛ إذ بلغه أنه سيهاجمه في 23 ديسمبر، فخطر لرشيد باشا أن يتغداه قبل أن يتعشاه، فهجم في 21 ديسمبر ووقع في شراكه.
ولقد اضطرب السلطان محمود وجزع لاندحار جيشه ولأسر السر عسكر، فكتب إلى قيصر روسيا يطلب مساعدته وإمداده بخمس بوارج وست فرقاطات و40 ألف جندي، وإرسال الجنرال مورافيف قبل ذلك إلى الإسكندرية لإنذار محمد علي. وكانت فرنسا وحدها تعارض في ذلك وتلح على السلطان بقبول شروط محمد علي الذي يتحول بعد قبول شروطه إلى أقوى مساعد للدولة.
وفي الوثائق المصرية المحفوظة «جورنال» كاتب السر عسكر إلى محمد علي عن محادثة طويلة في 26 ديسمبر بين إبراهيم باشا ومحمد رشيد باشا عن خلع السلطان محمود وتعيين ابنه عبد المجيد سلطانا.
رشيد باشا :
ولكن عبد المجيد أفندي لا يزال طفلا، فهل تظن أنه قادر على تولي الحكم وتصريف الأمور.
إبراهيم باشا :
إن السلطان محمد الفاتح ارتقى إلى العرش وهو في السابعة من عمره، وعبد المجيد أكبر منه سنا الآن. وعندي أن صغر سن الأمير لأفضل للدولة ومستقبلها؛ لأن أمراء السلطنة لا يتلقون الآن التربية والتهذيب اللذين يتلقاهما أمراء الأمم، فهم يربون في الحريم ويكبرون دون أن يكونوا ملمين بشيء من شئون الدولة. فإذا رقي عبد المجيد إلى العرش، وهو فتى يمكنه أن يمرن بواسطة الرجال المدربين، فينمو عقله ويصير رجلا كاملا يعرف واجبات الأمة والملك.
رشيد باشا :
هذا صحيح، ولكن إذا بلغ السلطان ذلك قتل الأمراء جميعا.
إبراهيم باشا :
الغرض الوحيد أن تنظم شئون الدولة حسب مصلحتها. وبما أنه يجب أن يكون لكل أمة ملك يحكمها، فنحن إذا فعلنا ما أقترحه عليك نختار للأمة السلطان الذي نقره على العرش، فلا يكون في وسعه بعد ذلك أن يقول: «إن إرادتنا العالية قد اقتضت قتل أو نفي أو إبعاد فلان وفلان.» فإذا فعل بعد أن ننصبه على الوجه الذي بسطته لك يكون مسئولا شخصيا أمام الأمة عن عمله، وحينئذ تنفذ إرادة الأمة بعزله.
رشيد باشا :
أنا أوافق على رأيك، ولكن هل الأمة الإسلامية على استعداد لقبول هذا التغيير؟
إبراهيم :
يجب أن ننتظر المعارضة في أول الأمر، ولكن الجميع ينتهون بمعرفة أفضليته على سواه ويدركون أهميته، وحينئذ يطلبون هم ذاتهم أن يوطدوا الحكومة والحكم على أساس متين. ا.ه.
هذه المحادثة كان إبراهيم باشا يقصد منها ضم رشيد باشا إليه في خلع السلطان.
أقام إبراهيم شهرا في قونيه بعد انتصاره، ولم يستطع مواصلة الزحف ومطاردة بقية جيش رشيد باشا قبل وصول أوامر والده إليه والشقة بعيدة، وهذا ما كتبه إلى والده في 28 ديسمبر:
أستطيع أن أصل إلى الآستانة ومعي محمد رشيد باشا، وأستطيع خلع السلطان حالا وبدون صعوبة، ولكني مضطر أن أعرف هل تسمح لي بتنفيذ هذه الخطة حتى أتذرع باتخاذ الوسائل اللازمة؛ لأن مسألتنا لا تسوى إلا في إستامبول. فالواجب أن نذهب إلى إستامبول حيث نملي إرادتنا، وإني مضطر أن أكرر على مسامعك أن العداوة لا توصلنا إلى أغراضنا. وإذا أنت رميت من الإشاعات التي تذيعها إلى غرض سياسي بأنا نهدد إستامبول لتقبل شروطنا، كان من العبث أن نقف في قونيه فلا نتقدم منها إلى الأمام، فإن قونيه بعيدة عن رجال الآستانة، فهم لا يقبلون عقد الصلح معنا إلا إذا دخلنا عليهم في العاصمة، كذلك هم فعلوا مع الروس، فإنهم لم يقبلوا إبرام الصلح معهم إلا بعد وصولهم إلى جلمجة بضاحية إستامبول. فالواجب إذن أن نواصل الزحف حتى بورصة على الأقل، مع احتلال المدن الواقعة على بحر مرمرة وجعل هذه المدن مراكز تموين لجيشنا في البحر، حينئذ فقط نستطيع أن نذيع الأخبار التي قد تقضي إلى عزل السلطان. وإذا نحن لم نفلح في إسقاط السلطان توصلنا - على الأقل - إلى إبرام صلح يحقق أمانينا. وأنا لولا الأمران الأخيران اللذان تلقيتهما منك لكنت الآن على أبواب إستامبول، وإني لأسائل نفسي: ما هو الداعي الذي دعا إلى إصدار تلك الأوامر إلي؟ أهو الخوف من أوروبا أم هو شيء آخر لا أعرفه؟
ألتمس منك أن تنيرني في هذه المسألة قبل انفلات الفرصة من أيدينا. نعم إني ألتمس إبلاغي أمركم القاطع بهذا الصدد.
فلما وصل هذا الكتاب إلى محمد علي سلم بنظرية ابنه إبراهيم وأذنه بالتقدم، فنهض بجيشه من قونيه في 20 يناير. وكان برد الشتاء على الجيش المصري شديدا، فقسمه إبراهيم شطرين. ولم يصل هذا الجيش إلى كوتاهيه إلا في 2 فبراير؛ أي بعد 56 مرحلة، ولم يبق بينه وبين إستامبول سوى 50 مرحلة. وقبل وصوله إلى كوتاهيه تلقى الأمر من والده بأن يقف عن الزحف، وأن يكون وقوفه ساعة وصول الكتاب إليه، فوقف في كوتاهيه وهو يعلم أنه ليس للسلطان جندي واحد في طريقه إلى إستامبول، وأن السلطان أرسل خليل رفعت باشا إلى والده ليتفق معه، ولكنه لم يعتقد بإخلاص السلطان، فكتب إلى والده كتابا مطولا في ذلك.
الفصل السابع
الجيش المصري على أبواب إستامبول.
المساعي لوقف الزحف.
ما يطلب إبراهيم باشا لمصر. ***
بعد تدمير جيش محمد رشيد باشا في قونيه تحولت المسألة من عسكرية إلى سياسية؛ فالسلطان ذعر لوصول خبر الانكسار، وروسيا أرسلت الجنرال مورافيف ليعرض على السلطان مساعدتها البرية والبحرية لخوفها من تقلص سلطانها ونفوذها على الآستانة، وإنكلترا بعد رفضها مساعدة تركيا أعربت للنمسا عن خوفها من أن تنتهي المسألة بتقسيم تركيا. وتقسيمها يضيع الموازنة بأوروبا ويفضي إلى الحرب بين الدول. ورجال تركيا كانوا يكرهون طلب المساعدة من روسيا عدوتهم؛ لذلك انحازوا إلى رأي فرنسا بمخاطبة محمد علي بالصلح على أن يتنازل له السلطان عن ولاية عكا ودمشق وطرابلس. وعلى هذا سافر خليل رفعت باشا إلى الإسكندرية، وكان الجنرال مورافيف قد تقدمه لا للصلح بل ليطلب من محمد علي أن يجلو جيشه عن تركيا، وأرسل في الوقت ذاته بالمهمة ذاتها ياوره الضابط دوهامل إلى إبراهيم.
أما إبراهيم فإنه عندما زحف بجيشه من قونيه إلى كوتاهيه كتب إلى والده الكتاب الآتي:
اليوم (20 يناير 1883) بدأ الجيش ووحداته بالزحف من قونيه، تتقدمه شراذم صغيرة لشدة البرد ولقلة عدد الجمال للنقل. والذي يستخلص من البرد الواردة من إستامبول أنه لا توجد في طريقنا أية قوة تقاومنا. حتى إستامبول ذاتها ليس فيها حركة الاستعداد للمقاومة، وهذا يدل الدلالة الكافية على أنهم قد وضعوا الآن جميع آمالهم بالصلح. ولأجل هذا الصلح أرسلوا إليك خليل رفعت باشا، ولكني أرى - جهد ما يصل إليه علمي الضعيف - أنه ما دام السلطان محمود المشئوم على العرش لا يمكن أن يكون هناك صلح صحيح ولا نهاية للأزمة؛ لأنه سيكون عرضة للظروف؛ ينتهزها للانتقام ويعمل لها كما كان في الماضي وللجور على هذه الأمة الإسلامية التعسة وظلمها. فبحق حبنا لهذه الأمة، وبحق غيرتنا الدينية، أرى من الواجب المحتم علينا؛ لا العمل لمصلحتنا فقط، ولكن العمل فوق كل شيء وقبل كل شيء لمصلحة هذه الأمة كلها. ومن أجل ذلك يجب علينا أن نرجع إلى القرار الأول؛ أي خلع هذا السلطان المشئوم ووضع ابنه ولي العهد على العرش، حتى يكون ذلك بمثابة محرك يحرك هذه الأمة من سباتها العميق.
فإذا اعترضت علي بأن أوروبا تعترضنا، قلت لك إننا لا ندع لها الوقت للتدخل، وبذلك نتقي الخطر من ذلك الجانب؛ لأن مشروعنا ينفذ قبل أن يعرف، وبذلك نضع أوروبا أمام الأمر الواقع. وإذا كانت أوروبا تغتنم الفرصة لإشباع مطامعها من هذه الدولة، فأية تبعة تقع علينا؟ وهل باستطاعتنا أن نمنعها عن تحقيق خطة تسعى لتحقيقها منذ 84 سنة؟
إلا أنا نسأل الله العون والمدد. ومهما يكن من الأمر، فإن الأفضل أن يقع اليوم ما لا بد عن وقوعه في يوم من الأيام. ومع الاستعانة بالله لتحقيق ذلك عزمت على التقدم إلى بورصة ومودانيا، فلا وقت إذن عندي لتلقي شيء منك أو من إستامبول يحرم على التقدم. أما أنا فإذا بقيت هنا فإني لا أجد أقل وسيلة لتموين الجيش لفقر البلاد، فلم يبق لي إلا الذهاب إلى بورصة، ومن هناك أرسل إليك رسولا بما نكون قد قررناه تبعا للظروف.
وقبل أن يصل إلى بورصة تلقى الأمر من والده بأن يقف، وكان هذا الأمر بعد وصول الجنرال مورافيف إلى الإسكندرية.
وصل هذا الجنرال إلى الإسكندرية في 13 فبراير، وقابل محمد علي، فلم يقدم له إنذارا كما كانوا يقولون، بل أعرب له عن رغبة القيصر في أن يتفق مع السلطان، ولا بأس من أن تكون فرنسا الوسيطة. فأجابه محمد علي باشا بأن هذا الذي يطلبه منه قد عرضه على السلطان من شهر نوفمبر، ولكي يثبت للجنرال مورافيف حسن قصده وقع أمامه الأمر الذي أصدره إلى ابنه إبراهيم بالوقوف عن الزحف من قونيه. وقبل أن يغادر الجنرال مورافيف الإسكندرية وصل خليل رفعت باشا مندوب الباب العالي، وكانوا يظنون أنه يحمل شروط الاتفاق، ولكنه ظهر أنه يحمل إلى محمد علي عفو السلطان عنه وولاية عكا وملحقاتها. ولكن محمد علي كان على صداقة وولاء مع خليل رفعت باشا، فاتفق معه على شروط الاتفاق: وهي أن يعطى محمد علي ولاية سوريا وأدنه، وأن تبرم بينه وبين خسرو باشا محالفة تعاون تضع حدا لنزاعهما، وأن يكون الاثنان بمثابة قيمين على أملاك الدولة؛ أحدهما في مصر والآخر في إستامبول.
أما إبراهيم، فقد أرسلوا إليه من الآستانة ثلاثة رسل؛ الأول: رسول الباب العالي ليبلغه أنهم أرسلوا إلى والده رسولا للاتفاق، والثاني: رسول الجنرال مورافيف، والثالث: رسول سفير فرنسا. وقد روى بودوليا رسول سفير فرنسا أنه وجد إبراهيم يعيش في معسكره عيشة بسيطة، وليس معه حريم ولا له حرم، فهو في هذه العيشة يشبه نابليون. وقد كان يقول إنه يود أن يذهب إلى إستامبول ليشرب القهوة مع السلطان ، ولا يهمه أمر الروس. ولما طلب منه الجواب على إيقاف الزحف كتب في 17 يناير إلى المسيو دي فارن سفير فرنسا:
أنا لست سوى قائد عام موكول إليه القيام بأعمال عسكرية، أما ما عدا ذلك فإني أرجع فيه إلى السلطة التي أنا تابع لها، فأنا من أجل ذلك سأتابع زحفي، ولكني أرجع في الأمر إلى والدي في الإسكندرية.
وكان إبراهيم يعتقد أن الاتفاق بين خليل رفعت باشا وبين والده محمد علي أمر ممكن، ولكنه كان متمسكا برأيه ولا يخشى الروس ولا يعبأ بقتالهم، وكان يعتقد - فوق ما تقدم - بأن الصلح الذي يبرم مع السلطان محمود هو صلح غير دائم، بل يكون بمثابة هدنة حتى يتمكن السلطان من العودة إلى القتال؛ لذلك كتب إلى والده في 3 فبراير يقول:
أرى أن يكون الاستقلال مقدما على كل شيء في المناقشات التي تدور بينك وبين الرسولين - مورافيف وخليل باشا - فمسألة الاستقلال مسألة حيوية تقدم على كل شيء. وبعد الاعتراف بالاستقلال يجب أن نطلب أضاليا وأدنه وجزيرة قبرص، وأن يضم إلى مصر - إن كان ذلك في الإمكان - تونس وطرابلس. ذلك أقل ما يجب أن نطلبه، ولا نتساءل عن أي شيء كان مهما كان الأمر؛ لأن مصلحتنا تقضي به. أما إصرارنا على الاستقلال، فلكي نوطد مركزنا ونحوطه بالضمانات، فإذا لم ننل الاستقلال ذهبت جميع مجهوداتنا ضياعا ومكثنا تحت يد هذه الحكومة الخبيثة التي توقرنا بمطالبها الدائمة وبطلب المال. فمن الآن يجب أن نتخلص من الأعباء المبهظة ولا نجد خلاصا إلا بالاستقلال.
أما السبب الذي يدعونا لطلب أضاليا وأدنه، فهو شدة حاجتنا إلى الخشب؛ لأن مستقبل أسطولنا معلق على ذلك ما دامت بلادنا محرومة من الخشب. وأنت تذكر أن إنكلترا منعت ورود الخشب إلينا، فاضطررنا أن نلجأ إلى النمسا التي أزعجنا رفضها إزعاجا لا نستطيع نسيانه. وهل من حاجة بي لأبين شدة حاجتنا إلى الخشب؟ فأنت أنت ذاتك قلت لي في الأمر الذي أصدرته حديثا: «كما أنه يجب عليك أن لا تهمل وسيلة من الوسائل لصد الجيش التركي ، كذلك يجب عليك أن تعمل كل ما باستطاعتك عمله للحصول على الخشب.»
أما ضم قبرص إلى مصر فهو أيضا لازم لا مندوحة عنه لسببين؛ الأول: ليكون مركزا لأسطولنا، والثاني: لمنع الباب العالي من أن يكون له طريق إلى أملاكنا. وإذا شئت أن تطلب بغداد فلا مانع من طرح هذه المسألة على بساط البحث على أن نتنازل عنها في المستقبل؛ لأن هذه الولاية لا تنفع شيئا، وهي كسنار بعيدة جدا عن مصر وتتطلب نفقات باهظة.
هذا ما أعرضه على مسامعك وأوجه إليه - مع منتهى الاحترام - أنظارك.
أما محمد علي، فإنه كان يكتفي بسوريا وأدنه، بينما إبراهيم كان يتعرض إلى تأليف دولة بحرية قوية. كان محمد علي يرى بمصر وسوريا وبلاد العرب والسودان دولة كبيرة وبعيدة عن الاحتكاك بأوروبا، خلافا لإبراهيم الذي لم يكن يخشى الاحتكاك بالدول الأوروبية.
وفي 30 يناير وصل الخبر إلى الآستانة بأن إبراهيم قام من قونيه إلى كوتاهيه فأمر السلطان ريس أفندي بأن يقابل المسيو بوتيف سفير روسيا ويطلب منه إنجاز الوعد الذي وعد به القيصر وهو إرسال 20 إلى 25 ألف جندي. ولما وصل إبراهيم إلى قره حصار؛ أي على مسيرة 40 ساعة من بورصة، طلب السلطان من سفيري فرنسا وإنكلترا إيقافه عن التقدم، فاشترط سفير إنكلترا أن يسترد السلطان الطلب الذي طلبه من الروس، ولكن محمد علي كان قد أمر إبراهيم بالوقوف في كوتاهيه، فأبلغ إبراهيم ذلك للقائمقام ولسفير فرنسا. ووصل الجنرال مورافيف إلى إستامبول من الإسكندرية وأبلغ الباب العالي أن محمد علي أصدر أمره إلى إبراهيم بالتوقف أمامه، ولكنه نصح الباب العالي بأن لا يغتر بذلك وبأن يتخذ الحيطة، ولكن سفيري إنكلترا وفرنسا استندا إلى جهر محمد علي بالخضوع للسلطان وبأمره إبراهيم بالوقوف، فطلبا استرداد الطلب الموجه إلى قيصر روسيا، ولكن الباب العالي لم يعدل عن ذلك.
وقام الأسطول الروسي من سيبستابول في 14 فبراير، وصدر الأمر إلى الجنرال كيسليف باجتياز الرومللي بجيشه إلى الآستانة وصدر الأمر إلى قومندان أوديا بحشد جيشه.
وفي 20 يناير وصل الأميرال روسين الفرنساوي بأسطوله إلى الدردنيل، وأبلغ الباب العالي أنه يدافع عن مصلحته أمام إبراهيم باشا إذا هو استرد طلبه من روسيا، ولكن الأسطول الروسي وصل إلى البوسفور في 19 فبراير، فأبلغ الأميرال الفرنساوي الباب العالي أن وصول الأسطول الروسي يذهب عن الباب العالي كل استقلال، وأن وجود السفير الفرنساوي أصبح عبثا.
ولما وصل ذلك إلى ريس أفندي أرسل رسله إلى الأميرال يقنعه بأن يكون الوسيط بين إبراهيم ومحمد علي والباب العالي، على أن يعطي محمد علي ولاية عكا وطرابلس والقدس ونابلس، وأن الزيادة غير ممكنة لبقاء السلطنة. فارتضى الأميرال الوساطة على هذه الشروط، وعلى شرط خروج الأسطول الروسي من المياه التركية. وكانت حجة الأميرال أن الباب العالي لا يستطيع التنازل عن ولاية دمشق؛ لأن التنازل عنها يضعف سلطة السلطان الدينية. أما أدنه فإن السلطان بحاجة كمحمد علي إلى أخشابها.
ولما وقع الأميرال وريس أفندي مشروع الاتفاق على ذلك في 21 فبراير كتب الأميرال إلى محمد علي وإلى إبراهيم كتابين قاطعين، وطلب من محمد علي أن يستدعي في الحال جيشه؛ لا باسم مصلحته فقط، بل بحكم خلاصه وإنقاذه؛ لأن «الاعتدال صار لازما لك، والإصرار على مطالبك يوقع عليك مصائب إذا زادت جزعت لها. ففرنسا تتمسك بالعهود التي أنا قطعتها، وهي تملك القوة، وأنا ضمين إرادتها.»
وأرسل إلى إبراهيم باشا بأنه يجب عليه أن يعتبر الصلح مبرما على الشروط التي بحثها الباب العالي، ولا يمكن تغيير أي شيء في أساس هذه الشروط، بل الواجب قبولها وإيقاف القتال.
وبعد ذلك طلب الباب العالي من سفير روسيا شكر القيصر على المساعدة التي قدمها، وأبلغه أن سفير فرنسا قد توسط للصلح الذي كاد أن يتم على يديه.
الفصل الثامن
موقف الدول من مصر الفائزة.
محمد علي يرفض مطالبها المشينة.
خوف إنكلترا على طريق الهند. ***
ظن الأميرال روسين الفرنساوي أنه بكتابة العهد الذي وقعه في 21 فبراير بأن يبرم محمد علي الاتفاق مع الباب العالي على أن يعطى عكا وصيدا وطرابلس ونابلس، قد أنهى المسألة، وقد أبعد الروس عن الآستانة؛ لأن همه الوحيد انحصر بإبعادهم فقط عن عاصمة تركيا. وظن أن الباب العالي صادق بوعده بأن يطلب من الروس العودة من حيث أتوا، وكانت سياسته مضمخة بريح البارود؛ أي التهديد والوعيد بقوة فرنسا، ففشل في كل ذلك؛ لأن الباب العالي لم يطلب من روسيا إلا أن ترسل أسطولها إلى ميناء قريب من البوسفور، حيث ينتظر وصول القوات البرية. وغضب قيصر روسيا لعمل الأميرال روسين حتى قال لسفير فرنسا لديه: إذا أرادت فرنسا منازلتي وقتالي فأنا مستعد، ولا أسمح أن تحل مسألة من مشاكل الشرق دون مشاركتي؛ لأني أقرب الدول إلى الشرق والشرق يهمني، ويكفي محمد علي أن تكون حدوده جبال طوروس.
ورفض محمد علي ورفض إبراهيم الشروط التي وقعها روسين باسم حكومته.
وقد عرفنا أن الأميرال روسين كتب إلى محمد علي بأن يستدعي قواته من الأناضول «لا بحكم مصلحته فقط، بل لأجل سلامته»، فكان في ذلك كمن يأمر أمرا.
وأرسل مع مندوبه إلى الإسكندرية كتابا إلى قنصل فرنسا لدى محمد علي المسيو ميمو «بأنه لا يصدق بأن إبراهيم يتعرض للتبعة الهائلة التي تقع عليه إذا هو تقدم؛ هذا إذا لم يتقهقر، والواجب أن يرسل إليه والده بريدا ليأمره بالوقوف.»
وأغرب ما في موقف الأميرال روسين أن حكومته لم تكل إليه سوى الوساطة الودية بين الخصمين، وكانت منذ أوائل 1832 تقول بإعطاء محمد علي سوريا كلها خلافا لما فعل مندوبها. ولم يكتف الأميرال روسين بما تقدم، بل خطر له أن يصدر الأمر إلى قسم من الأسطول الفرنساوي، بأن يذهب إلى المياه السورية ويقطع المواصلات مع إبراهيم باشا بحرا. ولما طلب من زميله الإنكليزي ماندفيل أن يحذو حذوه، أجابه السفير الإنكليزي أنه يقره على ما فعل؛ لأنه يتفق مع سياسة إنكلترا، ولكنه يعتذر عن إصدار الأوامر إلى الأسطول.
أما إبراهيم باشا فإنه رد على كتاب الأميرال روسين بقوله «إنه يقيم حيث يقيم الآن في كوتاهيه بأمر والده، وإنه لا يتقدم ولا يتأخر على هواه، بل طبقا للأوامر التي يتلقاها من مصر وحدها.»
وكان إبراهيم قد وقف في كوتاهيه وأرسل جنوده، فاحتلوا القرى والمدن الواقعة على الميمنة والميسرة. وفي 19 فبراير ذاع في أزمير أن جيش إبراهيم باشا مقبل عليها، فسلم واليها طاهر بك مقاليد الأمور إلى أحد أعيانها أمين أفندي الذي تولى الحكم باسم إبراهيم باشا. ووصل الخبر إلى الآستانة في 24 فبراير، فكان الجزع شديدا، واغتنم الروس الفرصة لإبقاء أسطولهم في البوسفور «دفعا للخطر الداهم»، وأرسل السلطان صنيعته أحمد بك لزيارة الأسطول الروسي تملقا إليه.
ولكي يثبت الأميرال روسين للسلطان بأنه متمسك بشروطه على مصر، أمر قنصل فرنسا في أزمير أن ينزل علم القونصلاتو، وحذا حذوه قناصل إنكلترا والنمسا وبروسيا. فلما رأى ذلك أمين أفندي الذي يتولى الحكم باسم إبراهيم باشا أعاد مقاليد السلطة إلى الوالي طاهر بك. •••
استعاد حزب الروس قوته في إستامبول بعد تعيين رءوف باشا صدرا أعظم؛ لأن روسيا الدولة الوحيدة التي تستطيع مساعدة الباب العالي، فغضب لذلك الأميرال روسين، وكتب إلى حكومته أن الدواء الوحيد لخلاص تركيا لا يكون إلا بخلع هذا السلطان، وقال: إن الشعب في سبات عميق، فهو أعجز من أن يفعل ذلك. وفي 15 مارس أبلغ الأميرال الفرنساوي الباب العالي أنه إذا لم يبتعد الأسطول الروسي بعد 25 ساعة عن البوسفور، فلا يكون مسئولا عن اتفاق 21 فبراير. ومن أجل هذا البلاغ جمع السلطان ديوانه، وكلف ريس أفندي أن يذهب إلى السفارة الروسية وأن يبلغ الجنرال مورافيف والأميرال لازاريف أن الاتفاق قد أبرم مع مصر، فهو يأمل إعادة الأسطول الروسي إلى روسيا. فأجابه الجنرال أن إبراهيم باشا لا يزال على مسيرة خمسة أيام من إستامبول، وأن باستطاعته أن يهجم عليها. فأجاب ريس أفندي أن لدى الدولة وسائل المقاومة. وهذا ما أبلغه الباب العالي إلى الأميرال روسين، ثم ظهر أنه لم يكن صحيحا. أما نظر إنكلترا إلى اتفاق 21 فبراير، فكان نظر الارتياح، فكتب بالمرستون إلى ويليام كامبل سفير إنكلترا في كابل يقول:
إن الشروط المعروضة على محمد علي باشا حسنة جدا ما دامت هذه الشروط تحرمه من دمشق وحلب، وهما الطريق إلى العراق. وفوق هذا، يجب أن يثبت في كل سنة في ما أعطى له وإن كان تثبيته في ولاية مصر دائما.
وقد كان قصده تأليف مملكة عربية لجميع بلاد العرب، والمشروع جليل الشأن بذاته لولا أنه يقضي بتقسيم تركيا، فلا يمكنا أن نسلم به.
أضف إلى ما تقدم أن تركيا أفضل دولة تملك طريق الهند، فهي أفضل من أي ملك عربي يقوم على هذه البلاد نزوعا للعمل كثير الحركة.
فالواجب علينا أن نساعد السلطان على أن يعيد تنظيم جيشه وأسطوله وماليته، فإذا استطاع أن يعيد النظام إلى تلك الولايات الثلاث استطاع البقاء. ا.ه.
أما «فيينا» فإنها قابلت خبر اتفاق 21 فبراير بالارتياح، وإن كان مترنيخ اتهم الأميرال روسين بأنه عمل بلا حساب وبحكم الحسد، الأمر الذي يجرح روسيا، ولولا اشتراط الأميرال روسين سفر الأسطول الروسي من إستامبول لغادرها ذلك الأسطول بعد الاتفاق، ولا يمكن أن تسكت روسيا على الجرح الذي أصابها.
أما روسيا فكان جوابها أن القيصر لم يكن يحاول جراية منفعة، أما بعد الآن فإن تركيا باتت في قبضة روسيا ولا قيمة لاستقلالها بعد احتلال الأسطول والجيش أملاكها.
وارتبكت السياسة الفرنساوية لأن الأميرال روسين تجاوز التعليمات، فأوقفها موقف العداء تجاه روسيا، وموقف الخصام لمحمد علي، ولم يكن باستطاعتها أن تتجاوز عن كرامتها فتعلن استنكار عمل ذلك السفير الذي نفذ سياسته الشخصية لا سياسة حكومته، كما قال الملك لويس فيليب لكلوت بك عندما قابله ليبسط له خطأ سياسة الأميرال روسين مع محمد علي صديق فرنسا. ذلك ما كان من أمر الدول في اتفاق 21 فبراير.
أما في مصر، فإن الفكر السائد بعد وصول خليل رفعت باشا كان على أن الصلح قد تم، ولكن وصول رسول الأميرال روسين يحمل اتفاق 21 فبراير وكتب التهديد منه لمحمد علي وإبراهيم وقع وقوع الصاعقة.
فالكبتن أوليفيه وصل إلى الإسكندرية في 3 مارس على البارجة مزانج، وفي اليوم ذاته قدمه القنصل ميمو إلى محمد علي، فقدم نص الاتفاق وكتاب الأميرال روسين إلى محمد علي وصورة من كتابه إلى إبراهيم. ففي الجلسة ذاتها أمر محمد علي أمين سره بوغوص بترجمة ذلك، وكان محمد علي يقاطع المترجم بعبارات الاستياء والاستنكار، ولما ذكر المترجم «عكا وطرابلس والقدس » هز محمد علي رأسه وضحك ضحكة الاستهزاء. ولما انتهى بوغوص من تلاوة الاتفاق والكتب قال محمد علي:
إذا كانت الدول التي يهمها أمر مصر أكثر من سواها قد تخلت عني بهذا الشكل، فأنا أعتبر ذلك منها حكما علي بالموت. ولكني أعرف كيف أموت شريفا وكيف أجعل موتي مجيدا كما كانت حياتي مجيدة. وإني أقابل الحكم وسيفي في يدي، وإذا أنا قبلت مثل هذا الثمن بعد نصري فإن الباب العالي يعود بعد سنة أو سنتين إلى إصلاح قواته، وإلى دس الدسائس التي أكون ضحيتها. فالأفضل أن أعرف كيف أموت منذ اليوم.
وكان الأميرال روسين يهدده إذا لم يقبل شروطه باستدعاء الضباط الفرنسيين من جيشه البري ومن أسطوله. ويقول المسيو ميمو إنه هو والكبتن أوليفيه تعبا في إقناعه بأن فرنسا التي عاونته وهي تعجب به لا تريد به شرا. فظل على قوله «إنه ضحية مكيدة يراد منها هلاكه» إلى قوله لهما بكل شدة «إنه متمسك بالمقترحات التي سلمها لخليل رفعت باشا، وإنه لا يحيد عنها قيد شعرة؛ وهي إعطاؤه سوريا كلها وأدنه، وإنه هو وإبراهيم ابنه يعرفان كيف يسقطان في ميدان المجد والشرف.»
قال المسيو ميمو: وعدت إليه في اليوم التالي وبينت له أن نتيجة الرفض ستكون سيئة؛ لأن فرنسا تستدعي من جيشه وأسطوله جميع ضباطها، وأن الأسطولين الفرنساوي والإنكليزي يطوفان السواحل المصرية والسورية، واستحلفه بأن يقبل الصلح. فأجابه:
إن ظهور الأسطول الروسي في الآستانة مكيدة مدبرة بين الرجال المابين والروس الذين اشتروهم بالمال. وهم غنموا فرصة وصول الأميرال روسين الذي يعرفون خلقه وتسرعه ليدفعوه فيما اندفع فيه. وخسرو باشا هو عدوي، وقد طلب الروس لإستامبول بينما كان مندوبه يفاوض هنا بالاتفاق. أما الآن فقد انتهى كل أمر، فكيف تدخلت الدول الأوروبية الآن مع أن المتفق عليه معها كان ترك هذا النزاع العائلي وشأنه، بل كيف يوقعون اتفاق 21 فبراير ويضمنون تنفيذه بغياب أحد الخصمين؟ وكيف يجوز لهم أن يعتبروا الغالب مغلوبا؟ أنا لا أصدق أن فرنسا وإنكلترا تقدمان على هدم دولة تعد كل واحدة منها وجودها مفيدا لها. وظهور الأسطولين الفرنساوي والإنكليزي على سواحل مصر لا يمنع وجود الأسطول الروسي تحت سراي السلطان محمود.
والظاهر أن أوروبا تجهل مسألة مصر، فهم يظنون أني أطلب الاستقلال، وأنت تشهد أني لم أطلب ذلك، بل كان قصدي وغايتي النهوض بالسلطنة وتوطيد أركانها، وأن أزيد أراضيها وأن أضاعف قوتها بمضاعفة القوة المصرية. وبهذه الوسيلة نحول دون غزوات روسيا، وننهض بالأمة الإسلامية لندفع عن بلادها التي يستولي عليها عدوها الطبيعي قطعة قطعة وشطرا شطرا.
رفض محمد علي كما رفض إبراهيم قبله التسليم باتفاق سفير فرنسا والباب العالي، وسلم محمد علي في 8 مارس للكبتن أوليفيه رده على كتاب الأميرال، وقد قال فيه:
إن الأمة كلها في جانبي، وإذا أنا أردت إثارة الرومللي والأناضول، فأنا قادر بالاتفاق مع الأمة على كل شيء، وقد بسطت سيادتي على جميع البلاد، وانتصرت في جميع المعارك، ولما جاءني من لسان حال الأمة ومن الذين يتكلمون باسمها أنهم يولوني حكم سوريا، أوقفت جيشي عن الزحف حقنا للدماء، ولمعرفة ميول السياسة الأوروبية. فهل يكون اليوم ثمن الهوادة التي عملت بها بعد تلك الضحايا الكبيرة من أجل أمة دعتني إليها وانضمت إلي وأنالتني النصر بعد النصر، ترك البلاد التي احتللتها؟ وأن يطلب مني سحب جنودي إلى مقاطعة صغيرة تسمونها الولايات الأربع؟ إن هذا لا يكون، وإن في هذا الحكم علي بالإعدام السياسي.
في 8 مارس عاد خليل رفعت باشا من القاهرة إلى الإسكندرية، فأبلغه محمد علي أنهم يريدون أن يكرهوه على قبول شروط وقعوها هم. فهو قد صمم على المسير حتى النهاية، فلم يبق لخليل باشا إلا العودة حالا إلى الآستانة. فتبرأ خليل باشا من هذه السياسة ودافع عن الباب العالي واستسمح أن يرسل رشيد بك معاونه إلى إستامبول فسمح له، فسافر يحمل إنذار محمد علي بأنه لا يقبل أقل تعديل بشروطه، وأنه أعطى ابنه إبراهيم السلطة المطلقة للمفاوضة وتوقيع الصلح باسمه إذا أجيبت مطالبه. وحينئذ يعيد جيوشه إلى البلاد التي تعطى له. وإذا لم تجب شروطه وأصروا على اتفاق 21 فبراير، فإبراهيم حر في أن يواصل زحفه وأن يعمل ما يرى عمله بلا قيد ولا شرط تبعا للظروف.
عاد الكبتن أوليفيه رسول الأميرال روسين سفير فرنسا في الآستانة إلى محمد علي ورشيد بك معاون خليل رفعت باشا رسول الباب العالي من الإسكندرية إلى إستامبول، وهما يحملان إنذار محمد علي للباب العالي، ورفض الاتفاق الذي وقعه الأميرال روسين، وتخويل ابنه إبراهيم السلطة المطلقة بأن يوقع الصلح إذا أجيبت جميع مطالبه، أو يواصل الزحف على الآستانة إذا شاء وإذا رفضت تلك المطالب جميعا أو رفض شيء منها. وهذه المطالب هي إعطاؤه سوريا وولاية أدنه.
ولما وصل الرسولان إلى إستامبول في 13 مارس كانت الحالة قد تغيرت تغيرا كليا؛ فالباب العالي لم يطلب من الروس استدعاء أسطولهم، والأميرال روسين صار في حل من تنفيذ اتفاق 21 فبراير، ولكن تحرج الحالة حمل الأميرال روسين على أن يكتب إلى وزير الخارجية يقول: «إذا أرادت فرنسا وأوروبا إنقاذ السلطنة كان فرضا واجبا عليها إيقاف محمد علي ولو بالحرب. ولقد يكون الوقت قد فات؛ لأن إبراهيم سيكون في إستامبول بعد ثمانية أيام، فلا يجد السلطان بدا من أن يعطيه سوريا كلها، ولكن هل تسمح له روسيا بذلك؟!»
أما الباب العالي، فإنه عندما تلقى إنذار محمد علي تملكه الجزع والقلق الشديد، فطلب الوزراء من سفير روسيا بأن يعجل بطلب خمسة آلاف مقاتل لحماية العاصمة، وبأن يستعجل زحف الجنود الروس، ولكن ريس أفندي كان يعرف أن الجنود الروسية لا تصل قبل انقضاء شهر، مع أن إبراهيم يستطيع أن يصل إلى الآستانة في عشرة أيام. فأمام «هذا الخطر الداهم» رأى الباب العالي استشارة السفراء، فقابل ريس أفندي سفير روسيا والجنرال مورافيف، فقال له المسيو بونتيف: «إن من الصعب على الأجنبي بذل النصيحة، فالوزراء الترك هم يعرفون ما لديهم من القوة للمقاومة، أما الأمداد الروسية فإنها تصل متأخرة لأنهم لم يرتضوها عندما عرضت عليهم.» ولما خرج الجنرال والسفير من عند ريس أفندي ذهبا إلى خسرو باشا السر عسكر الذي تظاهر أمامهم بشدة السخط على محمد علي دون الآخرين، وقال إن من رأيه مواصلة الحرب، وإن باستطاعته جمع 25 ألف مقاتل تامي العدة.
ولما سئل سفير فرنسا رأيه قال: «إن إعطاء محمد علي سوريا وأدنه أخف شرا من دخول الروس الآستانة.»
أما سفير إنكلترا فكان قوله «إنه لا يستطيع أن يبدي رأيا رسميا، ولكن إذا كانت لدى الباب العالي قوة للمقاومة فلا ينصحه بالتسليم، وإلا فالأفضل اختيار أهون الشرين؛ وأهونهما إعطاء محمد علي طلباته.»
فأجاب ريس أفندي: إن الباب العالي مستعد أن يعطي حلب ودمشق لمحمد علي، ولكنه لا يستطيع التنازل عن أدنه، فإذا أيده سفيرا فرنسا وإنكلترا في ذلك يصعب على إبراهيم باشا الرفض.
وفي 29 مارس اتفق الأميرال روسين والباب العالي على إرسال المسيو فارين وكيل سفير فرنسا في الآستانة مع رشيد بك مندوب الباب العالي إلى كوتاهيه، للاتفاق مع إبراهيم باشا على إعطاء ولاية سوريا كلها لمحمد علي، وعلى تخفيف الشروط بشأن أدنه جهد ما تصل إليه الطاقة. وحمل الرسولان إلى إبراهيم باشا كتابي الأميرال روسين والمستر ماندفيل بمعنى ما تقدم.
وفي الوقت ذاته أرسلت فرنسا إلى محمد علي المسيو بوالكنت أحد مديري وزارة الخارجية ليقنع محمد علي بالجلاء عن الأناضول. وأصدر اللورد بالمرستون أمره إلى البحرية بتعزيز أسطول البحر المتوسط، وبإرسال هذا الأسطول إلى مياه الإسكندرية. فإذا وصل الأسطول إلى المياه المصرية، ولم يكن الاتفاق بين محمد علي والباب العالي قد تم، فيقدم الأميرال للقنصل كامبل كل المساعدة التي يطلبها. فإذا كان تطور المفاوضات يتطلب اتخاذ الوسائل القاهرة إلى أن يتم الاتفاق، يقطع أميرال الأسطول جميع المواصلات البحرية عن جيش إبراهيم، وإذا هو التقى بالأسطول الفرنساوي يطلعه على هذه التعليمات ويدعوه لمشاركته في حدود التعليمات التي يكون قد تلقاها، وإذا ظهر أسطول روسي أمام الإسكندرية، يعامله الأسطول الإنكليزي معاملة الصديق، ويدعوه للاشتراك معه. ويقول وزير خارجية فرنسا في رسالته عن ذلك إلى الأميرال روسين: «إن الذي دعا إنكلترا لأن تضغط على محمد علي هو خوفها من أن يملك العراق وطرق مواصلات الهند وسواحل سوريا والخليج الفارسي.»
كل هذا لم يخف محمد علي الذي قال لقنصل فرنسا: «إني قد تعلمت من أوروبا الآن أن الخضوع لا يكون لغير القوة.» ولكن تعلمه هذا الدرس جاء متأخرا؛ لأنه لم يشأ سماع نصيحة ابنه إبراهيم ورأيه منذ ستة أشهر مضت.
أما الباب العالي فظل على سياسة تأليب دولة على أخرى؛ فبينما هو يرسل رشيد بك والمسيو فارين إلى إبراهيم بأنه قابل شروط محمد علي، يطلب من الجنرال مورافيف في 30 مارس استدعاء الخمسة آلاف روسي من أودسا. وقال ريس أفندي للمسيو بونتيف في 31 مارس: «نحن نعلم أن الخمسة آلاف مقاتل لا تكفي لقتال جيش إبراهيم، ولكنها تحمينا من المباغتة والأخطار في بلاد الأناضول ضدنا.»
أما إبراهيم فإنه أصدر أمره في أول أبريل بالزحف على الآستانة تنفيذا لأوامر والده، ولكنه لما تلقى خبر قدوم المسيو فارين ورشيد بك أمر بإيقاف الزحف، ووصل الاثنان إلى كوتاهيه في 5 أبريل، وفي اليوم ذاته وصل إلى الآستانة الخمسة الآلاف روسي مع الفرقة الثانية من أسطول القيصر. ولكن ذلك لم يحسن الحالة، بل زادها سوءا؛ لأن وصول الجنود الروس إلى العاصمة أغضب المسلمين، ولا سيما العلماء والوزراء، وبدأت الاضطرابات بين الجمهور، ورفض المفتي إصدار فتواه بتصويب عمل الباب العالي في طلب الأمداد الروسية، ورفض أيضا إبعاد طلبة الدين الذين كانوا يعلنون في المساجد آراءهم ضد الإفرنج والروس على وجه التخصيص، وكان عددهم ثلاثين ألفا.
ولما احتل الروس إستامبول اشتد الاضطراب في لندن، فاقترح تاليران وزير فرنسا أن تتفق فرنسا وإنكلترا وروسيا والنمسا على قطع العهد بينها بألا تطمع واحدة منها بامتلاك أرض من تركيا، فوافقت إنكلترا على ما يلي:
أولا:
التعهد بألا تجزأ تركيا.
ثانيا:
موافقة الدول الأربع على أن كل اتفاق بين الباب العالي ومصر يصون سيادة تركيا.
ثالثا:
تعهد الدول الأربع بأنه في حالة رفض محمد علي قبول ذلك، تتفق هذه الدول على الوسائل التي تتذرع بها لحمله على القبول.
ولكن النمسا والروسيا أحبطتا المشروع، فعدلت عنه إنكلترا ، وتدخلت روسيا في أمر مهمة المسيو دي فارين ورشيد بك لدى إبراهيم باشا، فأبلغت الباب العالي «أن الصلح على الشروط التي حملها إلى إبراهيم باشا محقرة له. وإذا صدقت فرنسا بأنها توقف إبراهيم باشا عن الزحف، فليكن ذلك على أحكام الشروط التي أملاها الباب العالي وحملها خليل باشا إلى محمد علي، لا على التنازل عن سوريا كلها.»
فأرسل الباب العالي في 10 أبريل رسولا إلى الأميرال روسين بأن يصدر تعليماته إلى المسيو دي فارين، بأن يلزم في مفاوضته إبراهيم باشا حدود اتفاق 21 فبراير، والعدول عن مكالمته على قاعدة التنازل عن حلب ودمشق. فرد الأميرال روسين بأنه إذا تغير حرف واحد من اتفاق 29 مارس بينه وبين الباب العالي على أن يتنازل الباب العالي عن حلب ودمشق، فإن فرنسا تستدعي المسيو دي فارين وتنفض يدها من هذه المسألة. فتدارك ريس أفندي الأمر وأبلغ الأميرال أنه لا يغير شيئا من اتفاق 29 مارس.
وفي 10 أبريل كتب المسيو دي فارين «أن رشيد بك أبلغ إبراهيم باشا بأن الباب العالي يعطي محمد علي سوريا كلها، ولم يبق من صعوبة إلا في أمر المقاطعات الأخرى؛ لأن إبراهيم لا يطلب أدنه وسلفكي فقط، بل أورفا وديار بكر. وبعد مناقشات طويلة ارتضى إبراهيم أن يرجع عن طلب ديار بكر وأورفا، وأن يكتفي بأدنه التي لا يتنازل عنها بحال من الأحوال. فإذا ارتضى الباب العالي ذلك، فإن إبراهيم يرسل إلى والده بأن الصلح قد تم، ويأمر سليمان بك بأن يعيد إلى قونيه الفرق التي غادرتها إلى كوتاهيه.»
ولما وصل هذا الكتاب، طلب ريس أفندي من سفير إنكلترا أن يكتب إلى إبراهيم باشا بأن الباب العالي ارتضى التنازل لوالده عن حكم أدنه أيضا، والسبب الذي حمل ريس أفندي على أن يطلب ذلك من سفير إنكلترا هو أن هذا السفير كان يعارض أشد المعارضة في إعطاء حكم أدنه لمحمد علي . وأيد هذه الفكرة الأميرال روسين، فكتب إلى إبراهيم باشا أن فرنسا لا تتساهل في مسألة أدنه، وحجته في ذلك أن إعطاء ولاية أدنه لمحمد علي يضع في يديه الأخشاب ومسالك الطرق في جبال طوروس وطريق إستامبول. وكان رأي الأميرال روسين أن تتفق الدول جميعا على ذلك، وإن أفضى الاتفاق إلى إكراه محمد علي بالقوة؛ لأن الباب العالي قد يسلم بمطالبه تحت ضغط إبراهيم.
وفي 15 أبريل صدرت التوجيهات، وهي جدول أسماء الولاة والحكام المثبتين في ولايات الدولة، وفي هذه التوجيهات أن ولايات مصر ودمشق وحلب وعكا وبيروت وطرابلس الشام وكريد والقدس ونابلس، قد حولت إلى عهدة محمد علي، وأن ولاية الحبشة وجدة ومكة إلى عهدة إبراهيم باشا. وأما ولاية أدنه موضوع الخلاف، فإنها تظل تابعة لخزانة الدولة.
ولما أبلغ ذلك إلى إبراهيم، صاح صيحة الغضب والسخط، وقال للرسول: «كيف أستطيع أن أكتب إلى والدي أن الحكومة التركية لا تنفذ عهودها؟ فليكتب الباب العالي ذلك إلى والدي، أما أنا فإني أوقف كل حركة إلى الوراء.» لأنه كان قد أصدر أمره إلى إحدى الفرق بالعودة إلى قونيه، ولكن الثلوج منعتها عن السفر.
وفي 23 وصل كتاب القايمجي إلى الباب العالي بأن إبراهيم باشا يلح في أن يعين حاكما لأدنه، ومعنى ذلك أنه يرفض التنازل عن هذه الولاية.
فاجتمع الوكلاء، وقرروا أن يطلبوا من إبراهيم باشا أن يرسل إلى الآستانة إما عثمان بك وإما باقي بك من رجاله المقربين، للمباحثة في مسألة أدنه، ففهم إبراهيم أن المقصود المماطلة والتسويف، حتى تصل الأمداد الروسية - وهي بين 6 آلاف و7 آلاف مقاتل وعشر سفن حربية - فضلا عن أن الأميرال روسين الفرنساوي كان يهدد محمد علي بقوة أوروبا. ولكن وزير خارجية فرنسا كتب إلى هذا السفير «أن الوصول إلى الصلح أغلى من أدنه ثمنا.» وحاول الأميرال روسين الاستعانة بالجنرال مورافيف والمسيو بولتيف، فرفضا، ووصل في أول مايو اللورد بونسوبي سفير إنكلترا إلى إستامبول، فأدرك أن الباب العالي يميل إلى إعطاء أدنه إن كانت إنكلترا وفرنسا تسمحان له بذلك. وفي الوقت ذاته سأل سفير روسيا الديوان عما يريد أن يفعل الجيش الروسي الذي وصل إلى نهر الدانوب، وعدده يتراوح بين 30 ألفا و40 ألفا، أهو لحرب يواصلها أم تسليم شئون تركيا إليه؟ فاجتمع الوكلاء واتفقوا على الاستعفاء إذا طلب الجيش الروسي. فصدر بعد ذلك بثلاثة أيام خط سلطاني بالموافقة على قرار الوكلاء، وهكذا انتصر الميل إلى الصلح.
وكان إبراهيم باشا قد أبلغ الباب العالي أنه يكتفي بأن يكون «محصل أموال أدنه»، كأي محصل آخر، وأن هذا يرضي والده ويريح الباب العالي، وهذا ما قبله الديوان وقرره.
كان وصول إبراهيم البطل الفاتح إلى كوتاهيه سببا لانهماك الدول في مسألة تركيا ومصر، فأوفدت فرنسا والنمسا وإنكلترا مندوبين سياسيين إلى مصر: هم بوالكنت من مديري الشئون الخارجية الفرنساوية، والكولونيل كامبل من سياسي إنكلترا، والهر بروكس أوستن من سفراء النمسا. وأوفدت إلى الآستانة الأميرال روسن الفرنساوي واللورد بونسوبي الإنكليزي والجنرال مورافيف والكونت أورلوف الروسي.
وكانت سياسة روسيا ترمي إلى بسط حمايتها على تركيا، وسياسة النمسا حل المسألة بالاتفاق مع روسيا، وسياسة فرنسا وإنكلترا إبعاد روسيا عن تركيا والحيلولة دون أن يؤلف محمد علي الإمبراطورية العربية؛ لذلك كان رأي اللورد بونسوبي بعد درس المسألة أن ينصح - بالاتفاق مع الأميرال روسين - السلطان بقبول الحل الذي حله إبراهيم باشا، وذلك بأن يعين محصلا - أي مديرا - لأموال أدنه باعتبارها جفلكا سلطانيا. وكان سخط العلماء وطلبة الدين - وعددهم ثلاثون ألفا - ظاهرا باديا في الآستانة لاستدعاء السلطان الجيش الروسي والأسطول الروسي لاحتلال عاصمة السلطنة. ولما خرج السلطان للصلاة في اليوم الثالث من أيام عيد الأضحى بدا له سخط الشعب لهذا السبب ولشدة الضائقة من قلة الغذاء؛ لأن جيش إبراهيم قطع المواصلات مع بلاد الأناضول التي تغذي الآستانة، ولأن الروس زاحموا الأهالي على ما عندهم من المآكل. فلما عاد إلى القصر السلطاني سلم بإعطاء إدارة أدنه لإبراهيم. وهكذا انتهت المفاوضات التي بدأت في أبريل بقبول شروط محمد علي في 3 مايو. ولم يشأ محمد علي أن يطلب قبرص لفقرها؛ «لأن الإتاوة التي يطلبها الباب العالي ستة آلاف كيس (3 آلاف جنيه)، وهي عاجزة عن دفع هذا المبلغ مع أن كريد صالحة للتعمير والاستثمار.» وهو إذا ملك كريد وأدنه وسوريا ومصر ألف من ذلك كله وحدة قوية وغنية معا. ومما قاله محمد علي لمندوب النمسا: «إن امتلاك أدنه لازم لي؛ لأن الباب العالي لا يستطيع التجاوز عن عملي معه، فالواجب أن تكون بيدي الضمانة؛ فهو غدره ضعيف الآن ولكنه يستطيع أن يستعيد قواته بعد ست سنين، وهو يحكم ستين مليونا، وأنا لا أحكم سوى أربعة ملايين، فلا بد لي من بلاد تدافع هي عن نفسها.»
أما السبب الذي دعا اللورد بونسوبي إلى نصيحة الباب العالي بأن يعطي إبراهيم باشا أدنه، مع تصريح اللورد بالمرستون قبل ذلك بأن إنكلترا لا تسلم بقيادة دولة عربية فتية على طريق الهند، فهو أن تستعين إنكلترا بالصلح بين مصر وتركيا على إخراج الروس من الآستانة، ثم تستغل بعد ذلك حفيظة الباب العالي على محمد علي حتى ينهض بعد إصلاح شئونه لأخذ الثأر ومنع التوسع المصري.
ولما وصل الكونت أورلوف الروسي إلى الآستانة في أبريل، بلغه أن الصلح بين السلطان ومحمد علي وضع في اليوم السابق لوصوله، فقال: «إن هذا الصلح ليس سوى هدنة لا تدوم أكثر من خمس سنين إلى ست سنين.» وهذا ما وقع بعد ذلك. ولم يكن اتفاق كوتاهيه معاهدة صلح تضمنها الدول، ولكنه كان محضرا بين إبراهيم ومندوب السلطان، نفذ بصدور فرمان الولاية لمحمد علي على مصر وكريد وسوريا، وبتعيين إبراهيم محصلا أو مديرا لأدنه وواليا للحجاز ... إلخ.
ووصل خبر الاتفاق إلى الإسكندرية في 11 أبريل. وفي 16 أبريل وصل الأميرال سليم بك من قواد جيش إبراهيم، وكان قد غادر كوتاهيه في مساء 9 أبريل، وقابل محمد علي في دار صناعة السفن بحضور القناصل، فصاح بوغوص بك بأعلى صوته: «لقد أبرم الصلح.» فتغير وجه محمد علي وضحك ضحكة عصبية؛ لأنه لم يستطع تمالك نفسه. ورأى الحاضرون دمعتين تنحدران على خديه من عينيه رغم رزانته ومهابته.
ولكن الرد على مسألة أدنه أبطأ، فأخذ مندوبو الدول يلحون على محمد علي بأن يتحول عن طلب أدنه، وكل واحد منهم يقرن طلبه بالتهديد أن يسلم لهم، إلى أن وصلت سفينة حربية في 5 مايو تحمل من إبراهيم خبر تسليم الباب العالي بأدنه، فأمر محمد علي بأن ترفع المراكب والسفن زينتها كاملة، وبأن تطلق القلاع والطوابي في جميع أنحاء البلاد مائة مدفع ومدفعا. وقرر السفر إلى القاهرة وتفقد المزارع بطريقه، حتى لا يقابل مندوب السلطان برتو بك - الذي يحمل إليه الفرمان - في غير العاصمة.
وهذا هو نص الفرمان السلطاني الصادر في 6 مايو إلى الوزراء والميرميران والمللا والقضاة ونواب الشرع والمتسلمين والكبراء والأعيان والوجوه والموظفين في أنحاء بلاد الأناضول:
إن تأكيد الأمانة والإخلاص الذي قدمه في العهد الأخير والي مصر محمد علي باشا وولده إبراهيم باشا، قد لقي الحظوة لدينا، فنوجه إليهم رضانا العالي الشاهاني، وأثبت في ولاية كريد ومصر محمد علي باشا. ونظرا لالتماسه الخاص، وليته مقاطعات دمشق، وطرابلس الشام، وصيدا، وصفد، وحلب، وإقليمي القدس ونابلس، وحراسة الحج، وقيادة الحردة. ونال ابنه من جديد من عطفنا الشاهاني لقب شيخ الحرم المكي، وولاية جده. وفوق هذا قد أجبت ملتمسه بشأن إدارة مقاطعة أدنه التي يديرها إدارة الجفالك الشاهانية، وذلك بلقب محصل.
وإني لما طبعت عليه من الإنصاف والشفقة والحلم، أصدر أمري هذا لجميع من في بلاد الأناضول بألا يحاسبوا أحدا من السكان والأعيان عن الماضي، وأن ينسوا جميع الحوادث التي وقعت. وأنتم جميعا تبلغون من في دائرتكم عفوي، وتبذلون جهدكم لتطمين الخواطر من هذا الوجه، وتعملون كل ما باستطاعتكم لرفع الأدعية لشخصنا الشاهاني من كافة الشعب الذي هو أمانة من الله في يدنا.
ولأجل إعلامكم أصدرنا فرماننا هذا طبقا لخطي الشريف، فأبلغوا إرادتي السامية لكل من عندكم، وطمنوا الأهالي وحثوهم على الدعاء لي، وابذلوا الجهد لتنفيذ إرادتي دون أن تسمحوا لأحد بإهانة أحد ومخالفة مقاصدي السامية.
وهذا كتاب إبراهيم باشا إلى جلالة السلطان محمود في 11 مايو من معسكر كوتاهيه بعد البسملة:
الحمد لله القوي الجبار، والذي تتعالى قوته عن كل شبيه ومثيل، أسأله وهو خير مسئول أن ينعم بالغبطة التي لا تنهى، وبالسعادة التي لا تزول، على صاحب العظمة السامية والحلم المتناهي والجلالة، مولانا القدير العظيم الشأن الذي غمرتنا وغمرت العالمين مبراته وإحساناته. وأسأله بسط ظله الوارف الذي يستظل به سائر العباد على عبده هذا، سائلا الله إجابة دعائي بجاه المصطفى سيد الرسل والأنبياء.
أما بعد، فقد تفضلت نعمة الجلالة الشاهانية بأن منحت هذا الخادم المطيع لقب محصل حكومة أدنه، وشملت شمس أنظاره هذا العبد الذي غمرته النعمة، فردت إليه الحياة حتى تتصاعد مع أنفاسه الدعوات بطول حياته وبدوام سلطانه. وإني ما بقيت حيا لأكون وقفا على خدمته، ولتمسكي بواجب الإخلاص الذي لا يعتريه أقل فتور، أسأل الله وحده أن يمد بعونه وحوله عبد عظمتكم الذي لا أمنية له إلا أن يقف حياته على شرف خدمتها في كل ما ينطبق على مشيئتها السامية.
وإذا تعالى إلى مسامع عظمتها رفع هذه العريضة إلى مواطئ عرشها السامي، لشكرها على حلمها وإنعامها الذي لا حد له، يتنازل مولاي وولي نعمتي ونعمة العالمين جميعا، فيأمر بما يروق له. وله على كل حال أن يأمر ويشمل هذا الخادم الأمين بتعطفاته التي لا حد لها.
وكتب إبراهيم إلى الصدر الأعظم كتابا قال فيه إنه تلقى الفرمان الذي حمله إليه مفتش الذخائر الحربية، فدله ذلك على أن الالتماس الذي رفعه على يد قاصيجي أفندي قد تفضلت جلالته بقبوله، فأولته مهمة محصل حكومة أدنه. إلى قوله: «إنه حال وصول الفرمان وتلقي ما أبلغ إليه شفويا، أمر الجنود بأن تسافر من مرابطها، وأنه سيسرع بالذهاب إلى أدنه دون الوقوف في الطريق.»
وكتب مثل هذا إلى أحمد باشا أحد كبار المقربين من السلطان.
كان عدد الجيش التركي عند توقيع اتفاق كوتاهيه الذي جعل حدود حكم محمد علي جبال طوروس 36197 جنديا، منها 11260 جنديا هم حرس السلطان من فرسان ومشاة، والباقون موزعون على 20 محطة ومعسكر. وسلاح هذا الجيش ثماني بطاريات من المدافع.
بينما جيش الباشاوات الثمانية الذي هزمه إبراهيم باشا في معركة حمص في 8 يوليو 1832 كان 80 ألفا، وجيش حسين باشا الذي هزمه في معركة بيلان في 29 يوليو 60 ألفا. وكذلك كان عدد جيش محمد رشيد باشا الذي هزمه إبراهيم في قونيه في 21 ديسمبر 1832 وهو الجيش التركي الثالث والأخير.
أما الجيش المصري، فكان مجموع عدده في شهر مارس سنة 1832 مع فرسان العرب المصريين وهم ثمانية آلاف - أي بعد اتفاق كوتاهيه - 193932 ضابطا وجنديا وبحريا وبريا، وهم موزعون على الوجه الآتي:
16785 في البحرية الحربية.
13223 في بلاد الحجاز.
53511 في قلاع القاهرة والأقاليم.
9163 في كريد.
7460 في بلاد النوبة والسودان.
82944 في معسكرات الميدان.
8358 جنود عمال بدار الصناعة وملحقاتها.
1526 أركان حرب مدرسة قصر العيني.
1250 أركان حرب مدرسة البحرية بالإسكندرية.
300 ياوران وحرس.
412 أساتذة وتراجمة وطلبة.
ففي 14 مايو انتهى القتال والعداء، ولولا تألب الدول بقواتها بعد ذلك على مصر، لعرف هذا اليوم بأنه أعظم يوم في تاريخ مصر الحديث، ولكان يوم تأليف الإمبراطورية العربية من جبال طوروس، إلى بحر الهند، فخط الاستواء. ولكي يقف القارئ المصري على بطولة إبراهيم، ننقل عن المسيو دوين شهادة أحد مارشالية فرنسا في حروبه، قال:
إن حملة 1832 تشرف إبراهيم وتعلي شأنه. ويقيني أن الملمين بالشئون العسكرية والخبيرين بها يعترفون معي بأن تلك الحملة لا يتناولها أقل انتقاد، وأن قيادتها بنيت على أسلوب حكيم وقاعدة متينة وهمة عالية. والنقد الوحيد هو أنه في المعارك الثلاث الكبرى بينه وبين الترك استخدم منذ بدء القتال صفوفه الثانية وجيوشه الاحتياطية، ولكن يدفع هذا اللوم عنه ويجعله في جانبه يقينه برداءة نظام الجيوش التركية.
وقد وفق إبراهيم في الحوادث المفاجئة، كما وفق بكفاءة سليمان بك (الكولونيل سيف) صاحب الدراية العالية في تسيير الجيوش. ا.ه.
لم يضع اتفاق كوتاهيه حدا للمشاكل بين محمد علي والباب العالي، بل كان هذا الاتفاق في وقت واحد هدنة حربية وفاتحة مشاكل جديدة أولها: الحدود، وقد أثارها إرسال إبراهيم باشا جنوده إلى أورفا - الرها - لصد غارات البدو من الصحراء على البلاد العامرة، وثانيها: الإتاوة التي يدفعها محمد علي عن البلاد التي ضم حكمها إلى حكم مصر. وقبل أن نتبسط في وجوه الخلاف نعود إلى الأصل؛ أي إلى الإتاوة التي كان يدفعها محمد علي ذاته عن مصر.
ففي سنة 1806 صدر الفرمان السلطاني بتعيين محمد علي واليا على مصر، إجابة لطلب علماء مصر وأعيانها، وتعهد محمد علي يومئذ بأن يدفع للباب العالي مبلغ أربعة آلاف كيس في السنة - والكيس 500 قرش - أي إنه تعهد بدفع عشرين ألف جنيه. ولكن الولاية كانت تسمى في ذاك الحين ولاية القاهرة، وولاية القاهرة كانت تشمل الوجه البحري ومصر الوسطى فقط؛ لأن صعيد مصر كان مقسما أقساما عديدة، وكل قسم يتولى حكمه مملوك من المماليك. وكانت الإسكندرية والشطر الأكبر من مديرية البحيرة ولاية مستقلة، يعين لها الباب العالي واليها من إستامبول. فلما طرد محمد علي الإنكليز من رشيد والإسكندرية في سنة 1807، رضي الباب العالي أن يضم إلى ولاية القاهرة - أي إلى ولاية محمد علي - ولاية الإسكندرية. ولم يكن دخل ولاية محمد علي سوى 175 ألف جنيه، ولكنه صمم على توحيد حكم البلاد كلها سياسيا وماليا، فتخلص من المماليك في سنة 1811، ونال فرمان ولاية الصعيد، وزاد الإتاوة التي يدفعها للباب العالي عن مصر كلها إلى 12 ألف كيس؛ أي إلى ستين ألف جنيه. وهكذا كون محمد علي مصر، وهكذا جعلها تحت حكم واحد.
ولما رأى الباب العالي نمو ثروة مصر بفضل أعمال محمد علي وإصلاحاته، طلب في سنة 1814 إبان حرب الوهابيين وفي سنة 1824 إبان حرب المورة، زيادة الإتاوة، مع أن مصر تحملت النفقات لتوطيد حكم السلطان في بلاد العرب والبلقان، حتى قالوا إن حملة المورة وحدها كلفت محمد علي عشرين مليون فرنك وثلاثين ألف رجل فوق نفقات الأسطول ورجاله. كذلك قل عن كريد التي أخمد محمد علي ثورتها، ثم تولى منذ 1830 حكمها والإنفاق على حاميتها، وهي من 8 آلاف إلى 9 آلاف مقاتل.
فلما عقد اتفاق كوتاهيه أرسل الباب العالي إلى مصر مندوبه أدهم أفندي ليتفق مع محمد علي. فقبل محمد علي أن يدفع للباب العالي 32 ألف كيس في السنة، ابتداء من مايو 1834، فاستصغر الباب العالي المبلغ وقال إنه لا يتفق مع دخل مصر وسوريا وجزيرة كريد. فأجاب محمد علي أنه متنازل عن جزيرة كريد، فأخذ الباب العالي بهذا القول، ولكن فرنسا وإنكلترا وروسيا أقنعته بألا يتمسك بعرض محمد علي، وبأن يدع كل شيء على حاله.
وكانت مالية محمد علي مرهقة في ذاك الحين لكثرة المال الذي أنفقه على حملة روسيا، فقد أنفق عليها مليونا ونصف المليون جنيه. وكانت ميزانية مصر في سنة 1833 في عجز كبير، فهبطت إلى 825 ألف جنيه. وفي 14 مايو تم الاتفاق بين أدهم أفندي ومحمد علي على أن يقبل محمد علي أن يدفع عن مصر ما تعهد بدفعه، وعلى أن يدفع عن ولايات سوريا وكريد ما كانت تدفعه قبل أن يتولى حكمها، وهو:
2000 كيس عن كريد.
18000 كيس عن سوريا وأدنه.
وأن يكون مجموع الإتاوة التي تدفعها حكومة مصر عن البلاد التي تحكمها 33 ألف كيس أو 160 ألف جنيه. ولكن هذا الاتفاق لم يرض الباب العالي الذي كان يطلب 90 ألف كيس أو 500 ألف جنيه مقابل الإتاوات التي تأخرت إبان الحروب. ولأجل تسوية الحساب على هذه القاعدة أرسل الباب العالي إلى الإسكندرية الدفتردار، فوصل إليها في 30 يوليو، وكان محمد علي غائبا في زيارة كريد.
وقد غادر الإسكندرية في 27 يوليو، فوصل إلى تلك الجزيرة في 3 أغسطس. وبعد المفاوضات الطويلة تم الاتفاق في شهر أكتوبر على أن يدفع محمد علي للباب العالي 32 ألف كيس، وعلى أن يسحب إبراهيم باشا جنوده من أودفا.
وكان الباب العالي قد أبرم مع روسيا معاهدة، بل محالفة، تجعل تركيا تحت حماية القيصر، فبعد هذه المعاهدة أراد الباب العالي نكث عهده وإلغاء اتفاق كوتاهيه، ولكن اللورد بونسوبي قاوم هذا الرأي ليظل مستندا على مصر لتقوية نفوذه في الآستانة، فأبلغ الباب العالي «أن محمد علي يدفع الآن للباب العالي أكبر مبلغ يصل إليه من جميع ولاياته، وأن من مصلحة السلطان الآن أن يستبقي مودة هذا الوالي، وأن ولاية محمد علي تنتهي بانتهاء حياته، وأن من مصلحة هذا الوالي ألا يدع سلطة روسيا تبسط على إستامبول. وقد لا يكون الوقت الذي يحتاج فيه السلطان إلى جميع قوات السلطنة بعيدا ليصون استقلاله من روسيا. فمن حسن السياسة أن يربح السلطان مودة محمد علي له سواء كان بالإنعامات أو بسواها استبقاء لثقته.»
ولما قدم ترجمان السفارة الإنكليزية هذه النصائح في 29 مايو لريس أفندي قال له هذا: «أنا أعلم أن فرنسا وإنكلترا هما صديقتا الباب العالي وأنا أبوح لك بأني لا أفهم كيف صار عدونا القديم روسيا صديقنا المخلص لنا اليوم.»
وأما محمد علي، فإنه لا يكون في حجر السلطان إلا الثعبان الذي يدفأ في هذا الحجر.
وهذا القول يدل على الدسائس التي أخذ الباب العالي يدسها لمحمد علي في بلاد سوريا وعلى جده في استعادة قوته. ولكن فكرة الإمبراطورية العربية كانت متأصلة في نفوس العرب وفي نفس إبراهيم، حتى كتب الكولونيل تايور قنصل إنكلترا في بغداد إلى الكولونيل كامبل قنصل إنكلترا في الإسكندرية في 6 نوفمبر 1833 من بغداد يقول: «إن هذه الولاية هي الآن في أشد حالات البؤس والضيق تحت حكم علي باشا الذي كان قبل مجيئه إلى بغداد واليا على حلب. وأنظار الشعب العربي متجهة في هذه المحبة نحو إبراهيم.» والحقيقة أن سياسة إبراهيم منذ الساعة الأولى كانت غير سياسة محمد علي، حتى كتب بروكس أوستن إلى الكونت مترنيخ في 16 يوليو 1833 يقول:
إن أسبابا عديدة تثبت أن فكرة تأليف الإمبراطورية العربية لا تزال حية ولا تزال موجودة، ولكني أرى إلى جانب العقل المدبر عقل محمد علي، المطامع الواسعة والهمة العالية في صدر ولده وخليفته. فإبراهيم ابن هذا العصر، وقد تربى تربية عصرية عالية، وتنزه عقله عن الانطباع على الخضوع للسلطان بحكم المبادئ الدينية. وإني لأرى - إلى جانب ضعف الباب العالي وهزاله - جيشا عربيا قويا ممرنا على أحدث مبادئ القتال، وأرى أسطولا قويا، وكلا الجيش والأسطول يسهل مضاعفتهما. أضف إلى هذا كله يقظة الروح العربية بعد سباتها، فمحمد علي يتمتع بحسن السمعة والصيت الحسن في جميع الأقطار العربية.
والظاهر أن مندوب النمسا استند إلى تقرير قدم إلى محمد علي قبل ذلك، وهذا التقرير وجد في سجلات وزارة خارجية إنكلترا، وهو بنصه:
إن أصدق ترتيب وأفضل تنظيم هو أن تؤلف المملكة العربية من مصر وبلاد النوبة وسنار ودارفور وكردوفان في إفريقية، ومن البلاد العربية كلها حتى الخليج الفارسي، ومن الشاطئ الشرقي لنهر الفرات، مع دخول سوريا كلها في هذه المنطقة.
فإذا تم ذلك يحييكم العالم العربي، كما يحيي الثائر للخلافة الإسلامية وللخلفاء الراشدين، وكما يحيي الرجل الذي أرسله الله لإنقاذ الإسلام، وكل عربي ينظر إليه اليوم كمتجه أمانيه وآماله.
وهذه الروح الدينية والسياسية قد تحولت كل التحول عن الإنسانية إليكم. وهذا شريف مكة هو أول المعجبين بقوتكم وعظمتكم، والرأي العام يرافقكم ويؤيدكم بأصدق أمانيه ودعائه، ولا ريب ولا شك في أفضلية وسائلكم على ما عند الباب العالي.
ولبلوغ الغرض يجب النداء بمفاوضة أعيان بغداد وزعماء الشعب على الشاطئ الشرقي من الفرات والإنكليز، لا يعارضون بالتقرب من الأئمة في الخليج الفارسي، وتستطيع سعادتكم بتوطيد نفوذكم هناك في حماية التجارة والصناعة والدين، ونحن نثق بقرب حلول نكبة في إستامبول، فإنكلترا وفرنسا لا تستطيعان الحيلولة دون ذلك، والنمسا وروسيا لا تريدان هذه الحيلولة.
ومن أجل ذلك تكون خطة سموكم الدفاع، فتدع تركيا أوروبا وشأنها، وما هو واقع وراء جبال طوروس لما تقرره أوروبا.
ومما لا شك فيه ولا ريب الآن أن الباب العالي يحاول أن يستعيد سوريا؛ لذلك كان محتما عليكم العمل السريع.
وجيشكم في الشام تنقصه الآن معدات الدفاع، فهو محتاج إلى 20 بطارية، وفرقتين من المهندسين، و300 مستشفى، وعدد من الأطباء كاف، وأن يكون عدد الجيش العامل 130 ألفا ما عدا العربان المتطوعين. والواجب التمسك بصداقة رشيد باشا والولاة الآخرين. ا.ه.
الفصل التاسع
بعد اتفاق كوتاهيه.
أعمال إبراهيم باشا في البلدان التي فتحها. ***
بعد اتفاق كوتاهيه الذي أسميناه «هدنة للحرب وفاتحة للمشاكل السياسية»، عاد إبراهيم باشا إلى أنطاكية، واتخذها مركزا له يشرف منه على بلاد الأناضول ليرقب حركات الترك؛ لأنه كان واثقا من إقدام الباب العالي على الدسائس، وعلى استعادة قوته لسلب محمد علي وإبراهيم ما أعطاه مكرها.
ولولا سياسة أوروبا ضد مصر خوفا من أن تؤلف الإمبراطورية المصرية فتحرم أوروبا مغانم الاستعمار بالشرق، لكان حكم الناموس الطبيعي في نظر علماء أوروبا ذاتهم أن تخلف مصر في ذاك الحين تركيا، وأن تقوم في العالم الإسلامي مقامهم. فأوروبا ساعدت تركيا للحيلولة دون حكم الناموس الطبيعي أن يسير سيره. وإليك نص الحديث الذي ألقاه ملك فرنسا لويس فيليب إلى الدكتور كلوت بك مفتش صحة الجيوش المصرية في مقابلته له في 28 نوفمبر 1832. قال كلوت بك في مذكراته عن ذلك الحديث:
بعد محادثة خاصة بشئون مصر انتقل الملك إلى الكلام في الحرب الناشبة بين إبراهيم باشا والباب العالي، فقال: «إنه كان يعتقد مع فولني - المؤرخ والجغرافي الشهير - أن الثورة التي تهدد وجود تركيا لا مندوحة عن اشتعالها في مصر التي هي الطريق الطبيعي إلى إستامبول. فمحمد علي لم يكن إذن إلا الأداة في قبضة الحوادث الطبيعية المتوقعة والتي لم تكن عنها مندوحة.» إلى قوله: «ولما ساح الدوق دورليان في أميركا، قابل هذا الباحث المدقق فولني وحدثه في ذلك. وكان الفرنساويون يحتلون يومئذ مصر، فأعرب له فولني عن هذا الرأي بيقين قوي؛ لأن مصر هي البلد الوحيد الذي احتك بالمدنية الأوروبية الحديثة دون بلاد الشرق، وهي البلد الوحيد القادر على أن يستمد من المدينة الحديثة قوة تزلزل عرش إستامبول. ولسوف تعمل مصر كل شيء لهضم هذه المدنية الأوروبية الحديثة.» ثم قال الملك: «فليس إذن غريبا أن نرى اليوم ما هو واقع بين مصر وتركيا، ولا مندوحة عن الوصول إلى النهاية بعد أربع أو خمس سنين على الأقل. وإذا لم يكن ذلك، فالنهاية لا يشك فيها أحد؛ لأن الهيئتين السياسية والدينية اللتين كانتا دعامة عرش إستامبول قد فسدتا، والقوة العسكرية التي كانت تسند العرش والمنبر معا قد تضعضعت. وهذه روسيا تتقدم في عشر سنين خطوة نحو البوسفور، وكل خطوة تخطوها لا تقل عن 50 مرحلة، فيوم استقلال الولايات البعيدة عن إستامبول قد دنا. وحقيقة الواقع أن مصلحة الدول تقضي عليها بإبقاء تركيا، ولكنها في النهاية ستحل لأنها فقدت الدين والدنيا معا، ومصر في مركز مادي وأدبي وفي حال تقضي بخروجها من تحت النير التركي، إما آجلا وإما عاجلا. وعندما تحرر ضفاف النيل لا تلبث ضفاف الفرات أن تحذو حذوها وتؤلف التنتان بعد ذلك؛ المركز الذي تقوم فيه الخلافة الجديدة، وقد جددت شبابها بعلوم أوروبا وقوتها.»
وقبل أن نتبسط في أعمال إبراهيم باشا في سوريا مع رقابته تدبيرات تركيا في الأناضول، ننظر إلى معاملة جيشه للأهالي. فقد بسطها سليمان باشا الفرنساوي رئيس أركان حرب إبراهيم بكتابه إلى البارون دي فارين وكيل السفارة الفرنساوية في إستامبول، وكان قد كتب البارون إليه يستحلفه بأمم فرنسا قبل اتفاق كوتاهيه في أن يقنع إبراهيم باشا بإيقاف الزحف، فرد عليه في 17 يناير سنة 1933 يقول:
لقد أصبت في حكمك علي؛ فإني أحب فرنسا وأجلها، فلا أسمع مرة اسم وطننا الجميل دون أن أحس في طيات نفسي بهزات ذكراه المجيدة. وقد تكلمت في موضوع كتابك مع الأمير القائد العام، والظاهر أنه لا يستطيع أن يتحمل تبعة إيقاف الزحف بمحض إرادته، والذي كتبه إليك هو كل ما يستطيعه (وكان إبراهيم باشا قد رد على البارون دي فارين الذي طلب منه إيقاف الزحف - لأن الباب العالي قد أوفد إلى الإسكندرية خليل باشا - بأن ذلك فوق حدود سلطته ومخالف للأوامر التي تلقاها، وأنه قائد عام فقط ومهمته الأعمال العسكرية).
فالأمير يود الوصول إلى الصلح من صميم فؤاده، وقد أمضه أن يرى وقوع هذه الحروب، ويسره أن يرى الأمة متحدة بإخلاص وسائرة في طريق المدنية التي عمل والده للوصول إليها كثيرا جدا.
ولم أستطع أن أكلم الأمير عن العبارات التي يفوه بها الباب العالي بشأنه، لعلمي أنه لا يعبأ بهذه الصيغ البالية من صيغ الاستبداد العتيق؛ لأن الأمير يحب الحرية ويضحي حياته وثروته في سبيل الوصول إلى أن تحكم بلاده بأحكام القوانين التي تنظم بلادنا الجميلة فرنسا.
وهل تظن أن القائد العام يرضى أن يدل الشعب على مصالحته مع الباب العالي بمظاهرات خلابة كاذبة؟ فأنا أؤكد لك أن هذا إذا وقع لا يكون له أقل تأثير في الولايات؛ لأن جميع سكان الولايات في قنوط ويأس شديدين من أعمال الجيش التركي الذي لا نظام له ولا قانون، فهو ينهب ويحرق ويقتل ... إلخ.
أما جيشنا فهو على عكس ذلك؛ لأنه خاضع لنظام صارم كنظام جيش فرنسا، فهو يدفع ثمن كل شيء يأخذه نقدا، وهو يحترم كل الاحترام أموال الناس وأملاكهم، وهو قد نال بين الأهالي سمعة حسنة يعد من الخطل إضاعتها بإبلاغهم أنهم باقون تحت النير التركي ... إلخ.
هذا ما كان يعمله جيش إبراهيم في البلاد التي اجتازها، ولأجل هذا أحبه الأهالي؛ لأنهم قابلوا بين مسلكه ومسلك خصمه. وكان إبراهيم ينشط الزراعة ويشجع الأعمال الصالحة. والآن ننظر إلى الإصلاحات التي أجراها إبراهيم في إدارة البلاد، ولا تزال آثارها باقية حتى الآن. فقد ذكر كلوت بك أن جيشه الذي كان عدده 85 ألفا وزعه على 17 معسكرا، وأوقف أكثره على حدود تركيا، ولم يبق معه سوى 1152 جنديا؛ فجعل حامية أدنه 6479 جنديا، وأنطاكية 2131 جنديا، وحلب 13130 جنديا، وحماه 4297، ودمشق 3489، ومرعش 5238 ... إلخ.
أما التنظيم الإداري فإنه جعل القاهرة السلطة العليا. وكان إبراهيم جامعا بين القيادة العليا للجيوش والحكم العام لسوريا وكيليكيا، وضم فلسطين إلى ولاية دمشق، وجعل واليها شريف بك الذي كان قبل ذلك حاكما لسوريا كلها، وجعل متسلما لعكا الشيخ حسين عبد الهادي من أعيان نابلس، وولى سليمان باشا الفرنساوي ولاية صيدا لصلتها ببيروت وصلة بيروت بالتجار الأوروبيين، وإسماعيل بك من أولاد عمه ولاية حلب، وأحمد منكلي باشا ولاية أدنه ... إلخ. وعين يوحنا البحري مديرا لحسابات الولايات كلها، وألف في كل مدينة عدد سكانها عشرون ألفا فما فوق ديوانا للمشورة ينتخب أعضاؤه من أعيان المدينة وتجارها، ويمثلون جميع المذاهب، وسن لهم نظاما للعمل دقيقا، وجعل قراراتهم نافذة، إلا إذا هي استؤنفت إلى المجلس الأعلى؛ إما في دمشق أو عكا، ويجوز تمييزها بعد الاستئناف إلى القاهرة.
وأبطل الإقطاعات في أنحاء البلاد.
وكان إبراهيم باشا في أول الأمر شديد الوطأة على الموظفين الذين يحيدون عن جادة العدالة.
واتبع في تنظيم القضاء طريقة فرنسا، ولكنه أبقى سلطة القاضي الشرعي في الشئون الدينية والشخصية؛ فكان قاضي المدينة ينظر في القضايا الجزئية والمعاملات التجارية ويسجل العقود، وكانت القضايا الكبيرة تحال إلى المحاكم العليا وهي مؤلفة من قاضيين أو أكثر، وكانت الأحكام تستأنف إلى قاضي القضاة. أما اختصاص المشورة، فكان النظر في الأموال الأميرية وقضايا ملكية الأراضي وإعطاء المقاولات والالتزامات، ووضع النظم للمالية والجمارك وسواها.
ويقول المسيو لاني ترجمان قونصلاتو النمسا في مصر: إن مركز إبراهيم في داخل البلاد كان النجاح مضمونا له؛ فهو فضلا عما كان له من السلطة والهيبة قد تمكن من أن يضم إلى جانبه الأسر صاحبات النفوذ في البلاد، والتي كانت قبل عهده مهضومة الجانب بأن قدم عليها خصومها.
أضرب مثلا لذلك أسرة عبد الهادي في جنوب سوريا؛ فقد كان لها النفوذ الكبير على تلك البلاد الكثيرة الاضطراب، فأنزلت من مقامها ورفعت فوقها أسر أخرى من نابلس، إلى أن جاء الحكم المصري فصارت مدينة باستعادة منزلتها إلى إبراهيم باشا. وحديثا عندما مات الشيخ حسين مدير إيالة صيدا، عين إبراهيم باشا أخاه محمودا خلفا له، ورقى ابنه صالحا إلى رتبة أميرالاي في الحرس، وأسدى إلى جميع أفراد هذه الأسر المناصب والرتب، حتى صارت مخلصة للحكومة المصرية.
وتركت الحكومة المصرية لحليفها الأمير بشير الشهابي استقلاله في إدارة لبنان. ولبنان ظل في كل وقت - بفضل طبيعته الجبلية، وحزم سكانه، وشدة مراسهم - ملجأ للحرية المضطهدة وحامي الاستقلال، فهو في سوريا مثل بيمونتي في إيطاليا.
فالأمير فخر الدين المعني (1585-1635) كان قبل الأمير بشير أول من أوجد وحدة حكم لبنان الكبير، وأنقذه بالحيلة واللين والدهاء من حكم الباب العالي باستناده إلى أوروبا.
أما الأمير بشير، فإنه وجه نظره إلى مصر أم المدنية ومهد النهضة الحديثة في الشرق. ا.ه.
ولقد ذكرنا في فصل سابق تأليف ديوان المشورة في دمشق من 22 عضوا يمثلون جميع المذاهب، أما ديوان مدينة بيروت فكان مؤلفا من 12 عضوا مراعاة لعدد السكان، وهم ستة من المسلمين: عبد الفتاح حمادة ناظر الديوان، وعمر بك بيهم، وأحمد العريس، وحسن البربير، وأمين رمضان، وأحمد جلول. وستة من المسيحيين وهم: جبرائيل حمصي، وبشارة نصر الله، وإلياس منسي، وناصيف مطر، ويوسف عيروط، وموسى بسترس.
وكان لكل مدينة متسلم يتولى إدارتها ويقوم بأعمال قاضي الصلح والمجلس البلدي، ثم مباشر يتولى وظيفة مدير المال.
الفصل العاشر
الفتن والثورات في فلسطين وسوريا.
أسبابها ونتائجها.
اتحاد إنكلترا مع تركيا ضد محمد علي والدولة المصرية. ***
إن نقصان دخل البلاد إبان الحروب، وكثرة النفقات على الجيوش، أحوج محمد علي إلى الأموال. ثم إرسال الباب العالي رشيد باشا إلى حدود سوريا من جهة الأناضول وحشده الرجال والإتيان بالسلاح، أحوج محمد علي إلى الرجال، فأخذ بالبحث عن هذين الموردين؛ لأن مصر أعطت كل ما كان بإمكانها إعطاؤه، ففكر في عقد القروض في أوروبا، ولكن أصحاب الأموال والدول اشترطوا أن يوافق الباب العالي على تلك القروض؛ لأن محمد علي كان واليا على مصر وسوريا، فلا يكون القرض صحيحا إلا بموافقة السلطان، ولا يأمن أصحاب المال على مالهم إلا بتقديم الضمانة. وهذا أيضا ما كان يطلبه أصحاب الأموال ولا يسلم به محمد علي. وكانت الأموال التي يتوصل إليها محمد علي من الخارج هي عبارة عن «سلف» على القطن؛ فمحل بريجس وتوربون ومحل غوتيه وباستره هي المحلات التجارية التي كانت تقدم السلف على القطن المصري، فمحل باستره قدم لمحمد علي 300 ألف ريال إبان حصار عكا.
ولما عرضت فرنسا في سنة 1833 تقديم عرض كبير مقابل ضمانات يقدمها محمد علي، أبى تقديم الضمانات؛ لأنه كان يطلب سلفا لمدد قصيرة لا قروضا لمدد بعيدة طويلة؛ لذلك رفض ما عرضه عليه روتشلد، وهو إقراضه مائة مليون فرنك، وعرض عليه قرض آخر على أن يكون ضمانته دخل الحكومة، فرفض أيضا وأصدر أمره إلى إبراهيم باشا بتحصيل الأموال وتجنيد الرجال من البلاد التي فتحها وتولى حكمها، فغالى الولاة والحكام في ضرب الضرائب وطلب التجنيد، فكان ذلك سببا للفتن والثورات في تلك البلاد، بل قد لا ترجع تلك الفتن إلى سبب واحد، إنما إلى عدة أسباب:
الأول:
إزالة نفوذ أصحاب الإقطاعات في تلك البلاد وحكمها حكما نظاميا أغضبهم؛ لأنه قطع أرزاقهم وسلطتهم على الشعب.
الثاني:
وقوف رشيد باشا بجيشه الجديد على الحدود، وإرساله الرسل إلى أولئك الناقمين، وحثهم على الفتن لاستعادة سلطتهم بمساعدة الباب العالي والدول.
الثالث:
ثقل حمل الضرائب والرسوم، وإفراط الحكام بالتحصيل، وتجنيد الشبان بالقوة.
الرابع:
خلف الوعد مع اللبنانيين، بترك سلاحهم لهم، وعدم التعرض لاستقلالهم، وعدم زيادة الضرائب، والإصرار على تجنيد الدروز، وإهانة شريف باشا شيوخهم.
الخامس:
ظهور الإنكليز بمظهر العداء لمصر ونشرها الدعوة ضد محمد علي ... إلخ.
أما الضرائب التي ضربت، فهي احتكار حاصلات الحرير في سوريا، كاحتكار حاصلات القطن في مصر. فطلبت إنكلترا من الباب العالي إصدار أمر بإلغاء هذا الاحتكار، فزاد ذلك في الاضطراب. ثم ضريبة الفردة، وهي ضريبة يدفعها كل رجل من سن الخامسة عشرة إلى سن الستين، وأقلها 15 قرشا على الفقير و500 قرش على الغني، وصدر الأمر بعد ضربها بأن تحصل على سنتين. ثم رسم الدخولية بين 6 ونصف و12 بالمائة على البضاعة التي ترسل من مدينة أخرى، ورسم التسريح على الحاصلات المحلية التي تنقل من بلد إلى آخر، ورسوم المواشي كالغنم والمعزى والجمال، وضريبة الشونة؛ وهي أن يقدم الأهالي للجيش في جهتهم كل حاجاته، ثم رسم الطاحون. على أن إبراهيم باشا لم يكن راضيا عن ثقل الضرائب، ولكنهم كانوا يكتبون إليه من القاهرة بأن الضرورة تقضي بذلك، ولا مرجع عنه. ومع ذلك لم يكن دخل سوريا يكفي للإنفاق عليها.
أما التجنيد فلم يكن أهل سوريا قد ألفوه؛ لأن الحروب والاشتراك بها كانت على وجه عام دائمة، ولكنها كانت حروبا محلية. ولما تقرر التجنيد أخذوا ينفذونه بالقوة وبحصار المدن والقرى، والتقاط الشبان، كذلك نزع السلاح من الأهالي.
كانت الفتنة الأولى في فلسطين؛ فإن إبراهيم تلقى أوامر والده وهو في يافا مع أركان حربه بضرب الضرائب التي ذكرناها، فأذاع ذلك بمنشور وأوامر أصدرها إلى الحكام، فاتفقت أسرة طوفان وأسرة الجزار - من جبال نابلس - مع أسرة أبي غوش - بين القدس ويافا - على مقاومة ذلك. وسبب اتفاق هذه الأسر: أن الأولين كانوا الحكام على عهد الترك، فأسقطهم إبراهيم وأحل محلهم آل عبد الهادي. وأما أسرة أبي غوش، فكانت تقطع الطريق على الحجاج وسواهم، وتأخذ منهم «الخوة»؛ وهي ضريبة على كل مار بالطريق بمناحر أو بمواشي ما بين يافا وغزة وبئر سبع، فضرب إبراهيم على أيديهم وأبطل تلك المظالم وسجن في سجن عكا كبيرهم.
ولما بلغ إبراهيم تآمرهم أسرع إلى القدس وطلب أعيان البلاد وحتم عليهم تنفيذ الأوامر، فوعدوا بإبلاغ قومهم ذلك، وانصرفوا، ولكنهم انصرفوا لإضرام نار الفتنة وإذاعة الأخبار عن زحف جيش رشيد باشا من سيواس، فانتقض العربان في جهة البحر الميت وقبيلة أبي غوش وأهالى جبل نابلس، وتحرج موقف الحامية في القدس. ولما أرادت الانسحاب إلى يافا اعترضتها في الطريق قبيلة أبي غوش، فأكرهتها على العودة إلى القدس والاعتصام بالقلعة. وأرسل إبراهيم باشا آلايا من يافا إمدادا للقدس، فصد عن غرضه. ووصل إليه في الوقت ذاته أن الثوار فتكوا بحامية الخليل، وأنهم مقبلون لحصار القدس وقد نهبوها، فقام من يافا بستة آلاف مقاتل، فقهر في طريقه قبيلة أبي غوش، ودخل القدس، وظل القتال دائرا بين الثوار وجيشه، إلى أن وصل محمد علي إلى يافا في 29 يونيو سنة 1834 ومعه جيش قوي، فغنم إبراهيم الفرصة وتغلب على الثوار بالوسائل السياسية.
وكان أهالي صفد قد ثاروا ونهبوا أموال اليهود وأملاكهم وفتكوا بهم، فطلب محمد علي من الأمير أمين ابن الأمير بشير الذي أوفده والده لتحية محمد علي عند وصوله إلى يافا، أن يبلغ والده أن يسير إلى صفد رجاله، ويؤدب ثوارها ويرد المسلوبات لليهود، فنهض الأمير إلى صفد، وقبل أن يدخلها قابله قاضيها وعرض عليه طاعة أهالي صفد، ووعده برد الأسلاب. فقبل طاعتهم، وأرسل إلى صفد الأمير أفندي حاكم راشيا ليستلم قلعتها ويعيد المسلوبات إلى اليهود، فنفذ أمر الأمير وقبض على الذين اعتدوا على اليهود وسلبوا أموالهم، وأرسلهم إلى سجن عكا.
وكان إبراهيم باشا قد أرضى أسرة غوش بإخراج زعيمها من سجن عكا وتعيين ابنه متسلما للقدس. وسار إبراهيم باشا إلى جبال نابلس، فأخمد الفتنة، وقبض على كثيرين من الثوار، ثم سار إلى الخليل وقاتل الثوار وكسرهم، ثم اتجه إلى الكرك والسلط وأخمد الفتنة. وعاد محمد علي إلى مصر في 29 يوليو؛ أي بعد أن استتب النظام في فلسطين، وعاد الأمير بشير إلى لبنان.
وظل إبراهيم يطارد زعماء الثوار الذين لجئوا إلى عرب عنزه، فأرسل إلى رؤساء تلك القبيلة ليسلموا زعماء الثورة، وأهمهم الشيخ قاسم أحمد، فسلموهم وحكم عليهم بالإعدام.
ووصل إبراهيم بجيشه إلى دمشق، فبلغه من شريف باشا حاكمها أنه لما بلغ أهلها خبر فتنة فلسطين بدت عليهم علائم الاضطراب، فأرهبهم بالقبض على المهيجين، وجمع منهم نحو خمسة آلاف بندقية وسيف. وأمر إبراهيم بمضاعفة الطلب، وظهرت بوادر الفتنة في طرابلس؛ حيث اكتشفوا مؤامرة على حاميتها وعددها 400 جندي، فأرسل محمد علي قبل سفره من يافا إلى الأمير بشير أن يرسل ابنه الأمير خليل ليتحد مع المتسلم سليم بك على تأديب الثوار. ولما وصل الأمير خليل برجاله إلى طرابلس، قبض على 25 رجلا من الجانحين إلى الفتنة واعتقلهم بالقلعة. ووصلت الأوامر من إبراهيم باشا وهو في دمشق بإعدام زعماء الثورة، فأعدم ثلاثة عشر منهم، واتجه الأمير خليل ومتسلم طرابلس إلى بلاد عكار وصافيتا، فقبضوا على الزعيمين أسعد بك المرعب وأسعد بك الشديد، وعلى ولدين من أولاد محمد بك القدور، وعلى 30 شخصا من الأعيان. وهكذا فعلوا في جهة صافيتا واللاذقية، فهدأت الفتن في هذه الجهات.
بعد أن انتهت فتن فلسطين وصافيتا وعكار للأسباب التي بسطناها وعلى الوجه الذي بيناه، وصل إلى إبراهيم باشا - وهو في المزيريب قاصدا إلى دمشق - أن النصيرية هاجموا آلايا من جيشه وهو ذاهب من اللاذقية إلى حلب، فهزموه وفتكوا بنصف رجاله في كمين كمنوه له في الطريق، وأكرهوه على التقهقر إلى الساحل، وأنهم هاجموا بعد ذلك مدينة اللاذقية، فنهبوا أملاك الحكومة والمسيحيين، وحصروا المتسلم سعيد أغا العينتابي في داره، فأصدر أمره إلى سليم بك بأن يقوم بقوته من طرابلس إلى اللاذقية لتأديب العصاة، وكتب إلى الأمير بشير الشهابي بأن يرسل أحد أولاده بقوة لبنانية لإخماد الثورة، فأرسل الأمير بشير ابنه الأمير خليل على رأس جيشه، وأرسل بعض أبناء عمه الأمراء مع رجالهم من وادي التيم للغرض ذاته. ولما وصل الأمير خليل إلى قرية البهلولية، فر النصيرية من وجهه، فغنم مواشيهم وما يملكون، وأحرق 15 قرية من قراهم، وتقدم سليم بك من هناك، فصدمه الثوار صدمة شديدة، فارتد عنهم، وأرسل إلى الأمير خليل لينجده، فأرسل إليه النجدات، وعلى رأسها أحد أولاد عمه الأمير جهجاه، فقهروا الثوار وأحرقوا ثلاثين قرية من قراهم، ثم تقدم الأمير خليل ومعه فرسان العرب المصريين من عرب الهنادي، فطاردوا الثوار مطاردة شديدة اضطرتهم أن يلجئوا إلى قلعة صهيون حيث جاءتهم الأمداد، فضيق عليهم الأمير خليل حتى اضطرهم إلى طلب الأمان، وأرسل الأمير بشير 500 رجل من أهالي زحلة وبسكنتا نجدة لابنه، فقابل النصيرية تلك النجدة، وكانت معركة شديدة عند جسر السن وصل خبرها إلى الأمير خليل، فأرسل قوة لإنقاذ اللبنانيين، فأنقذتهم وطردت النصيرية وطاردتهم في كل مكان حتى خضدت شوكتهم، وقدموا جميعا طاعتهم. وكان إبراهيم باشا قد وصل إلى حمص فأمر بإعادة اللبنانيين إلى بلادهم، وبإعادة الجنود إلى مرابطها، وهكذا انتهت الفتن التي قامت في سنة 33 و34، وكان أشدها ثورة بلاد النصيرية.
كان الباب العالي هو الذي حرك هذه الفتن في سوريا؛ لأنه كان ينوي استخدام معاهدته مع روسيا لاستعادة تلك البلاد من محمد علي بقوة الروس.
ويحدثنا الدكتور محمد صبري في كتابه «الإمبراطورية» المصرية عن أعمال الباب العالي، فيقول: إن رشيد باشا الذي أرسله الباب العالي إلى سيواس لحشد الجيوش بحجة إخضاع القبائل الكردية، حشد الجنود وجمع المدافع على الحدود السورية استعدادا للهجوم على المصريين، وهو في الوقت ذاته كان يدس الدسائس لإثارة الاضطرابات والقلاقل في بلاد تسهل فيها إثارة الفتن المتفقه مع طبائع أهلها.
ولما وصل خبر اتقاد الفتن إلى إستامبول في شهر يوليو، اتفق رأي السلطان ورأي بعض رجال الديوان على أن يرسلوا الأوامر إلى رشيد باشا ليساعد الثوار السوريين، وقرروا في نفس الوقت إرسال الأسطول التركي لمهاجمة محمد علي بحرا. وأكد ريس أفندي لسفيري إنكلترا وفرنسا أن روسيا لا تشترك في القتال في سوريا، فأجاب اللورد بونسوبي والأميرال روسين أن السلطان إذا أقدم على قتال محمد علي يعرض تاجه وعرشه للخطر. فهذا القول حمل السلطان على التردد، ولكنه ظل يرسل الأموال إلى رشيد باشا. وأدخل سفير إنكلترا في صدر السلطان الوسواس بقوله له: إن من مصلحة روسيا أن يقوى محمد علي؛ لأن ذلك يعود بالوهن والضعف على تركيا، وأيد ذلك في صدر الباب العالي والسلطان رد روسيا على الباب العالي - وقد طلب منها مساعدته لتأييد الثوار السوريين - بأن المعاهدة بينهم معاهدة دفاعية، وأنها لا تستطيع إمداده إذا كان هو المعتدي والمهاجم.
أما محمد علي، فإنه كان يرى ذلك كله، ولا يخطو خطوة واحدة للتحكك بالباب العالي. وقد روى قنصل فرنسا في الإسكندرية في كتابه إلى وزير الخارجية «أن محمد علي يشبه السلطان برجل يحمل على رأسه إناء من الفخار، فهو إذا ظل يمشي وحده قد لا يقع الإناء إلا أن يصطدم بأي شخص أو يدنو منه أي شخص، فيقع الإناء ويتحطم.» فمحمد علي لا يريد أن يحطم ذلك الإناء، ولكنه لا يريد أن يضمن سلامته، وكل ما يريده الآن أن يكون بمعزل عن أي عمل سياسي أو غير سياسي في الشرق.
ولكن السلطان ظل مجدا في سعايته ضد محمد علي، فأرسل في 13 سبتمبر 1834 أمير ساموس فوغوريدس بك إلى سفير إنكلترا ليعرب له عن رغبة جلالته في أن تكره إنكلترا وفرنسا محمد علي على التضحية، وعلى أن يكتفي بولاية مصر وباشاوية عكا.
فهذه الأعمال كلها كادت تدعو محمد علي إلى العودة لطلب الاستقلال التام، فكتب إلى ابنه إبراهيم في 24 أغسطس يذكره بمسعى الباب العالي لدى الدول لإكراهه على ترك سوريا وأدنه، وبالاستعداد للهجوم عليه إبان الثورة السورية ... إلى قوله:
ولنا الأمل بأننا إذا فهمنا الدول الأوروبية سوء نية الباب العالي وخطته العدائية نتمكن من تحطيم هذا القيد؛ قيد العبودية الذي نحمله الآن في أعناقنا.
وينبهه في هذا الكتاب إلى اتخاذ الحيطة والاستعداد للأزمة التي قد تقع بالمستقبل.
فرد إبراهيم باشا على والده يحذره من كل مسعى يسعاه في هذه الظروف للوصول إلى الاستقلال؛ مخافة أن يتخذ الباب العالي ذلك وسيلة للهجوم عليه؛ لا من أجل الفتن في سوريا كما كان يريد، بل من أجل مسلكه معه، وأن الجيش المصري بعد طول الحرب ومكافحة الفتن، قد تولاه التعب والملل. فهل هو يستطيع الآن منازلة الجيش التركي؟ وهل الحالة السياسية العامة موافقة لطلب الاستقلال؟ إلى قوله في ذلك الكتاب:
إنك تقول لي في كتابك المؤرخ 30 سبتمبر 1834 إنه يجب علينا الآن أن نتمكن من تحطيم هذا القيد؛ قيد العبودية، الذي نحمله الآن بأعناقنا، «وأن نحمله نحن لرجال إستامبول»، فهل تذكر يا والدي ومولاي أني إبان الحرب الأولى طلبت منك أن تلقي نير العبودية، فأجبتني أنك تكتفي باسم محمد علي؟ فإذا كنت ترى أن الوقت قد حان الآن لإلقاء هذا الغل من أعناقنا، فأنا أرى أن هذا المسعى ليس من السهل تحقيقه، بل أرى الأمر على عكس ذلك؛ أي إني أراه صعبا جدا؛ فعند الترك رجال أبطال كرجالنا أو هم أكبر بطولة، ومهاجمة أسطولهم للسواحل تضر بك أكثر من إضرارها بي.
فلم يرتح محمد علي إلى هذا الجواب، وعزاه - فيما كتبه بعد ذلك إلى إبراهيم - إلى تعب أعصابه تعبا قضى عليه بألا يدرك مغزى كتابه ومرماه، فلم يمعن فكرته قبل الجواب. فأجاب إبراهيم بما يلي:
تقول لي في كتابك في 27 سبتمبر، إن عبارتك كانت منحصرة في ضرورة تحطيم نير التابعية، وإني أنا في كتابي عزوت إليك لا حب تحطيم القيد، بل دفعه على أعناق الترك، وأن هذا الخطأ مني مرجعه إلى عدم فهمي كلامك.
والحقيقة أني أدركت فهم ألفاظك وعبارتك، وإذا كنت قد زدت عليها كلمة «تحميل القيد لأعناق الترك»، فإني قد تعمدت ذلك، وإليك البيان والسبب:
إن السلطنة التركية تدعي تبوء عرش الخلافة؛ لأنها تملك الأرض المقدسة والحرمين الشريفين على أن الحجاز في قبضة يدنا الآن. فإذا نحن نلنا استقلالنا سقطت حجة تركيا من تلقاء نفسها، وسقطت الخلافة عنهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا بعد ذلك في المساجد عن السلطان إنه خادم الحرمين الشريفين؛ لأن الحرمين والأراضي المقدسة تكون في أيدي الحكومة المصرية، وحينئذ - وعلى هذا الوجه - أجزت لنفسي أن أقول: «يحمل الترك نير العبودية بدل مصر.»
وليس تبادل الكتب بين محمد علي وولده إبراهيم منذ البدء في حملة سوريا على ما اطلع القراء، إلا الدليل على اختلاف طريقة الابن عن طريقة الأب؛ فإبراهيم كان يقول منذ الساعة الأولى بالعمل الحازم ووضع أوروبا أمام الأمر الواقع قبل أن تسترد نفسها وتعمل فكرتها وتنظم خطتها. ومحمد علي كان مترددا يرقب جو السياسة ولا يريد أن يخطو خطوة واحدة غير أمينة العاقبة. وزيادة على ما تقدم لتأييد هذا الرأي نورد نص كتاب إبراهبم إلى والده يزيد فيه التبسط في الموضوع الذي أغضب محمد علي، قال:
تذكر يا والدي أني عندما وصلت إلى قونيه ألححت بكل خضوع بأن نكسب الفرصة لإعلان استقلالنا، فرددت علي في الحال بأنك تكتفي «باسم محمد علي» وكنا في ذاك الحين منتصرين، وكانت الفرصة سانحة فلم ترد. فهل بعد سنتين من تسوية المسألة وإقامة الحدود تطلب الاستقلال؟ إن الترك أبرموا في هذه الفترة معاهدة مع الروس، وشروط هذه المعاهدة تقضي بأن كل خطوة نخطوها وراء الحدود تعتبرها روسيا اعتداء تدفعه عن تركيا، ولكنهم لم يشترطوا منع تركيا عن الاعتداء علينا. فالترك عندهم الضمانة منا، ولكنهم أحرار في أن يهاجمونا ولا تعترض دولة من الدول عليهم.
ولما وثقت الآن من أن الباب العالي يوقد الثورات في سوريا، جنحت إلى الاستقلال، مع أن الظروف غير موافقة. وهذا الإعلان الذي تعلنه أتم إفساد الصلات بيننا وبين الترك، مع أني كنت قد وجهت نظرك إلى خطورة مثل هذا العمل، فاكتفيت بأن رددت علي بأنك أعلنت إرادتك بالاستقلال.
وغرضي الوحيد من ذكر ما تقدم هو تذكر الأخطاء الماضية ، حتى لا نتسرع في المستقبل بأي عمل من الأعمال، وحتى نقدر لكل عمل من أعمالنا نتائجه.
وسبب هذا الكتاب الذي أرسله إبراهيم باشا بهذه اللهجة، هو أن محمد علي أبلغ الدول سرا أن في نيته إعلان الاستقلال التام، في الوقت الذي أخذت فيه تركيا تستعد وتكسب عطف الدول عليها، بينما الجيش المصري منهوك القوى من الحروب، والخزانة في عجز.
فلما رأى محمد علي أن الباب العالي يثير الفتن ويحشد الجيوش ويستنجد روسيا لإخراجه من سوريا، أبلغ الدول أنه عزم على الاستقلال، وأرسل إلى ابنه إبراهيم ليكون على استعداد وأهبة، فلم يقر إبراهيم هذا الرأي كما ذكرنا. وها هو نص الكتاب الذي أرسله بوغوص بك الذي كان يتولى إدارة ديوان الخارجية إلى قنصل النمسا:
لا شك في أنك عرفت الميول العدائية التي أظهرها الباب العالي حديثا ضد مصر؛ فهو يجمع منذ بضعة شهور، وبدون سبب ظاهر، جيشا ضخما في سيواس بقيادة الصدر الأعظم رشيد باشا، مع أن سموه أرسل مندوبه لإتمام المباحثات بشأن الجزية التي تدفع وبشأن الجلاء عن أورفا التي أمر إبراهيم باحتلالها مؤقتا ليصد بعض القبائل البدوية المتمردة. وفي خلال ذلك أخذ الباب العالي يوزع الأموال بواسطة عبد الله باشا الذي كان حاكما في عكا لإثارة الثورات والفتن في جبل نابلس وخليل الرحمن والقدس. وقد عمت الثورة تلك الجبال وتطلب إخمادها مجهودا استنفد ثلاثة أسابيع. ولما وصل إلى محمد علي باشا خبر هذه الحركات العدائية، أبلغ قناصل الدول أنه قد يرى نفسه مضطرا لإعلان استقلاله؛ لأن الباب العالي لا يرضيه إلا هدمه سياسيا، والجميع يعرفون أن سموه لم يطلب في حين من الأحيان استقلاله، ولكن التفرقة التامة والدائمة بين الوطنين العربي والتركي هي الآن الضمانة الوحيدة العاصمة من النتائج المهلكة من جراء الحرب الأهلية الدائمة ومن غزوة أجنبية.
وإذا اعترف باستقلال سموه، فإنه يستطيع بعد هذا الاعتراف أن يحصر همه في تنظيم ماليته، وحشد 150 ألف مقاتل منظمين تنظيما تاما، فيتمكن من القيام بالمهمة الكبرى، وهي المبادرة لإنقاذ تركيا من روسيا.
ولما اطلع مترنيخ وزير خارجية النمسا على هذا الكتاب، كتب إلى سفيره في بطرسبورج: «إنا نستنتج من اعتراف محمد علي أنه يريد أمرين: استقلاله التام عن الباب العالي ، وإنشاء الدولة العربية.» وكان إنشاء الدولة العربية هاجسا مقلقا من هواجس مترنيخ، فكان يطلب اتفاق الدول الأربع للحيلولة دونه، ولكن إنكلترا كانت ترفض كل ارتباط دائم يحول دون حريتها، عملا بسياستها التقليدية. ولكن نظرها شزرا إلى محمد علي بدأ من يوم فتح الحجاز واليمن وطرد الإنكليز من مخا، وازداد بعد اتفاق كوتاهيه. ولم تجب محمد علي الذي طلب محالفتها ووضع جيشه قيد إرادتها، ولا أجابت على عرضه أن يفتح قناة للتجارة من القاهرة إلى السويس، ولا على طلب مشورتها في إرسال حملة ضد أحد ضباطه الذي ثار في بلاد اليمن، وأخذ السفن الإنكليزية، مع الوعد بأن يعيد تلك السفن، وكان صمتها عن كل ذلك فصيحا.
والذي يبين لنا وجهة نظر الإنكليز تقرير قنصلهم فارن في دمشق في سنة 1834، فقد قال في هذا التقرير إن تجارة إنكلترا لا تتمتع في بلد من بلاد العالم تمتعها في تركيا، وأن الرعايا الإنكليز لا يميزون في بلد تميزهم في بلاد السلطان، وأن محمد علي وحكومته لا يمكن أن يعطوا الإنكليز هذه الامتيازات، وفوق ذلك أن محمد علي ينشئ المعامل، وهو الآن يورد مصنوعاتها إلى سوريا. وكذلك من الوجهة السياسية، فإن الاتفاق مع الباب العالي أفضل.
وهكذا اتحدت إنكلترا مع تركيا منذ سنة 1834 لمكافحة محمد علي، وطلبت منه إنكلترا خدمة لتجارتها في مذكرة قدمها إليه الكولونيل كامبل في 21 أكتوبر 1834، بأن ينشئ طريقا للمركبات من أنطاكية إلى الفرات بطريق حلب، وأن ينشئ مستودعا للبضائع في أزمير، وأن يأذن بعض الإنكليز بإنشاء حياض على الفرات في الجهة التي يختارونها، وبأن يعين آلايا لحراسة الحياض والمستودعات، وبأن يرسل من لدنه من يوثق صلات المودة مع قبائل البدو حتى لا يعتدوا على المراكب الإنكليزية التي تنقل البضائع.
وكان رئيس العمل - أحد ضباط الطوبجية الإنكليزية - يريد نقل قطع مركبين حربيين من أنطاكية إلى الفرات، ومعهما شرذمة من الجنود الإنكليز، مع إنشاء طابية وحصون في بيره جك. فرد محمد علي بواسطة وزيره بوغوص أن المسألة خطيرة، والواجب أن يستأذن السلطان بشأنها ؛ لأن محمد علي لا يزال تابعا له. فسعى الإنكليز سعيهم لدى السلطان، فأصدر لهم فرمانا بذلك، ولكنه اشترط في هذا الفرمان أن يكون والي بغداد ووالي سوريا حرين مخيرين بالتنفيذ. ولما صدر هذا الفرمان، مال محمد علي إلى تناسي كل شيء بينه وبين الباب العالي، والاتفاق معه للحيلولة دون مشروع الإنكليز واحتلالهم العسكري. وإليك رأي إبراهيم باشا في الرد على كتاب والده في هذا الموضوع العظيم الشأن:
مما لا شك فيه أنه إذا توصل الإنكليز إلى إقامة المعاقل والحصون على مجرى الفرات، وحققوا الأمر الذي نخشاه كثيرا جدا، فقد يعرف الحقيقة القليل من الناس، ويدركون أنك لست السبب في ذلك. ولكن عامة الشعب الإسلامي الذي يجهل بواطن الأمور سيقولون إن هذه الأعمال التي تمت على حدودنا إنما كان إتمامها برضانا وتسليمنا. وأما الاتفاق الآن مع الباب العالي على ذلك، فهو من الأمور المستحيلة؛ لأن الحرب حفرت هاوية بيننا وبين الترك، وقلوبهم ملأى بالحفيظة علينا. زد على ذلك أن طلب الاستقلال الذي وجهته إلى الدول إبان ثورة جبال نابلس، قد أزال من نفوسهم كل ما بقي من الثقة بنا؛ فهم يرفضون كل اتفاق معنا، وهم يقولون: «إذا نحن اتفقنا مع الإنكليز بقيت لنا على الأقل بورصة وإستامبول، ولا تهدم السلطنة العثمانية. أما الاتفاق مع محمد علي فهو الفناء التام.» فلم يبق إذن من شك في أن الباب العالي يخشى على وجوده وكيانه من وراء الاتفاق معنا.
ويقول الدكتور صبري في كتابه «الإمبراطورية المصرية»: إن محمد علي لم ينتصح بنصيحة ابنه إبراهيم بشأن الاتفاق مع الباب العالي على مقاومة المشروع الإنكليزي الذي يمس الإسلام في الصميم، فوسط الروس بينه وبين الباب العالي، فغنم الباب العالي الفرصة، وأبلغ مسعاه السري إلى الإنكليز ليوقع بينه وبينهم؛ إذ كتب بوتنيف سفير روسيا في الآستانة إلى زميله الإنكليزي بونسوبي في 6 نوفمبر 1835 أنه قدم للباب العالي باسم محمد علي اقتراحا سريا بالمعنى الآتي:
إن محمد علي يعلن أنه مستعد لأن يقيم العراقيل بكل ما لديه من الوسائل ؛ ليحول دون نجاح البعثة الإنكليزية إلى الفرات على شرط أن يأمره الباب العالي بذلك.
وهذا البلاغ مصدره السر عسكر، ومن الممكن الوثوق به دون أقل حيطة.
ولم يفلح المشروع الإنكليزي؛ لأن أمره افتضح لدى الدول، حتى كتب بونسو دي بورغو إلى سفير روسيا في الآستانة في 5 ديسمبر 1832 يقول - كما جاء في سجلات الباب العالي: «إن هذا المشروع الإنكليزي شديد الخطر على السلطان؛ لأنه إذا سمح بتسيير المراكب الإنكليزية على الفرات تبع ذلك طلب آخر يحتم حق استخدام وسائل حماية تلك المراكب، وهذا يتطلب إقامة المعاقل والحاميات، ولا تكون هناك مندوحة عن ذلك، لا سيما إذا نحن نظرنا إلى ما يملكه الإنكليز من الوسائل في بلاد الهند.
أما إذا سمح باشا مصر للمراكب الإنكليزية أن تأتي إلى السويس، فإنه لا يعرض نفسه وبلاده لأقل خطر؛ لأنهم مضطرون للوقوف على الساحل. ولكن الأمر في الفرات على الضد؛ لأن شواطئه وما حوله من البلاد تؤخذ وتمتلك في المستقبل.»
وهكذا أظهر الإنكليز العداء الكامن في نفوسهم نحو محمد علي، وهكذا ظهرت مقاصدهم في أن يملكوا طريق الهند قبل حفر قناة السويس. وقد حدث أمر آخر؛ وهو احتكار محمد علي لحرير سوريا، حتى يغذي بهذا الحرير معامل القاهرة ودمشق وحلب، وقرر أنه بعد تناول هذه المعامل حاجتها يصير بيع الباقي حرا لتجار أوروبا. وعين التجار والخبراء لتحديد سعر الحرير ودفع ثمنه نقدا، فأثار عليه الإنكليز الثوائر بحجة أنه احتكر الحرير لنفسه. ولما اعترض الكولونيل كامبل على ذلك، أمر إبراهيم باشا في أول سبتمبر 1835 بأن تكون تجارة الحرير حرة من كل قيد. ونال الإنكليز بعد ذلك فرمانا من السلطان بإلغاء احتكار الحرير، وغنموا فرصة صدور هذا الفرمان ليحطوا من شأن محمد علي أمام الشعب، وليثيروا عليه ثائرته.
وحدث أن شاه إيران أراد توثيق الروابط الودية مع محمد علي، فأرسل إليه مع سفير خاص ميرزا جعفر كتابا يحيي فيه «هادم الإلحاد وخادم الأماكن المقدسة والحرمين الشريفين»، وزاد الشاه على ذلك أنه يهنئه «بميوله وأفكاره المضمرة»؛ أي الاستقلال .
فلم يرق عمل الشاه في نظر سفير إنكلترا، فسعى لدى الشاه ليعدل عن إرسال مندوبه وكتابه إلى محمد علي، وعلل ذلك في كتابه إلى حكومته «بأن مطامع الشاه هي أن يوسع أملاكه بالاتفاق مع محمد الطامع الطمع ذاته.»
ولما أراد إبراهيم احتلال بيرجك على مجرى الفرات ليحول دون غزو البدو، كتب فارن قنصل إنكلترا في دمشق 22 أكتوبر 1835: «إن هذا الاحتلال يجعل لمحمد علي النفوذ الكبير على بلاد العراق، وإذا هو وصل العراق بدمشق بمرابط عسكرية، فإنه يضع لجاما للقبائل.»
وأرسل الكولونيل تايور من بغداد يقول: «إن الدير شطر من ولاية بغداد.»
وتلت ذلك كله حملة صحف لندن على وزارة الخارجية؛ لأنها ساعدت محمد علي أو سمحت له بأن يوسع دائرة حكمه. وقد جاء في وثائق دار السفارة الروسية في الآستانة أن اللورد بالمرستون ندم على خطئه الذي أخطأه بترك محمد علي وشأنه.
وقد كان محمد علي في كل ما عرضه على الإنكليز يريد اتقاء عداءهم، حتى لامه قنصل النمسا عندما عرض على إنكلترا وضع جيشه تحت إشرافهم؛ لأنه يصبح تابعا صغيرا لهم، بدلا من أن يكون وزيرا خطير الشأن في تركيا. فأجابه محمد علي: «إن هناك مغامرة خطرة، ولكني رأيت أنه لا مندوحة عن المرور بهذا الخطر.»
أما الإنكليز، فإنهم كانوا على أشد الحذر منه، وقد كتب قنصلهم في الإسكندرية يصف محمد علي وإبراهيم بقوله:
أما إبراهيم، فإنه يعتمد في كل أعماله على القوة والعمل الفاصل ليبلغ غرضه، وأما محمد علي، فإنه عند الاضطرار يستخدم المال والمداهنة والوعود الخلابة والدسائس والحيلة المفتعلة، وهو ينبوع لا ينضب في كل مأزق وحرج، وهو قادر على التملص مهما ساء موقفه حتى موقف اليأس.
منذ اتفاق كوتاهيه أخذت إنكلترا تقف في وجه محمد علي؛ لتحول دون تأليف الدولة المصرية الكبيرة من شطر من آسيا وآخر في أفريقيا. ولكن القلوب كانت تهوي إلى مصر من كل جانب، فقد عرفنا أنهم بذلوا كل جهدهم ليحولوا دون مجيء رسول الشاه إلى مصر يحمل رسالة الود والولاء من مولاه. وحدث قبل ذلك أن اللورد بالمرستون كتب في أول يوليو 1833 إلى الكولونيل كامبل قنصل إنكلترا في مصر كتابا يقول له فيه:
أرسل إليك مع هذا كتابا من المستر فرازير قنصل إنكلترا في بونا، وقد أرسله إلى وزارة المستعمرات، وهو يتعلق بعريضة وجهها - على ما يقال - سيدي علي بك مغتصب طرابلس الغرب إلى محمد علي يطلب مساعدته، فأنا أكل إليك أن تتخذ الوسائل لتعرف هل هذه العريضة أرسلت إلى محمد علي أم لا. فإذا كانت قد أرسلت إليه، فوجه إلى محمد علي التنبيه حتى لا يتدخل في هذا النزاع.
ولما أراد محمد علي في سنة 1837 معاقبة الجيشان الذين اعتدوا على الأراضي المصرية في السودان وتوسيع ملكه في تلك الجهة، تلقى من إنكلترا إنذارا تقول له فيه: «إن الحبشة هي المملكة المسيحية الوحيدة في أفريقيا، وقد أعلنت إنكلترا مرارا وتكرارا الأهمية الكبرى التي تعلقها إنكلترا على بقاء هذه المملكة سليمة من كل مساس.»
أما من جهة العراق وسوريا وبلاد العرب، فقد تلقى الكولونيل كامبل من اللورد بالمرستون في 8 ديسمبر 1837 البلاغ الآتي:
إنى قد أكلفك بأن تبلغ باشا مصر بأن حكومة جلالة الملكة تلقت التقارير عن حركات الجنود المصرية في سوريا وبلاد العرب، وهي تدل على أنه ينوي أن يبسط سلطة مصر إلى جهة الخليج الفارسي وولاية بغداد، فأبلغ الباشا بكل صراحة أن الحكومة الإنكليزية لا تستطيع أن تنظر دون اكتراث إلى تنفيذ مثل هذه المشروعات.
وفي 20 يناير 1836 قال ريس أفندي للمسيو بونتيف سفير القيصر: «إن الباب العالي أدرك في الأيام الأخيرة كل الإدراك أنه يستطيع الاعتماد في المستقبل على مساعدة إنكلترا؛ لوضع شكيمة لمطامع باشا مصر، فبادر بإرسال التعليمات إلى نوري أفندي عند سفره إلى لندرة في سنة 1835، بالسعي لتسيير إنكلترا في هذا السبيل.» ولم تفتر تركيا من يوم احتلال محمد علي سوريا من إرسال الوفد تلو الوفد والمندوب تلو المندوب إلى لندرة؛ لتستعين بها ضد محمد علي.
أما فرنسا، فإنها تحولت إلى محمد علي تقدم له ما يحتاج من المساعدة ، وكان كل همها النهائي أن توفق بين محمد علي والباب العالي، فكان الباب العالي يتظاهر بموافقتها على أن يعطي محمد علي حكم مصر ويجعله في سلالته ويترك له قوة كافية من الجيش، ولكن الظاهر أنه كان يقصد مخادعتها، بدليل أن وزير خارجية تركيا أرسل في 10 أكتوبر 1836 إلى سفير تركيا في باريس تلغرافا يقول فيه عن اقتراح سفير فرنسا والتظاهر بقبوله: «إن الغرض من هذا التظاهر مجاراته وإرضاؤه فقط دون أن نطلعه على خفايا نفسنا، فنحن قد نسلم بإعطاء محمد علي صيدا وعكا إذا كان هذا الإعطاء يرفع يده عن البلاد الأخرى، على شرط أن يرضي ذلك الإنكليز. ولكي نزيد في إخفاء ما نضمره قد أرضينا سفير فرنسا بتوقيع الاقتراح الذي اقترحه.
وعلى انتظار حل هذه المسألة نخادع محمد علي ونداهنه جهد الطاقة.»
وللوصول إلى هذا الغرض أرسل إلى محمد علي باشا صارم أفندي ليفاوضه فيما يرضيه. وقد كتب خلوصي باشا عن مهمة صارم أفندي يقول: «إن القصد الوحيد من إرسال صارم أفندي هو الوقوف على مقاصد محمد علي، ولكنه لم يؤذن له بأن يتفق معه أو يفاوضه، إنما أفهمه - تلميحا - أن الباب العالي قد يرضى بإثباته في حكم مصر مضافا إليها عكا، ولكنه ظهر أن محمد علي يريد البقاء في جميع البلاد التي يحكمها.»
ولما ظهرت لمحمد علي مهمة صارم أفندي، قال لأحد القناصل: «إن رجال الباب العالي هم الذين أرسلوا يفاوضونني، ولكنهم يريدون أن يظهروا للملأ أني ارتميت على أقدامهم؛ لأطلب منهم بعض الشيء، فما فتحته بسيفي لا ينازعني فيه منازع، لا أنا ولا ابني. أما سلالتنا، فإنها تعمل ما يكون بإمكانها للمحافظة على حقوقها.»
وكتب سفير فرنسا إلى حكومته يقول: «إن غرض الإنكليز الآن هو أن يستولوا هم على مصر، وهذا لا يتفق مع مصلحة فرنسا؛ لأنهم إذا هم احتلوا مصر، استحال على فرنسا أن تظل في الجزائر، فمن مصلحة فرنسا حل مسألة مصر بإعطائها لمحمد علي وسلالته بعده.»
هذه كلها هي الأسس التي بنيت عليها سياسة الدول في ذاك الحين، وظهرت آثارها اليوم.
كل هذه المشاغل والمتاعب السياسية لم تشغل محمد علي وإبراهيم عن تنظيم بلاد سوريا، فأول هم إبراهيم كان توحيد شعب سوريا بإزالة الفوارق الدينية، ففتح أبواب دمشق للأوروبيين، وكان دخولها محرما عليهم، وقرر المساواة بين المسلمين واليهود والنصارى، فأعلن الأهالي أن اليهود والنصارى ليسوا أحط من المسلمين مقاما حتى ينزل النصراني عن دابته إذا قابل في الطريق أي شخص مسلم، ولا أن يحرم عليهم لبس الحذاء الأحمر، ولا أن يكرهوا على ارتداء الملابس السوداء والزرقاء. وأذن للتجار الأجانب بأن يبتاعوا ويبيعوا في داخل البلاد، وقد كان محظورا عليهم الاتجار مع غير بعض المواني في الساحل. وأمر بإحصاء الأهالي ليعرف حاجاتهم والأعمال التي يقدرون على القيام بها، فكان عددهم على وجه التقريب نحو مليوني نفس، وهو:
977000 مسلم.
345000 أرثوذكسي.
260000 كاثوليكي وماروني.
175000 يهودي.
48000 درزي.
42000 نصيري.
15000 متوالي ويزدي.
وأخذ إبراهيم يولي غير المحمديين الوظائف في الحكومة، وألف المحاكم المدنية، كما ألف دواوين المشورة من الأعيان. ووجه نظره إلى القضاء على وجه التخصيص، حتى كتب الكولونيل كامبل قنصل إنكلترا في الإسكندرية إلى حكومته في سنة 1837 يقول:
إن القضاء في سوريا قد سار في مدة قصيرة سيرته في مصر بعد طول الاختبار فيها؛ فقد كان القاضي الشرعي يحكم في جميع القضايا، وكان الباب العالي يعين المفتي في كل سنة، والمفتي يعين القضاة، وهؤلاء يحكمون بأحكام الشريعة، ولا تقبل شهادة المسيحي إلا في حالة عدم وجود الشاهد المسلم، ولا يستطيع الإنسان أن يتصور الفساد والرشوة، حتى إنهم كانوا يعرفون في إستامبول قهوة للشهود الزور يقاول الواحد منهم على شهادته وعلى مدة الأيام التي يستخدم فيها لأداء هذه الشهادة. وقد يتمكن المفتي في مدى السنة التي يعين فيها من جمع ثروة طائلة؛ لأن تعيين القاضي ليس بالجدارة والاستحقاق بل بالثمن. وإذا لم يكن بإمكان محمد علي إزالة ذلك كله دفعة واحدة، إلا أنه خفف منه كثيرا جدا، وأكبر عمل عمله هو أنه لا يسمح للمحكمة بنظر القضية إلا إذا تلقت إذنا بذلك من الحاكم، فإلى الحاكم تقدم مذكرة بموضوع القضية، وهو يصدر بعد ذلك الإذن، والحاكم لا يمنع نظر أية قضية ما عدا القضايا الجنائية. أما قضايا الأحوال الشخصية وقضايا الملكية والمذهب ... إلخ، فإن الحاكم يدرس مذكرتها، ثم يحيلها إلى القاضي بقرار يلخص فيه الموضوع. أما قضايا الضرائب والتجارة والديون ... إلخ، فإنها تحال على ديوان المشورة.
وكافح إبراهيم الرشوة بما أحله بالقضاة من العقاب، حتى استقام أمرهم وساروا على منهاج العدالة والإنصاف. ولم يكن للقضاة رواتب، فقرر أن يعطى القاضي في العام من 50 إلى 65 جنيها. وعين الرواتب لجميع الموظفين، وكانوا يتناولون أجورهم من أصحاب القضايا. وعمم مجالس المشورة في عكا وبيروت ودمشق وحلب وعنتاب وكلليس، وجعل الديوان العالي في دمشق. وكان بحري بك رئيس هذا الديوان الذي ينقض الأحكام أو يقرها بأمر الحاكم شريف باشا. ولم يتخذ إبراهيم لنفسه مقرا ثابتا؛ لأنه صمم على أن يشرف بنفسه على جميع الشئون، فكان ينتقل من بلد إلى آخر، وكان يطلع في كل بلد على شئونه ورقابة حكامه والموظفين فيه، وكان يعامل الموظفين الكبار إذا خرجوا عن جادة العدالة بكل صرامة. ا.ه.
وإليك ما كتبه المستر فيري قنصل إنكلترا في دمشق إلى حكومته:
إن إبراهيم باشا فتش أثناء إقامته هنا أعمال الحكومة والحكام، فوجد في أعمالهم ما يوجب المؤاخذة والعقاب، فطرد عددا كبيرا من الموظفين، وأنزل رتب البعض، وحكم على أحد حجاب شريف باشا - الحاكم العام - بالسجن خمس سنين في عكا، وذهب بنفسه إلى ديوان المشورة، ولم يسمح لأعضاء هذا الديوان بأن يغادروا عملهم مدة عدة أيام إلى أن أتموا الأعمال التي كانت متراكمة فيه.
ولما قامت فتنة فلسطين وجبال نابلس في شهر يونيو من سنة 1834 قصد محمد علي إلى تلك البلاد؛ ليباحث ابنه إبراهيم في تنظيم إدارتها، وليقف منه على كل شيء، وليعاونه على إخماد الفتن. ولكنه لم يكن هناك سوى شهر واحد؛ أي من 29 يونيو إلى 29 يوليو، وعاد إلى مصر، وواصل إبراهيم عمله في إخماد الفتن في الجهات الأخرى يعاونه الأمير بشير الشهابي. وألف محمد علي مجلسا لإدارة الشئون في مصر مدة غيابه برياسة عبدي بك أحد المتخرجين من مدارس فرنسا العليا في التدبير السياسي، وجعل أعضاء هذا المجلس العالي من رؤساء الدواوين ومن اثنين من كل مديرية، وأن يقسم المجلس أقساما فيختص كل قسم بما خصص له أعضاؤه وينفذ الرئيس القرارات.
وبعد أن أطفأ إبراهيم الفتن استدعاه والده من سوريا ليستريح وليتفق معه على إدارة شئون تلك البلاد، ولا سيما مسألة جبل لبنان، فأقام إبراهيم في القاهرة من يناير إلى أغسطس 1835، وبعد عودته إلى سوريا أخذ ينفذ الخطة التي اتفق عليها مع والده؛ وهي تجنيد اللبنانيين ونزع سلاحهم؛ لأنه وإن كان الأمير بشير حليف محمد علي إلا أنه كان يخشى اللبنانيين إذا ظلوا مسلحين، فطلب إبراهيم باشا من الأمير بشير 1800 شاب من الدروز ليجندوا، فأبى الدروز تقديم شبانهم، وأوهم المسيحيين أنه سيعفيهم من التجنيد ونزع السلاح. وجاء حنا بحري لإقناع الدروز بتسليم السلاح، فلم يقنعوا، فزحف إبراهيم باشا بجيش كبير، فأرسل الأمير بشير أولاده وأحفاده ليجمعوا السلاح من الدروز، وبعد ذلك طلب السلاح من النصارى وترك دروز حوران وشأنهم. وكان الكثيرون من شبان الدروز قد غادروا لبنان إلى حوران، وانتهى الأمر بعد أخذ سلاح الدروز والنصارى بأنه أمر بإرسال 600 شاب من الدروز إلى عكا ومصر ليدربوا على الأعمال العسكرية. ثم أخذ إبراهيم بإتمام تنظيم الشئون في أنحاء تلك البلاد تنفيذا للبرنامج الذي حمله من مصر، وهو يتناول كل فرع من فروع الحياة القومية في تلك الأقطار. وكان مذهب إبراهيم في إدارة تلك البلاد هو مذهب نابليون «بأن الشورى للجماعة والتنفيذ للفرد»؛ لذلك حاول أن يكون حوله جميع الذين يستطيعون الخدمة وخدمة المصلحة، ولكنه حال دون مرامه أمران؛ الأول: فقر البلاد بالرجال الصالحين لتولي العمل، والثاني: فساد الموظفين وأخذهم بالطرق القديمة. وقد كتب عنه المستر يانس في كتابه تاريخ مصر الحديث: «إن هذا الأمير كان محبا للعدالة، ولما كان متوليا أمور سوريا لم يهمل وسيلة من الوسائل لكبح جماح الموظفين وقمع فسادهم ، فأنزل قيمة الفوائد المالية والربا الذي كان يحصله الصراف والمرابون، وفتح بابه لكل سائل ومتظلم، وكان الناس يغنمون فرصة خروجه من باب ديوانه ليبسطوا له ظلاماتهم. ودون شاهد عيان أن جبليا اعترض إبراهيم باشا في طريقه ليبسط له ظلامته، فلما ضاق صدر الباشا قال له: «يا عزيزي، لقد طالعت اليوم مائتي عريضة وأود أن أرتاح قليلا، فثق بأن عريضتك ستكون موضوع عنايتي.» وحدث مرة أخرى أن أهالي الناصرة تظلموا من سلب الحاكم الأموال، فأمره إبراهيم بأن يقدم حساباته بلا إبطاء، فظهر له أنه زاد مبلغ 600 قرش على الضرائب، ولما كان هذا الموظف لم يصرف في الخدمة سوى 12 شهرا، فأمر بسجنه في سجن عكا 12 شهرا كاملا.»
وكتب الكولونيل كامبل إلى حكومته سنة 1834 يقول: «كان من عادة أعيان سوريا أن يقدموا في شهر رمضان الهدايا للولاة والحكام، وقد أمر إبراهيم بمنع هذه الهدايا؛ لأنها لا تخلو من معنى الرشوة. وكان إبراهيم يحب الزراعة، فأنشأ المصرف الزراعي لإعطاء الفلاحين ما يحتاجونه من المال لزرع أرضهم، ووقاهم شر البدو الذين كانوا يعتدون على المزارع.» وكتب إلى حكومته في 15 أبريل سنة 1834 يقول: «لا تزال إلى الآن مساحة كبيرة من الأراضي بورا. ولكي يشجع إبراهيم الفلاحين على الزرع عين صرافا في حلب وآخر في أدنه وثالثا في دمشق، ووضع تحت تصرف كل صراف ألف كيس - 5 آلاف جنيه - يعطون منها أصحاب الأملاك حاجتهم. وبما أن غرضه تنشيط الزراعة، فإنه وجه إلى الولاة اللوائح بهذا الشأن. وقبل نظام إبراهيم كانت الفائدة 50 للمائة، ومع ذلك فالفائدة التي يتناولها الولاة اليوم عالية لأنها 20 للمائة. وكانت نتيجة عمل إبراهيم ونظامه أن تضاعفت حاصلات تلك البلاد ثلاثة أضعاف، وحل اليسر محل العسر، وعمرت الأرض.» وكتب هذا القنصل ذاته في سنة 1836: «إن إبراهيم أنفق أموالا طائلة على الزراعة، وقد كان الأهالي هجروا كثيرا من القرى فعادوا إليها وزادت حاصلات الحرير.» وكتب مولينوا قنصل سردينيا في حلب: «إن الفلاح السوري قد أثرى في ظل الحكم المصري.»
وكتب قنصل فرنسا في القاهرة: «إن النهر الجاري من عينتاب إلى حلب قد طهره إبراهيم ونظفه، فزادت مياهه الجارية، وهو صارف جهده لتنشيف المناقع حول الإسكندرونة، وسيصبح النهران اللذان يجريان بطرسوس صالحين لسير المراكب. وقد أنشأ هناك الطرقات على الساحل وفي الجبال لنقل الحاصلات والأخشاب، وكل الشكوى كانت من أن الفلاحين كانوا يقتلعون في الليل ما يغرسونه في النهار، وقد عزوا ذلك إلى الجهل.» ولكن المسيو لورين قنصل فرنسا علل ذلك بجور الموظفين. وقد قال في تقريره عن سنة 1839: «إن زيادة الأرض المنزرعة بلغت 80 ألف فدان في سنتين، وغرسوا آلافا من شجر التوت والزيتون، ولكن رجال الميري لم يفرقوا لجهلهم وغطرستهم بين النبت القديم والحديث، فضربوا الضرائب عليهما جميعا؛ لذلك اقتلع الأهالي الغرس الجديد. ولما وصل الخبر إلى إبراهيم باشا استنكر عمل موظفي الميري، وأمر محمد علي بمعاقبتهم، ولكن الضرر كان قد وقع وعدل الأهالي عن الزرع.»
وأمر إبراهيم - كما جاء في تقرير قنصل إنكلترا في حلب - بإلغاء أخذ الخمس من الحاصلات الزراعية، ووزع 446 شمبلا من البذار (والشنبل 75 أقة) و320400 قرش على الفلاحين، وزرع 247 ألف شجرة توت و52455 شجرة زيتون و264900 غرسة عنب، ووزع 611 محراثا، وكان قد وزع قبل ذلك 1718 محراثا.
وكتب بورفيل قنصل فرنسا في حلب سنة 1836: «إن المجهود الذي يبذله إبراهيم ليعزز مركزه في سوريا لهو مجهود لا يعرف التعب إليه سبيلا، وهو يظهر حزما عجيبا، وإذا حدثته أظهر عطفه الكبير على الأهالي، وهو يود من صميم فؤاده نشر المدنية بينهم.»
وروى عنه القنصل كامبل عندما زاره في برية حلب وهو منهمك بإبادة الجراد، فقال: «وجدته نازلا في خيمة قديمة كأحد العساكر، وهو في أثواب تكاد تكون رثة، ويجلس على سجادة قديمة، ويتكئ على سرج جواده، ولم يكن عنده سوى كرسي واحد قدمه لي. وحدثني عن الجراد، فقال إنه يأمل إبادة بيضه قبل أن يفقس ويضر بالزرع . وقد وزع عساكره العشرة الآلاف على عدة مناطق، وقال لي: إنا أحرقنا حتى الآن 16 ألف إردب.» والذي يؤخذ من تقارير القناصل أن إبراهيم أدخل زراعات جديدة في أنحاء سوريا كلها، وأتى بأنواع النبات والأشجار من أوروبا. ولما خرج المصريون من سوريا كتب قنصل إنكلترا يقول إن كل ما فعله إبراهيم قد أهمل وبار، حتى القرى التي أنشأها لتحضير البدو قد تهدمت.
أما الصناعة، فكان تقدمها في المدن كبيرا، فكتب المسيو بوالكانت يقول إن كل مدينة من مدن سوريا تختص الآن بنوع من الصناعة؛ فدمشق تصنع الآن 400 ألف ثوب من الحرير الممزوج بالقطن، يبلغ ثمنها ستة ملايين فرنك، وحلب تصنع المقصبات من الحرير والذهب، ومصنوعاتها أفضل من مصنوعات ليون وأمتن وأرخص، وطرابلس تصنع الأحزمة والزنار، وأهالي القرى قد تعلموا نسج الحرير، واشتهرت دمشق في كل أنحاء الشرق بصنع سروج الخيل، وطرابلس والقدس ونابلس ويافا والرملة تعلمت صنع الصابون، والخليل تصنع المصابيح الزجاجية، وأنطاكية ودمشق تتقنان الآن دبغ الجلود، وطرسوس تصنع أشرعة المراكب التجارية. ولحماية هذه الصناعات زاد محمد علي الضرائب الجمركية على مثيلاتها 3 بالمائة، بحجة أن الدول الأوروبية تحارب مصنوعات بلاده في أملاكها. وقد راجت المصنوعات السورية في بلاد العرب وإيران وما وراءها وتركيا كلها.
ويقول الكولونيل كامبل إن ما استنفدته معامل حلب ودمشق وحماه وطرابلس ودير القمر وصيدا من حرير البلاد السورية بلغ في سنة 1836 ألفا و200 قنطار.
وأنشأ إبراهيم معملا لنسج الصوف في صيدا يكفي سكان الجبال الباردة حاجتهم، كما أنشأ معاصر لزيت الزيتون في طرابلس، وأتى بالآلات والعدد من فرنسا.
واستخدم محمد علي علماء المعادن للبحث عنها في أراضي لبنان وسوريا، فوكل إلى المهندسين الفرنساويين البحث عن الرخام وأمثاله، وإلى الإنكليز البحث في لبنان وفلسطين عن الفحم الحجري، وإلى النمساويين البحث عن الرصاص والفضة والنحاس والذهب والحديد في بلاد النصيرية.
وزادت بعد ذلك تجارة سوريا زيادة كبيرة جدا، فقد بلغت 31 مليون فرنك في سنة 1833، وأخذت بالنمو حتى وصلت إلى 48 مليونا في سنة 1835 كما جاء في تقارير قناصل الدول وأهمها تقريرا كامبل قنصل إنكلترا ولورين قنصل فرنسا. وصارت دمشق - وعدد سكانها 120 ألفا - مركز تجارة الشرق، وحلب تجارة الأناضول والعراق. واهتم إبراهيم بطرق المواصلات، فأنشأ الطرقات، وبنى 30 مركبا للنقل من أنطاكية في نهر العاصي، فاتهمه قنصل إنكلترا بأنه يريد من ذلك فتح بغداد، ولكن إبراهيم كان يود أن يعيد لأنطاكية مجدها القديم لأنها كانت عاصمة الشرق يوم كانت رومة عاصمة الغرب.
هذا هو المجهود الذي بذله إبراهيم باشا لتعمير سوريا وتحضير البدو، وتلك هي النتائج الباهرة التي وصل إليها في سنين قليلة. وقد عرفنا من الوجهة السياسية أن اتفاق كوتاهيه كان هدنة فقط، وأن سياسة إنكلترا نحو مصر تغيرت كل التغيير بعدما استخلصت تركيا من نفوذ الروس لنفسها ولنفوذها، فصار همها هدم محمد علي ونفوذه، كما يستدل من نص التعليمات التي أصدرها اللورد بالمرستون إلى القنصل الإنكليزي في حلب بأن يثير ثائرة الأهالي على محمد علي، وبأن ينشر دعاية السلطان محمود. وقد حدث اللورد بونسوبي سفير إنكلترا في الآستانة في سنة 1834 البارون ستومر سفير النمسا عن محمد علي، فقال:
أما الآن فإني لا أخشى محمد علي؛ لأنه فوت الفرصة الوحيدة التي عنت له، وكان باستطاعته أن يلعب دورا في منتهى الأهمية، وأن يجعل نفسه رجلا هائلا. وهذه الفرصة التي فاتته لن تعود ولن ترجع ثانية، فقد كان عليه أن يأتي هو ذاته على رأس جيشه إلى إستامبول لا أن يرسل ابنه إبراهيم، ولو أنه فعل لعزل السلطان ولجلس على عرشه إذا هو أراد. وقد كان كل شيء معدا كما تعلم أنت وأعرف أنا؛ لأن السخط على السلطان كان عاما وجميع الأنظار والآمال تتجه إلى محمد علي، وبما أنه لم يجد في نفسه القوة للانتفاع من افتراض كهذا، كانت جميع دلائله في جانبه، فلم يبق أمامنا شيء نخشاه.
وكان يضاعف في سخط بالمرستون على محمد علي أنه يكاد يؤلف إمبراطورية من آسيا وأفريقيا، وهذه الإمبراطورية إذا تركت وشأنها، فإنها تكون أكبر حاجز في وجه التجارة الأوروبية والإنكليزية على وجه التخصيص؛ لأن الأرقام دلت - على ما جاء في تقرير قنصل إنكلترا - أن الصادرات من مصر إلى إنكلترا زادت زيادة كبيرة على الواردات من إنكلترا إلى مصر وسوريا، وهذه الحالة في تزايد متواصل.
وإذا أردنا أن نعرف سبب الفتن والثورات في سوريا عدنا إلى أقوال قناصل الدول ذاتهم قبل العودة إلى الوثائق المصرية. فبعد فتنة نابلس أرسلت إنكلترا قنصلها في الإسكندرية إلى فلسطين للتحقيق عن أسباب هذه الفتنة، فكتب يقول إن الثوار هم في الأصل الترك من جبال نابلس بزعامة الشيخ عيسى بن عمر، وأهل جبال القدس بقيادة إبراهيم أبو غوش، انضم إليهم أربعة آلاف من عرب عنزه؛ لأن إبراهيم أبو غوش الذي سجن إبراهيم والده في عكا زوج بنت أمير عنزه، وسبب سجن أبو غوش هو أنه ظل يطلب الإتاوة من أديرة الرهبان في القدس رغم تحريم ذلك، ولم ينقطع عن سلب الحجاج ونهبهم. ومنع إبراهيم البدو من التعدي على أملاك الحضر، وعزل الموظفين الترك، وكانوا جيشا جرارا، وعين لهم الرواتب التي تكفيهم، فحدث أن شابا تركيا ذهب من يافا إلى نابلس حيث صنع صليبا من الخشب، وصعد إلى مأذنة الجامع الكبير في نابلس وبيده ذلك الصليب، فأخذ يصيح من فوق المأذنة: هل ذهب دين محمد وانقضى؟ هل ارتفع الصليب على الهلال؟ من كان منكم مسلما فليقاتل هذا النصراني إبراهيم باشا.
ويقول الكولونيل كامبل إن في ذلك أكبر شهادة لإبراهيم؛ لأنه حرم النهب والسلب وحمى اليهود والنصارى مما كانوا يلقون من الاضطهاد، وبسط ظل الأمن في البادية.
وأرسلت روسيا قنصلها دي هامل إلى سوريا للغرض ذاته، فقابل هذا القنصل الأمير بشير الشهابي وسأله عن سبب الفتنة، فقال له الأمير: «إن الباشوات الذين كانت ترسلهم إلينا تركيا لم يكونوا حكاما وولاة، ولكنهم كانوا مدمرين هدامين لهذه البلاد، وإذا أردت برهانا فانظر إلى هذه السهول الخصبة التي ما كان يزرعها أحد ولا يسكنها أحد، وانظر إلى هذه القرى وكان قد هجرها أهلها وسكانها؛ فإبراهيم باشا يبذل الجهد ليملأ هذه القرى بالسكان من عرب البادية ، ومنذ بسطت حكومة مصر يدها على هذه البلاد تغيرت الحال وبدأ اليسر، ولولا التجنيد الإجباري لاستطعنا أن نقول إن البلاد في غبطة وسعادة تامين.»
ولقد عرف محمد علي أن الشر أيضا في مسلك الموظفين مع الأهالي، بدليل الحديث الذي نقله عنه قنصل إنكلترا؛ إذ قال له: «إني أعرف أن الشر آت من جهتين: جهل الأهالي، وشراسة الموظفين. وإذا عدت إلى التاريخ وجدت أن الأمم الأوروبية لم تخل من هذا العيب، ولكن هذا العيب ضوعف بأعمال السخرة لإقامة الحصون والمعاقل ومطاردة الشبان في المنازل والقرى وفي كل جهة.»
وهذا التجنيد، مضاعفا بالأسباب الأخرى والسياسة المعروفة، كان سبب الثورة الدرزية في حوران في سنة 1837؛ فإن إبراهيم باشا دعا الحكام والولاة إلى اجتماع عقدوه في عكا، وأبلغهم أوامره بإجراء التجنيد العام على قاعدة أخذ رجل واحد من كل عشرة رجال، وأرسل شريف باشا إلى شيخ مشايخ الدروز يحيى حمدان، فلما حضر إليه مع الوجوه طلب منه 170 شابا للجندية، فاعتذر الشيخ عن ذلك، وحاول إقناع شريف باشا بأن الشبان الدروز في حوران يدافعون عن بلادهم من اعتداء البدو، فما كان من هذا - على ما روى الدكتور غاليارود - إلا أن عبث بلحية الشيخ مهددا، فقال له الشيخ: أنا ذاهب، وسأحضر إليك بعدد من الرجال أكبر مما طلبت.
ولما عاد الشيخ وأصحابه إلى حوران، عقدوا جمعيتهم واتفقوا على الانتقام لشيخ مشايخهم عن هذه الإهانة، وأرسلوا الرسل إلى عرب السلوط لمحالفتهم، وبدأ العدوان بأن نهبوا أملاك شريف باشا والي دمشق وبحري بك مدير مالية سوريا، فوجه إليهم شريف باشا قوة من 400 جندي، فاجتمع قائد القوة بكبارهم في قرية النعلة، فوعد الدروز بإعادة ما سلبوه وبتقديم المجندين في مدى عشرة أيام، ولكنهم انقضوا في الليل على تلك القوة فأفنوها، ولم ينج منها إلا ثلاثون جنديا. وكان الدروز قد انسحبوا من الحضر إلى اللجاه والوعر، واللجاه وعر بركاني كثير التجاويف والمنعرجات، لا يستطيع السائر أن يخطو فيه خطوة واحدة دون دليل، فوجه إبراهيم باشا حملة كبيرة بقيادة محمد باشا مفتش الجهادية، فاستدرج الدروز الحملة إلى داخل اللجاه، حتى إذا ما دخلت الوعر طلع عليها الدروز من مكامنهم الخفية فقتلوا محمود باشا وبعض القواد، ومزقوا القوة وغنموا ما معها.
فذهب شريف باشا وجمع شتات الحملة، وطلب إبراهيم باشا من والده إرسال أحمد باشا المنيكلي لتولي رياسة الحملة لانهماكه هو باتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الترك الذين كانوا يتأهبون على الحدود. فدخل أحمد باشا اللجاه للبحث عن الدروز، فظهر أمامه بعض طلائعهم، فأمر باقتفاء أثرهم، فاستدرجوه إلى الوعر، فخدع كما خدع محمد باشا، وكان نصيب جيشه نصيب جيش محمد باشا.
وكان هذا الانكسار الثاني وسيلة لنشر الدعاية ضد قوة الجيش المصري، ونهض دروز وادي التيم ولبنان لشد أزر إخوانهم وقطع طرق المواصلات، فأرسل الأمير بشير بعض الأمراء لتأمين المواصلات، فنهض شبلي العريان قائد دروز وادي التيم لمقاتلة الأمير سعد الدين شهاب في حاصبيا، وانضم إليه أميران من أمراء الشهابيين؛ لأنه كان من عاداتهم المرعية أنه لا يجوز أن يحارب الأمراء غير الأمراء. وبعد قتال طويل أرسل الأمير بشير ولده خليلا، فانسحب شبلي العريان إلى حوران، وانضم رجاله إلى الثوار، وأرسل إبراهيم باشا إلى والده يطلب الجنود الأرناءوط لمحاربة الدروز في الوعر؛ لأن الجنود النظامية المصرية لم تألف هذا الضرب من القتال، وعين سليمان باشا الفرنساوي قائدا للحملة، فتريث سليمان باشا إلى أن يحل فصل القيظ ويقل الماء في مغاور اللجاه والوعر فيضطر الدروز إلى الخروج لانتجاع الماء، ولكن الدروز ظلوا يشنون الغارة على الطرق وعلى قوافل الذخيرة وبانوا إحدى الحملات ليلا ففتكوا بها.
ولما وصل الأرناءوط في شهر أبريل سنة 1838 تولى إبراهيم باشا القيادة وقسم جيشه أربعة أقسام أحاطت باللجاه، وصرفت همها إلى الاستيلاء على المياه. ودامت المعارك حول المياه نحو شهرين، ولما اشتد الضيق بالثوار توجه شبلي العريان من حوران مع مائتي مقاتل إلى راشيا، فقتل المتسلم والجنود ليحول ضغط قوة إبراهيم عن اللجاه. ووجهت إليه قوة من الشام فانتصر عليها وضيق على الجنود في القلعة فخرجوا، ولكنه لحق بهم واستولى على أسلحتهم وذخائرهم، وانضم إليه عدد كبير من دروز لبنان، فكتب إبراهيم باشا إلى الأمير بشير يطلب إرسال أربعة آلاف رجل من نصارى لبنان مع ابنه خليل لقتال شبلي عريان على أن تبقى لهم أسلحتهم طول الحياة. وجاء إبراهيم باشا ذاته إلى راشيا، وجرت معركة بين الدروز والجيش في وادي بكا، فانكسر الدروز وارتدوا إلى سفح جبل الشيخ، فأمر إبراهيم باشا الأمير خليل الشهابي بالزحف على الجبل، ولكن الدروز صدوا رجاله. وهجم جيش إبراهيم باشا فتغلب عليهم، فأرسلوا وجوههم إليه للتسليم، فقبل تسليمهم على أن يسلموا أسلحتهم ويعودوا إلى وطنهم، وأمر بمطاردة شبلي العريان والقبض عليه، وانتهى الأمر بأن سلم شبلي، فعفا عنه إبراهيم باشا وعينه قائدا لفرقة نظامية من الهوارة.
وبعد ذلك أوفد الأمير بشير أحد رجاله جرجس أبو ديس يدعو دروز حوران للتسليم، وأرسل إبراهيم باشا معه الشيخ حسن البيطار للغرض ذاته، فسلموا وقدموا لإبراهيم باشا 700 بندقية من سلاحهم، وألفي بندقية كانوا قد غنموها من الجيش. وأعفاهم إبراهيم باشا من الجندية والسخرة؛ لأنهم يقومون بحماية بلادهم وما جاورها من سطو بدو الصحراء. وهكذا انتهت هذه الثورة التي ابتدأت في نوفمبر، في آخر شهر أغسطس، ويقدر القناصل الذين كتبوا عنها أن خسائر إبراهيم باشا كانت فيها عشرة آلاف رجل، كما كانت خسائره في ثورة جبال نابلس وفلسطين وسواها أربعة آلاف نفس، وأظهر الدروز من الشجاعة وحسن التدريب والشهامة ما أعجب به كبار القواد.
وفي إبان ذلك وصل إلى بيت الدين مقر الأمير بشير الدكتور كلوت بك مفتش صحة الجيش المصري، فطلب منه الأمير أن يستأذن محمد علي بإرسال بعض الشبان ليتعلموا الطب في مصر، فأجاب محمد الطلب على أن يكون تعليمهم مجانا، فكان الوفد الأول مؤلفا من أربعة رابعهم سليم مملوك الأمير. وظلت هذه البعثات تفد من لبنان إحداها تلو الأخرى، وتتلقى علم الطب مجانا في مصر حتى أول عهد الاحتلال الإنكليزي، فانقطعت.
وكان الأمراء اللبنانيون يلبسون العمائم، فطلب منهم إبراهيم باشا، توحيدا للزي في جميع الأقطار الخاضعة لمحمد علي، طرح العمائم ولبس الطربوش، فأصدر الأمير بشير أمرا بذلك إلى الأمراء أولاد عمه، واقتفى أثرهم أعيان البلاد.
ولكن الأمير بشير ظل متغيرا على شريف باشا والي سوريا، حتى إنه أبى زيارته مرارا وهو في دمشق؛ لأن شريف باشا سأله مرة: «من صيرك أميرا؟» فوضع الأمير يده على قائم سيفه وقال له: هذا.
الفصل الحادي عشر
حرب جديدة بين الترك والمصريين.
فوز إبراهيم باشا.
المصير الأخير. ***
لما نظم إبراهيم باشا سوريا، أتيح للأجانب ولقناصل الدول أن يكونوا أحرارا في تلك البلاد، وأن يتجروا بلا عائق ولا مانع مع أن تجارتهم كانت محصورة ببعض الموانئ، ولكن القناصل الذين اتخذوا الامتيازات تكأة لهم ألفوا من أنفسهم دولة في الدولة، وكانوا يعطون الحماية لمن أرادوا. وبما أن متاجر الأجانب كانت تدفع 3 بالمائة ومتاجر الرعاية كانت تدفع 20 بالمائة، فقد أخذ القناصل أكثر التجار تحت حمايتهم ليعفوا من زيادة الرسوم الجمركية، وكان هم الإنكليز على وجه التخصيص أن ينقصوا دخل الحكومة المصرية حتى لا تستطيع الإنفاق على جيشها وأسطولها فتضعف، فاتهمت محمد علي بأنه يحتكر الحاصلات، واستصدرت من الباب العالي أمرا بمنع الاحتكار. وكان بعض القناصل الذين لم يدخلوا سوريا قبل الحكومة المصرية يدسون الدسائس السياسية لهذه الحكومة، كالقنصل الإنكليزي فارين في دمشق وزميله فري في حلب، معتمدين في ذلك على الموظفين الترك الذين عزلوا من الخدمة، وعلى قبائل البدو التي كانت تتناول قبل الحكم المصري الحوة من الحضر والقرى القريبة من البادية، ومن قوافل التجار التي تمر بالبادية، ومن النصارى واليهود.
وفي سنة 1834 أرسل سفير إنكلترا في الآستانة إلى سوريا ترجمان السفارة ريتشردوود، لإثارة الأهالي ضد الحكومة المصرية، فلما وصل إلى لبنان اتخذ الخوري أرسانيوس الفاخوري أستاذا له ليلقنه اللغة العربية، وكان ذلك الخوري (القسيس) من علمائهم المشهورين. واتخذ كسروان في وسط لبنان مركزا لعمله، فصرف هناك سنتين كاملتين في تلقي اللغة العربية في الظاهر وفي دس الدسائس في الباطن. وتربة لبنان كانت معدة لذلك؛ لأن إبراهيم لم يف بوعده للبنانيين باحترام استقلالهم، فضرب عليهم الضرائب ونزع سلاحهم، فغضبوا لاستقلالهم القديم. ولما هيأ الأفكار انتقل إلى جهة أخرى للغرض ذاته، ولكن هاله توطيد مركز حكومة محمد علي في سوريا، فكتب إلى حكومته يقول: «إن كل يوم ينقضي يزيد في قوة محمد علي، فلا مندوحة عن الإسراع في العمل لإضعافه وهدم سلطته.» ولكن محمد علي كان بعد إخماد فتن سوريا مصمما على إعلان استقلاله؛ لأنه «لا يفهم كيف يكون التابع أقوى من متبوعه ويظل خاضعا لإرادته؟ أو كيف يقبل أن يؤلف ملكا عامرا ثم يتركه لأحد الولاة يأتي من إستامبول بعد مدة فيهدمه.» وكان محمد علي قد تعهد بأن يدفع للباب العالي عن الأملاك التي يملكها 32 ألف كيس، ولكنه لم يدفع شيئا من هذه الجزية، فسافر إلى السودان فقالوا إنه فعل ذلك ليتهرب من دفع الجزية وليبحث عن معادن الذهب، فلما عاد من السودان قالوا إنه وعد الباب العالي بدفع ثلاثة ملايين جنيه إذا هو اعترف باستقلاله. وكانت فرنسا تقول معه بهذا الاستقلال وأن يكون الحكم وراثيا في بيت محمد علي.
ولكن إنكلترا اقترحت على الدول - فرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا - أن تتفق كلمتها جميعا، على أن تمنع محمد علي عن أي عمل يقدم عليه ضد سلطة السلطان محمود. ولما أنذرته الدول قال إنه يقصر طلبه على أن يكون الحكم وراثيا في أسرته، ولكن الباب العالي الذي كان يستند إلى ذراع إنكلترا اقترح على الدول أن يعين لمحمد علي معاشا كبيرا مدى الحياة، وأن يعطيه قصرا للسكنى على ضفاف البوسفور.
ولكي تتم إنكلترا تطويق قوات محمد علي بعد إنذاره بألا يمس بلاد الحبش، وبألا يتفق مع والي طرابلس الذي عصا الباب العالي، احتلت في 19 يناير سنة 1839 فرضة عدن؛ لتكون هي في الشمال وتركيا في الجنوب، وتبعده عن بلاد وسواحل البحر الأحمر. وعد الفرنساويون هذا الاحتلال بمثابة المقدمة لاحتلال مصر عندما يحين الوقت، وفي ذلك الحين عرضت إنكلترا على الباب العالي إبرام معاهدة ينص فيها على أن إنكلترا تنضم إلى الباب العالي إذا كان محمد علي أو أحد خلفائه يقدم على إعلان استقلاله أو يقوم بعمل عدائي ضد الباب العالي.
وبينما كانت السياسة الأوروبية في شغل شاغل لمنع الحرب والقتال، كان الباب العالي يحشد قوته منذ سنة 1834 في جهة سيواس .
وكان يتولى تدريب هذا الجيش الجديد الضباط البروسيون: ملباخ، وفيشر، وفون، ونك، والبارون فون مولتك، وآخرون، ويتولى القيادة العليا محمد رشيد باشا الذي قهره إبراهيم في قونيه وأخذه أسيرا. أما إبراهيم فإنه - كما قلنا - جعل أكثر قواته على الحدود ليرقب القوات التركية. وحدث أن الكرد ثاروا على الترك، فنهض رشيد باشا بقسم من جيشه لإخضاعهم، فتوفي بحمى التهاب النخاع الشوكي، فخلفه في قيادة الجيش التركي حافظ باشا الذي أخضع الثوار، ولكن الباب العالي ظل يرسل الإمداد تباعا، فأدرك إبراهيم ومحمد علي موطن الخطر، فأخذ محمد علي يرسل الإمداد لولده ويعد الأموال اللازمة للإنفاق، حتى إنه حول إلى نفقات الجيش المال الذي أعده لإنشاء مصرف زراعي.
وبدأ حافظ باشا يتحكك بإبراهيم بمنعه القوافل من اجتياز خط الامتياز - أي الحدود - وتحريم المعاملات التجارية مع سوريا. وفي 23 أبريل اجتازت ثلاثة آلايات تركية نهر الفرات إلى بيره، وأخذت تحفر الخنادق في بيره وهي على مسيرة بضع ساعات من خط الامتياز، فأرسل إبراهيم الخبر إلى والده، وأرسل إلى الأمير بشير بأن يتولى حفظ الأمن وخطوط المواصلات في جهة حمص، وأرسل قوة إلى عينتاب لرقابة الترك، وأرسل محمد علي وزير جهاديته أحمد المنيكلي باشا مع الأمداد اللازمة لإبراهيم، ولما ألح القناصل على محمد علي بأن يحافظ على السلم ويدفع الجزية المتأخرة للسلطان ويظل في طاعته، رد عليهم بأنه يجيب الطلب ويعيد ابنه إبراهيم إلى دمشق إذا انسحبت عساكر حافظ باشا من بيره، وتقهقر جيش هذا القائد إلى ما وراء ملطية، وضمنت له الدول السلم، وساعدته على أن يكون الحكم وراثيا في سلالته؛ بعد أن تجيب الدول هذه المطالب يسحب 80 ألفا من جيشه المعسكر في سوريا. ولكن المسعى لم يجد نفعا، فإن حافظ باشا زحف بجيشه على الأراضي السورية، وعبر الفرات في 17 مايو سنة 1839، وعسكر في ضواحي نصيبين، ثم أرسل قوة من الفرسان احتلت بعض القرى السورية، وتقدم القائد العثماني الثاني سليمان باشا واحتل قرى عينتاب حول القلعة المعسكرة فيها الحامية المصرية، ثم أخذ القواد العثمانيون يحرضون السوريين على الثورة ضد إبراهيم، ويوزعون عليهم السلاح والذخائر والمال.
واجتاز الترك نهر الساجور، وهاجموا 500 فارس من عرب الهنادي المصريين بقيادة معجون محمد، فانهزم فرسان الهنادي تاركين بيد الترك 70 أسيرا ما عدا القتلى، فنهض إبراهيم من جانب ومعه سبع فرق من الخيالة و12 بطارية سيارة، وأرسل إلى سليمان باشا الفرنساوي بأن يلحق به مع جيشه، وهو 13 فرقة من المشاة و15 بطارية.
وفي 3 يونيو وصل إبراهيم إلى قبالة القرى التي احتلها الترك من الأراضي السورية، فأخلوها بلا قتال، فكتب إبراهيم باشا في 8 يونيو سنة 1839 إلى حافظ باشا قائد الجيوش التركية كتابا قال فيه:
إذا كنتم يا صاحب السعادة تلقيتم الأمر بإعلان الحرب، فما فائدة الاسترسال في بث الدسائس وتحريك الفتن؟ وإذا كنتم تودون القتال، فهلموا إلى ميدانه بصراحة وإقدام، وأملي أن لا يفوتكم في هذه الحالة أن تعرفوا أنكم تقاتلون أبطالا لا يعرف الخوف سبيلا إلى قلوبهم. أما الدسائس التي تمضون في تدبيرها، فإنها ليست مما يطاق احتماله طويلا.
فرد حافظ باشا على هذا الكتاب بعبارات منمقة، ولكنه حاذر أن يبدي رأيا صريحا.
أما محمد علي، فإنه كتب إلى ولده إبراهيم في 9 يونيو يأمره بأن يسارع إلى طرد الجنود التركية من الأراضي السورية، وألا يتردد في منازلة جيشهم الكبير، حتى إذا ما انتصر عليه يواصل الزحف إلى ملطية وخربوط وأورفا وديار بكر. وبعد وصول هذا الكتاب إلى إبراهيم أصدر أمره إلى سليمان باشا بأن يسرع للحاق به، وكان سليمان باشا على 24 ميلا من حلب، فجدت قوته بالسير حتى لحقت بإبراهيم باشا على مجرى نهر الساجور.
أما قوتا الجيشين فكانتا متقاربتين؛ لأن جيش حافظ باشا كان مؤلفا من 17 فرقة من المشاة، وجيش إبراهيم باشا من 14 فرقة. وفي جيش حافظ باشا 9 فرق من الفرسان، وفي جيش إبراهيم 8 فرق. وفي مدفعية حافظ باشا 300 رجل، وفي مدفعية إبراهيم باشا أربع فرق. ومدافع حافظ باشا 140، ومدافع إبراهيم 160. وفي جيش حافظ باشا 6000 من المتطوعة، وفي جيش إبراهيم باشا 2000. على أن حافظ باشا صرف شهرا كاملا في حفر الخنادق وإقامة المعاقل والحصون، ومرن جيشه على الدفاع والهجوم في تلك المنطقة، وشتان بين من يقف للدفاع ومن يكلف الهجوم. ولكن جيش إبراهيم باشا كان أتم نظاما وأكثر ممارسة للقتال. وكان إبراهيم باشا ورئيس أركان حربه سليمان باشا على رأي واحد، أما حافظ باشا ورئيس أركان حربه مولتك فقد كانا على رأيين متباينين. وكان ضباط إبراهيم باشا يحترمونه ويهابونه، وجميعهم قد نالوا رتبهم عن جدارة واستحقاق، أما ضباط جيش الترك فإن أكثرهم كان من صنائع الحكام والوزراء في إستامبول.
وإذا كانوا قد قدروا عدد جيش حافظ باشا بضعفي عدد جيش إبراهيم باشا فلأن الترك كانوا ينشرون جيشهم على خط طويل ليهاجم سوريا من كل جهة. أما القوتان اللتان تنازلتا في ميدان نصيبين وحده فهما ما ذكرنا. ومن الحكايات التي تعطي صورة صحيحة عن هذين الجيشين، أن حافظ باشا سأل أسيرا من جيش إبراهيم رأيه في المعسكرين، فقال له الأسير المصري بعد أن أعطاه حافظ باشا الأمان: «إن معسكر إبراهيم باشا معسكر جنود، أما معسكركم فهو كمضارب الحجاج. ففي معسكر إبراهيم لا ترى سوى الجنود بسلاحها وإلى جانب خيولها ومدافعها، أما في معسكركم فقد رأيت اليهود والتجار والعلماء والفقهاء، فرأيت البعض منهمكا بالبيع والشراء والآخر مشتغلا بالتسبيح والدعاء، وهذا الذي يجعل معسكركم أشبه بمضارب الحج.»
وصل خبر احتكاك الترك والمصريين إلى أوروبا بعد اجتياز الترك نهر الفرات إلى الأراضي السورية وبعد احتلالهم عينتاب، وتأهب إبراهيم باشا لصد غارتهم، فأوفدت فرنسا رسولا إلى الباب العالي وآخر إلى محمد علي للوقوف عن القتال، فوصل كايه إلى مصر وقابل محمد علي وأخد منه كتابا إلى إبراهيم ليقف موقف الدفاع. ووصل فولتز إلى إستامبول فلم يعط جواز السفر إلى الأناضول، ولم يشأ سفير إنكلترا أن يؤيد زميله سفير فرنسا في مسعاه لإيقاف القتال، بل أظهر له أنه إذا هو تلقى أمرا من حكومته في ذلك فإنه يخالف ذلك الأمر ويعمل على الضد. ولم يصل كايه بكتاب محمد علي إلى إبراهيم باشا إلا بعد المعركة وانتصار إبراهيم على جيش الترك. وإليك البلاغات الرسمية عن تلك المعركة الأخيرة التي استند فيها الترك على ذراع الإنكليز والنمساويين، الذين حرضوهم ووعدوهم بأنهم لا يخسرون شيئا في حالة الانكسار، ويربحون كل شيء في حالة الانتصار.
خلاصة تقارير إبراهيم باشا إلى والده عن تلك المعركة
التقرير الأول (20 مايو سنة 1839):
كان الجيشان في هذا اليوم في عينتاب على مقربة من بعضهما، وكانت الجنود المخالفة تحتل المدينة بقيادة سليمان باشا والي مرعش، وكانت جواسيس حافظ باشا وأعوانه يحرضون الأهالي على الثورة والعصيان، وجنوده لا تكف عن العدوان، فكان الجيشان في حالة حرب، ولكنا اتبعنا أوامركم وآراء قناصل الدول فلم نقابل القوة بالقوة ضابطين نفوسنا مخالفين ميولنا بالوقوف بلا عمل تلقاء ما يبديه المخالف (العدو) من الاعتداء والغطرسة.
وفي 22 مايو غادرت توزل مع فصيلة من الفرسان وبعض بطاريات خفيفة وأربع أورط مشاة لمداهمة قوة العدو بالقرب من مزار على نهر الفرات، وعند وصولنا حمل الفرسان على العدو وألزموه الفرار، فغنمنا أربعة عشر مدفعا وخزانة المال وفيها خمسون ألف قرش، وأسرنا 750، ثم التقينا فيما بين مزار ونسبي بفرقة من المخالفين، فأكرهناها على التراجع إلى مقر جيش حافظ باشا.
وفي 24 رتبنا جيشنا في صفوف القتال تجاه الجيش العثماني في ضواحي قرية نصيبين بالأراضي التابعة لبلاد الشام وعلى مسافة بضعة فراسخ من الفرات، وكان جيشنا مؤلفا من ثلاثين ألف جندي نظامي، وكان جيش العدو مؤلفا من 90 ألف نظامي وغير نظامي.
وارتكب المخالفون خطأ كبيرا جدا؛ لأنهم لم يوجهوا إلينا في الصدمة الأولى سوى الفرسان، فقصروا مهمتهم على مهاجمة المصريين في كل مكان وعلى طول الخطوط، فلم تلبث طلقات البنادق أن فرقتهم وأكرهتهم على التقهقر نحو صفوف المشاة، فأوقعوا الخلل في تلك الصفوف، وأدرك الفرسان المصريون ذلك فقاموا بمناورة موفقة، وتحرك في الوقت ذاته الجناح الأيمن من المشاة، فلم يسع الصف الأول من مشاتهم إلا أن يلقوا السلاح ويتفرقوا في كل ناحية وصوب، وحينئذ وقع الهلع في المعسكر كله، فلم يسمع إلا صوت المناداة بطلب النجاة، وترك المخالفون جميع مهماتهم . ولم تحن الساعة التاسعة حتى كنا متحكمين في معسكر العدو، وقد عثرنا في خيمة حافظ باشا على الفرمان السلطاني الذي يقلد فيه ولاية مصر.
واقتفى فرساننا أثر الهاربين، فأسروا أورطا بأكملها، وسلم كثير من الضباط وسبعة باشوات. والمقدر أن حافظ باشا ذاته لا ينجو من أيدي الفرسان.
والذين أخذناهم أسرى في ساحة القتال خمسة آلاف، ومنهم سليمان باشا والي مرعش وجيشه بأكمله، فخيرناهم بين الرجوع إلى وطنهم وبين الانخراط في سلك جيشنا، فقبل خمسة آلاف دخول جيشنا، فسيرناهم في الحال إلى الإسكندرية، واتجه شطر من الجيش المخالف الفار إلى نهر الفرات. وقد فات حافظ باشا أن يمد القناطر على مجرى ذلك النهر، فمات 12 ألفا غرقا وهم يعبرونه سباحة. واعتصم قسم كبير من هذا الجيش في جبال عينتاب، فقتلهم البدو والكرد والتركمان. أما جيشنا، فإنه سار متجها نحو مرعش وملطية وديار بكر.
من خيمة حافظ باشا:
أكتب هذه الأسطر وأنا في خيمة حافظ باشا التي لم ينقل العدو منها شيئا، وقد استولينا على الأمتعة والمدافع والخزانة، وأسرنا عددا عظيما من العساكر. وإني أود أن أقتفي أثر الأعداء، ولكني لا أجد أمامي أحدا منهم؛ لأن تفرق هذا الجيش كان تاما وسريعا بعد معركة دامت ساعتين. وكان هجومنا عليه من كل ناحية في وقت واحد، وكان على قيادة الميمنة أحمد باشا، وعلى الميسرة سليمان باشا، أما أنا فإني كنت أتولى قيادة القلب. وقد أعاد إلي هذا النصر السريع الكامل ما كنت عليه - وأنا في العشرين من عمري - من الانشراح والقوة وسأوافيكم بالتفصيل.
تقرير سليمان باشا:
يعد العسكريون معركة نصيبين من أكبر المعارك الفنية، يدل عليها التقرير الذي أرسله إبراهيم باشا إلى محمد علي بقلم الكولونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي)، هذا ملخصه:
في 18 يونيو خرجنا من معسكر دوببك، فوصلنا بعد يومين إلى مرار الواقعة على مسيرة ساعتين من معسكر الجيش العثماني، وكان زحفنا مواجهة على خمسة صفوف متطاولة من المشاة وصفين من الفرسان. وفي 21 قمنا باستكشاف موقعة في 1500 فارس من البدو وأربعة آلاف من الفرسان وبطاريتين من المدافع السريعة، فثبت لنا أن موقعه في منتهى المناعة فلا يمكن الهجوم عليه لا مواجهة ولا مجابهة. وكانت تحمي واجهته من الخلف آكام محصنة وعلى قممها المدافع وأمامها ثلاثة معاقل كبيرة، وميمنته تستند إلى ربوة عالية وضعت فيها أورطة من المشاة وفيها معقل، وفي أسفل هذا المعقل بطارية مدافع، وميسرته تستند إلى ربوة باستدارة الثدي وعرة المنحدرات، فكان الهجوم في هذه الحالة من الواجهة وعلى الجناحين عملا محفوفا بالمصاعب ولا مندوحة معه من خسارة كبيرة بدون نتيجة مرضية. فرأينا في الحال القيام بحركة التفاف بالعدو من ميسرته وبالزحف عليه زحفا جانبيا.
وفي صباح 22 زحف الجيش زحفا جانبيا بصفوف متطاولة. فبعد مسيرة عشر ساعات وصلنا إلى قنطرة هركون، وكان الترك قد أرسلوا بعض الأورط والمدفعية نحو ميسرتنا، واحتلت ربوة مستديرة على ميمنة جنودنا، وأرسلت آلايا من المشاة وآخر من الفرسان إلى ميسرة الزحف الجانبي، فاتخذوا موقفهما في اتجاه جانبي الفيلق التركي، فلم يسع هذا الفيلق إلا الانسحاب، فاستأنف الجيش المصري الزحف بسكون واطمئنان، إلى أن اتخذ موقفه في قنطرة هركون.
وانقضى يوم 23 يوينو في إعداد معدات القتال، وقبيل منتصف ليل 24 جاء العدو ببطاريتين من مدافع القنابل المستطيلة فألقى على معسكرنا من 250 إلى 300 قنبلة، فأوقعت بعض الخلل وقتل جواد الميرالاي محمد بك (أحد ياوران سليمان باشا). والظاهر أن العدو تمكن من معرفة خيمة سليمان باشا، فصب في اتجاهها نارا حامية، فذهب سليمان باشا إلى النقط الأمامية وأمرها بإطلاق نارها، فانسحب الترك بعدما منيوا بخسارة فادحة.
وعند الصباح استأنف الجيش سيره الجانبي منفصلة أورطه وفرقه بعضها عن بعض. فارتد الترك إلى الوراء وانتشروا على الآكام والروابي خلف معسكرهم القديم، ثم اتجه المصريون إلى ربوة على ميمنتهم وغيروا اتجاه الصفوف، ولكنهم فوجئوا بنصب بطارية كبيرة على الأكمة التي كانت عندنا مفتاح القتال، وحينئذ بدأ المصريون بالهجوم على جميع الخطوط بكل قواهم، وأخذت مدافعهم تطلق النار الدائمة مع الزحف المتواصل إلى الأمام، فانسحب الترك إلى معسكرهم القديم، فلحق بهم المصريون واحتلت مدفعياتهم الروابي، فكانت هزيمة العثمانيين تامة. وغنمنا 144 مدفعا وصناديق ذخائرها، و35 مدفعا في حصون بيره جك، وجميع الخيام من خيمة حافظ باشا إلى خيمة أصغر جندي، ومن 18 ألفا إلى 20 ألف بندقية، وأخذنا من 12 ألفا إلى 15 ألف أسير. ا.ه.
وأبدى الحرس السلطاني مقاومة عجيبة. ولما دعي لإلقاء سلاحه والتسليم، أجاب قائده: «إن الحرس السلطاني لا يلقي سلاحه أمام الموت.»
وقد كان سرور إبراهيم باشا بهذا الفوز عظيما حتى ضم سليمان باشا إلى صدره وقبله، وكان سليمان باشا ليلة المعركة يحض الضباط ويقول لهم: أيها الإخوان الضباط، إني منذ الآن أعين لكم موعد الملتقى غدا، فعند ساعة الزوال يكون ملتقانا تحت خيمة حافظ باشا لتناول القهوة معا. ولم يخطئ سليمان باشا في ضرب هذا الموعد لضباط الجيش المصري.
وأرسل إبراهيم باشا إلى كل وال من الولاة بشرى انتصاره، وأمرهم بإقامة الأفراح مدة أسبوع، وأخبرهم أنه زاحف على قونيه، وقال سليمان باشا للضباط: «أما في المرة الآتية، فإما أن نذهب نحن إلى إستامبول أو يأتي الترك إلى القاهرة.»
وبعد يومين من المعركة وجيش إبراهيم باشا زاحف إلى ما وراء جبال طوروس، وصل إلى معسكره المسيو كايه مندوب وزير خارجية فرنسا وهو يحمل إليه كتاب والده الذي يأمره بالوقوف، فأطاع الأمر ولم يزد على احتلال مرعش وأورفا.
وفي 30 يونيو؛ أي بعد ستة أيام من معركة نصيبين، توفي السلطان محمود، وكان ضعيف البنية مصابا بالعلة الصدرية، ونودي بابنه عبد المجيد سلطانا فأبقى عبد المجيد خسرو باشا في منصب الصدارة. وكان السلطان محمود قد أمر فوزي باشا بالخروج بالأسطول لمعاونة جيش حافظ باشا على القتال، فلما بلغه خبر وفاة السلطان وإبقاء خسرو باشا في منصب الصدارة، وأيقن بأن خسرو باشا هو الذي يحكم لا السلطان الشاب - وخسرو باشا هو عدوه اللدود ، فلا يعدم وسيلة للانتقام منه - فر بأسطوله إلى الإسكندرية وانضم إلى محمد علي باشا.
وهكذا أضاع السلطان محمود حياته وجيوشه وأسطوله في محاربة مصر.
ولما رجع حافظ باشا إلى إستامبول عقدوا مجلسا لمحاكمته؛ لأنه شرع بالهجوم قبل أن يصل إليه الأمر بذلك، فأبرز حافظ باشا كتابا من السلطان بخط يده يأمره فيه بالهجوم. وهكذا كان السلطان محمود يخدع السفراء بالتظاهر بالسلم، في حين كان يصدر أوامره السرية بالحرب. •••
تقدم إبراهيم باشا بعد معركة نصيبين في 24 يونيو 1839، فاحتل أورفا ومرعش وعينتاب، وأرسل أعيان الأناضول يهنئونه ويعربون له عن ولائهم، ولكنه وقف هناك بأمر والده الذي حمله إليه كايه مندوب فرنسا كما كان قد حمل إليه مندوب فرنسا الأمر للوقوف في سنة 1833 في قونيه وكوتاهيه.
وفي 5 يوليو أرسل السلطان عبد المجيد إلى محمد علي يعرض عليه ولاية مصر بالوراثة، فطلب محمد علي هذا الحكم بالتوارث في بيته على جميع البلاد التي كان يتولاها يومئذ. ولكن الدول تفرقت في ذلك آراؤها؛ فروسيا ارتاحت إلى أن يتفق محمد علي والباب العالي، وإنكلترا رأت أن تتفق الدول على نزع سوريا من ولاية محمد على، وهي التي منعته حتى لا يمد يده إلى بلاد الحبشة وطرابلس الغرب، ووضعت يدها على عدن لتقف بوجهه في اليمن، وأبرمت اتفاقا مع إمام اليمن لهذا الغرض، وآخر مع أمراء الخليج الفارسي لتحول دون امتداد سلطانه على بلاد العربية بعدما وصل عماله إلى البحرين، وهي التي حالت دون اتفاقه مع شاه إيران الذي كان يريد محالفته، وهي التي أعلنت بعد ذلك أن تحصر نفوذه في الأرض الأفريقية، وهي التي اقترحت على فرنسا أخذ الأسطول التركي من محمد علي بالإكراه والقوة بعدما سلم هذا الأسطول نفسه في 14 يوليو. ورأت فرنسا أن تضع الدول الاتفاق بين محمد علي والباب العالي ليكون اتفاقا مضمونا.
وأنذرت النمسا الباب العالي بألا يبرم اتفاقا مع محمد علي دون مشاورة الدول الخمس. وكان الباب العالي قد قرر إرسال وفد إلى محمد علي يحمل إليه جوابه على مطالبه، وهذا كتاب الصدر الأعظم الذي كان قد أرسله إلى محمد علي:
إن عظمة مولانا السلطان الممتلئ حكمة وعدلا - من فضل الله عليه - قال عندما رقي عرش آبائه العظام: «إن باشا مصر محمد علي كان قد ارتكب أعمالا مكدرة نحو ساكن الجنان والدي المعظم، فوقعت بعد ذلك وقائع عديدة، حتى إنهم من عهد قريب أخذوا بإعداد معدات العداء، ولكني لا أود تكدير صفو رعيتي وإراقة دماء المسلمين؛ فأنا إذن أنسى الماضي وأغض عنه على شرط أن يقوم محمد علي بواجبات العبودية والتابعية نحوي لينال عفوي السامي. وإني أخوله النشان العالي الشأن الذي يحمله وزرائي الكرام، وأخوله أن تكون ولاية مصر في سلالته.»
وكان الباب العالي يميل إلى إعطاء محمد علي: (1)
ولاية مصر بالتوارث. (2)
ولاية سوريا لإبراهيم باشا. (3)
ولاية مصر لإبراهيم بعد وفاة محمد علي، وحينئذ تعود ولاية سوريا للباب العالي.
وقد كان بالإمكان الوصول إلى الاتفاق لولا أغلاط السياسة الفرنساوية التي أرادت إخراج الباب العالي من كنف روسيا، فاضطرت هذه الدولة إلى الانضمام لإنكلترا والنمسا عدوتي محمد علي، حتى انتهى الأمر بأن وضعت الدول الخمس مذكرة قدمها السفراء إلى الباب العالي في 27 يوليو باسم إنكلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا، هذا نصها:
إن سفراء الدول موقعي هذا يتشرفون بأن يبلغوا الباب العالي أنهم تلقوا صباح اليوم من حكوماتهم بأن الاتفاق على المسأله الشرقية تام بينها، فهم يطلبون منه أن يوقف كل قرار قاطع دون مساعدتها؛ نظرا لما يكون له من المنافع التي يرونها.
فهذه المذكرة - يقول سفير إنكلترا - شجعت الباب العالي وأمدته بالقوة لمقاومة محمد علي والدفاع عن مصلحة السلطان، وفتح الباب للحكومة الإنكليزية لتعمل ما تراه مفيدا وصالحا.
وانقضى شهر أغسطس بالمناقشة والجدل بين الدول، وكانت فرنسا تطلب لمحمد علي ولاية سوريا، فرد اللورد بالمرستون: «إنا لا نتوصل إلى تأمين السلطنة العثمانية إلا بفصل مصر عن تركيا بالصحراء، فليظل محمد علي واليا على مصر بالتوارث.
وهذا كل ما كان يطلبه، ولكن فلنباعد بينه وبين أملاك السلطنة حتى لا يكون احتكاك بين هاتين القوتين، وأما إذا ظلت ولاية سوريا في بيت محمد علي فكيف تستطيع أوروبا أن تقول إنه لا يقع بعد ذلك حادث يقطع هذا الخيط الضعيف الذي ربط تلك الولايات بتركيا؟»
وأرسل بعد ذلك سفير فرنسا في لندن إلى وزير خارجيته عن سياسة إنكلترا مع محمد علي يقول: «إنها تريد اتباع سياسة الإكراه نحو محمد علي، إما ليرجع الأسطول التركي الذي انضم إلى أسطوله، وإما لحمله على قبول ولاية مصر وحدها بالتوارث. وإن قاعدة سياسة بالمرستون التي يكررها بلا انقطاع أنه يجب اتخاذ الوسائل التي تجعل محمد علي عاجزا عن الإضرار، وعن أن يجعل ضرباته قاضية على تركيا.»
وظلت المفاوضات دائرة بين الدول بهذا الصدد حتى شهر أكتوبر، ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة، وحينئذ رأى بالمرستون أن يقرب بين نظريته ونظرية فرنسا، فاقترح على فرنسا في 3 أكتوبر أن تضاف إلى ولاية مصر بالتوارث باشاوية عكا، ما عدا قلعة عكا التي تظل تحت حكم الباب العالي؛ لأنها مفتاح سوريا، وأن تبتدئ الحدود من جبل الكرمل المشرف على خليج عكا إلى طبريا، ومن هناك تنحني إلى خليج العقبة إلخ، حتى تظل طريق الحج في يد السلطان، أو بالأحرى في يد الخليفة. ولكن الحكومة الفرنساوية التي كان عليها أن تقبل هذا التساهل لم تستطع قبوله في نظر الوزير فرسينه، متابعة للرأي العام الفرنساوي الذي بات وهو لا يقبل قولا في مؤازرته لمحمد علي؛ لأن انتصارات إبراهيم السريعة ملكت عليه مشاعره، وأصبح اسم سوريا لا يقبل في نظر الرأي العام الفرنساوي انفصالا عن اسم إبراهيم. فكان يرى أن من الظلم الفاحش حرمانه من فتوحاته، وكانوا فوق هذا كله يقدرون قوته الحربية فوق ما هي في الحقيقة، فلم يحسبوا لضعف خصمه حسابا في القتال؛ لذلك كان الفرنساويون يعتقدون بأنه مع القليل من المساعدة يلقاها من فرنسا يستطيع الوقوف في وجه أوروبا.
ويقول لنا سفير فرنسا في لندن، الجنرال سبستياني، إنه عندما أعرب للورد بالمرستون عن هذه الآراء، أجابه الوزير بقوله: «وأنا أستطيع أن أصرح لك - باسم مجلس الوزراء - أن التساهل الذي أبديناه بإعطاء محمد علي قطعة من باشاوية عكا قد قررنا سحبه.» ولما أراد السفير مواصلة البحث والمناقشة قابله الوزير الإنكليزي بالصمت والإعراض. وظنت حكومة فرنسا أن تغيير سفيرها في لندرة بآخر أكثر ميلا إلى محمد علي، قد يستطيع التأثير على اللورد بالمرستون ويجد الحجة المقنعة، فأوفدت في هذه المهمة المسيو غيزو الذي دافع عن محمد علي من على منبر مجلس النواب، فيكون الرأي العام راضيا عن تعيينه واثقا به. فلما قابل الوزير الإنكليزي المقابلة الأولى قال له بالمرستون «إنه سيجعل في دائرة تفكيره جهد ما تصل إليه طاقته، من التساهل مع محمد علي إرضاء لفرنسا، وليحملها على قبول مبادئ الاتفاق الذي يوضع بهذا الصدد، وأنه لا يقرر شيئا تقريرا نهائيا قبل اطلاعه عليه.»
وفي أول مارس سقطت وزارة المارشال سولت وقامت وزارة تيرس، ولم يكن أقل ميلا إلى محمد علي من خلفه، فحاول السفير أن يحمل اللورد بالمرستون على التساهل، واستعان بزميله سفير روسيا وسفير النمسا؛ لأنهما كانا أقل صلابة من اللورد بالمرستون. إلى أن كان 5 مايو، فاقترح برأي حكومته أن تقسم سوريا بين محمد علي والسلطان، وأن يعطى محمد علي باشاوية عكا حتى حدود باشاوية دمشق وطرابلس. ولما قابل سفير النمسا اللورد بالمرستون، قال له اللورد إنه يسلم باقتراح النمسا لتنضم فرنسا إلى الدول، فإذا أبى محمد علي قبول ذلك، فإن النمسا تنضم إلى إنكلترا وروسيا لاستخدام وسائل الإكراه. ولكن المسيو تيرس أجاب في 11 مايو أن محمد علي - على ما نعرف من ميوله - لا يسلم بذلك.
وفي الحقيقة إن محمد علي كان يقول لقناصل الدول إنه لا يقبل الشروط التي يقترحونها، وإنه لا يتردد في مجابهة الدول؛ فيسلم بلاد العرب لشريف مكة، ويزيد جيشه مائة ألف، ويصدر الأمر إلى إبراهيم بالزحف على قونيه. ولما أصدر الأمر إلى إبراهيم في ذلك، رد إبراهيم باشا على والده في 4 سبتمبر أنه لا يوجد وجه لمعاندة الدول الآن؛ لأنه لا يستطيع الاعتماد على جيش الحجاز لما تولاه من التعب. وكيف يكون بالإمكان نقله إذا حصرت إنكلترا السواحل، فضلا عن وجود عناصر الفوضى والفتن في سوريا. فإذا ظهرت مراكب الدول ضد المصريين في سواحل سوريا، قطعت المواصلات عن جيشه في الأناضول.
وتلا ذلك تقارير الولاة عن أن الرسل الأجانب يملئون سوريا، وأنهم يحرضون الأهالي ويبذرون الأموال على أصحاب النفوذ بغير حساب، ويهربون لهم السلاح.
وفي إبان ذلك كله، كان محمد علي قد طلب عزل خسرو باشا من الصدارة؛ لأنه عدوه الذي يحول دون مصالحته مع الباب العالي، وقال: «إن خسرو باشا لو لم يكن موجودا لذهب هو ذاته إلى إستامبول واتفق مع رجالها على وجوه إصلاح الدولة والنهوض بها.»
فلما عزل خسرو باشا ارتاحت فرنسا إلى ذلك، وظنت أن مصالحة محمد علي مع الباب العالي باتت سهلة؛ لأن محمد علي رضي بأن يعيد الأسطول للسلطان. فإذا تم هذا تفادت الدول عن عقد مؤتمر في لندن، ولكن إنكلترا لم تنظر إلى ذلك بعين الرضا، بحجة أن فرنسا تلعب دورها في الخفاء وتتجاوز عن الدول الأخرى، وبذلك تكون فرنسا قد قضت على مذكرة الدول بتاريخ 27 يوليو سنة 1839، وقد نالت وحدها الفوز في الإسكندرية والآستانة دون الاتفاق مع إنكلترا والدول الأخرى.
وهذه الأسباب كلها دعت اللورد بالمرستون إلى أن يعجل بالعمل الحاسم. فبعد الاتفاق مع زملائه الوزراء ومع سفراء الدول الأربع، استدعى إليه سفير فرنسا في 17 يوليو وسلمه مذكرة مكتوبة، وقال له عند تسليمها إنه لم يشأ أن يقول له ما ورد في هذه المذكرة مخافة أن تبدر كلمة تخالف رأيه وفكره. وهذا نص المذكرة:
إن الحكومة الإنكليزية تلقت أثناء جميع المفاوضات التي دارت في خريف العام الماضي أصدق الأدلة وأوضحها وأقطعها؛ ليس فقط على رغبة بلاط النمسا وبريطانيا وبروسيا وروسيا على حب الوصول إلى اتفاق مع الحكومة الفرنساوية على التسوية اللازمة لتسكين الشرق، بل على رغبتها - فوق ما تقدم - في إظهار الأهمية التي تعلقها هذه الدول على النتيجة الأدبية التي تنجم عن هذا الاتحاد والتعاون بين الدول الخمس في مسألة ذات خطر عظيم، وهي متصلة كل الاتصال بالسلام الأوروبي.
ولكن الدول الأربع رأت - مع الأسف الشديد - أن جميع مجهوداتها للوصول إلى هذا الغرض كانت عقيمة، مع أنها اقترحت مؤخرا على فرنسا أن تتحد معها لعرض مقترحات التسوية على السلطان ومحمد علي، وهذه التسوية مؤسسة على الآراء التي أبداها سفير فرنسا في لندن في آخر العام الماضي، ومع ذلك لم تر الحكومة الفرنساوية الاشتراك للوصول إلى هذا الاتفاق، وعلقت معاونتها مع الدول الأخرى على الظروف التي رأت هذه الدول أنها لا تتفق مع صيانة استقلال الدولة العثمانية وبقائها، ومع راحة أوروبا في المستقبل.
فلم يبق أمام هذه الدول إلا أن تدع لحكم المستقبل الشئون الهامة التي تعهدت بتسويتها، وأن تقر بعجزها وتدع سلام أوروبا عرضة للأخطار التي تتزايد، أو تخطو إلى الأمام دون فرنسا، وأن تصل بوسائلها الخاصة إلى حل مسائل الشرق طبقا للوعود التي قطعتها مع السلطان وهي تكفل السلام.
وبين هذين الموقفين، واعتقاد الدول بضرورة الحل السريع لتعلقه بالمرافق المتعلقه عليه؛ رأت الدول الأربع اختيار الموقف الثاني، وقد أبرمت مع السلطان اتفاقا لحل المشاكل القائمة الآن في الشرق.
وعندما وقعت الدول الأربع الاتفاق، شعرت بالأسف الشديد؛ لانفصالها مؤقتا عن فرنسا في مسألة أوروبية بحتة. والذي يخفف من الأسف أن فرنسا كررت تصريحاتها بأنها لا تعترض على التسوية التي تقرها الدول الأربع، وتحمل محمد علي على قبولها إذا هو ارتضاها، ولا تعترض على الوسائل التي تتخذها الدول بالاتفاق مع السلطان لإكراه محمد علي باشا مصر على القبول، وأن السبب الوحيد الذي منع فرنسا عن الاتحاد هو اعتماد الدول على الوسائل الإكراهيه ضد محمد علي.
ثم أعربت المذكرة عن الأمل بأن تستخدم فرنسا نفوذها لدى محمد علي ليقبل ما سيعرضه عليه السلطان.
الفصل الثاني عشر
ثورة اللبنانيين وأسبابها.
بين الدول وفرنسا. ***
لما تلا اللورد بالمرستون باسم الدول الأربع المذكرة على سفير فرنسا بأنهن اتفقن مع الباب العالي على أن يقدم مقترحاته لمحمد علي، وعلى أن يتخذن وسائل الإكراه ليحملنه على قبولها؛ لم يشأ أن يبين للسفير تلك الوسائل، فردت فرنسا على مذكرة الدول الأربع بمذكرة في 21 يوليو، قالت فيها:
إنها كانت ترغب دائما في العمل مع إنكلترا والنمسا وروسيا وبروسيا لخدمة السلام، ولم تنظر إلى المقترحات التي عرضت عليها من وجهة مصلحتها الخاصة، بل من وجهة المصلحة العامة؛ لأنها - دون سائر الدول - منزهة في الشرق عن الأغراض. لهذا اعتبرت كل المقترحات التي ترمي إلى حرمان محمد علي بقوة السلاح المنطقة التي يحكمها الآن من أملاك تركيا، مقترحات جائرة، ولا تظن أن ذلك مفيد للسلطان؛ لأنهم يعطونه ما لا يستطيع صيانته ولا إدارته، ولا ترى أن ذلك مفيد لتركيا على وجه عام، ولا للتوازن الأوروبي على وجه التخصيص؛ لأنه يضعف تابعا يستطيع أن يدافع عن وجود الدولة دون أن ينيل المتبوع أية فائدة، على أن المسألة مسألة أسلوب وطريقة تختلف فيها الأنظار. وإذا كانت فرنسا قد عارضت في استخدام القوة، فلأنها لم تعرف الوسائل التي تتذرع بها الدول الخمس، وظهر لها أن هذه الوسائل إما أنها نافعة وإما أنها مضرة. ومع ذلك لم يقترح عليها في العهد الأخير أي اقتراح تستطيع المناقشة فيه، فلا يصح أن يعزى إليها رفض ما لم يعرض عليها. وعلى ذلك هي تعلن أن اتخاذ أي قرار دون التذرع بوسائل التنفيذ، لهو قرار ليس ثمرة التفكير، بل هو قليل التدبير، كذلك القرارات دون وسائل التنفيذ أو بوسائل مترددة بين النفع والضرر.
لا شك أنهم غنموا فرصة انتقاض بعض أهالي لبنان ليجدوا في هذا الانتقاض وسيلة التنفيذ التي لم تبد قبل اليوم. فهل هذه الوسيلة وسيلة شريفة؟ وهل هي مفيدة لتركيا ضد والي مصر؟ فلم يريدون تعزيز السلام وهم في الوقت ذاته يبذرون بذور الفتن والثورات في أراضي السلطنة؟! فهم يزيدون الاضطراب العام الشامل اضطرابات جديدة. وهل هم يقدرون على إخضاع هذه الشعوب بعد إثارتها على الوالي؟
فهب أن محمد علي أخمد الثورة، وهب أنه أعاد حكمه على سوريا؛ فهل تكون بعد ذلك أقل تمسكا وألين شكيمة؟ وهل إذا رفض المقترحات التي تعرض عليه ماذا تكون وسائل الدول الأربع؟
إن هذه الوسائل التي صرفوا سنة في البحث عنها لم يجدوها فجأة، وفي هذه الحالة يكونون قد أوجدوا خطرا جديدا أشد من سواه، وهو أن محمد علي الذي أثاروا حفيظته والذي ساعدت فرنسا على إيقافه، قد يتجاوز طوروس ويكرر تهديد إستامبول. فماذا تفعل الدول الأربع في هذه الحالة؟ وما هي وسائلها لدخول الأراضي التركية لإعانة السلطان؟ إن فرنسا ترى أنهم أعدوا لاستقلال تركيا وللسلم العام خطرا أشد من خطر مطامع والي مصر.
فإذا كانت الدول الأربع لم تنظر إلى هذه النتائج، فإنها تكون قد اتجهت طريقا مظلما وخطرا، وأما إذا كانت قد نظرت إلى الوسائل والنتائج، فالواجب عليها أن تعلنها لأوروبا ولفرنسا على وجه التخصيص، وهي لا تزال تطلب منها استخدام نفوذها الأدبي في الإسكندرية.
وفرنسا تعتبر أن ما بذلته من النفوذ الأدبي كان فرضا عليها، وترى أن هذا الفرض محتم أيضا عليها في الموقف الذي وقفته الدول الأربع ... إلخ.
ولما سلم سفير فرنسا هذه المذكرة للورد بالمرستون وسأله عن سبب إهمال فرنسا، أجابه: إن حكومتكم لم ترض أن تكون حدود حكم محمد علي خليج عكا، وأجابتنا أن محمد علي لا يسلم بأي تقسيم لبلاد سوريا، فاعتبرنا ذلك من حكومة فرنسا قرارا حاسما، فانصرفنا لغرضنا. وزاد على ذلك قوله إنهم لا يحصرون السواحل؛ لأن محمد علي ليس سيد البلاد وليست له صفة المحارب، فحق الحصار للسلطان وحده، فهو سيعمل كل ما يستطيع عمله بقوته، ونحن لا نتعرض للمصالح التجارية ولا لحقوق المحايدين. •••
ولا شك في أن ثورة اللبنانيين - كما جاء في مذكرة فرنسا - كانت السبب الأول الذي دفع الدول الأربع للإقدام على الإسراع بعملها، بعد أن عملت لإعداد تلك الثورة منذ زمن بعيد، حتى إن حزب المحافظين في إنكلترا - وكان يعارض سياسة بالمرستون - أوفد إلى سوريا اثنين من نوابه لدرس الحالة، فلما عاد اللورد إجرتون واللورد ألفونيلي قدما تقريرا عن إعداد الثورة اللبنانية التي تجعل مركز إبراهيم باشا ضعيفا جدا.
بدأت هذه الثورة في أواخر مايو سنة 1840، وكانت لها أسباب عدة؛ أولها: تحريض قناصل الدول في بيروت لما كان بينهم وبين إبراهيم باشا من النزاع على السلطة. والثاني: انتشار رسل الإنكليز والنمساويين وتوزيعهم الأموال على الناس وإغرائهم على الثورة. والثالث: إدخالهم في وهم الأهالي إزالة حكم بلادهم من يد أمرائهم وشيوخهم، وتجنيد شبانهم ونزع سلاحهم، ثم قرار الدول على أن ترسل جيوشها إلى لبنان. حتى إن أولئك الرسل كانوا يئولون أقل حركة تبدو تأويلا يوغر الصدور، كتأويلهم نقل مركز سليمان باشا الفرنساوي من صيدا إلى بيروت بأنه لتجنيد اللبنانيين، والاستشهاد على ذلك بتجنيد بعض الطلبة اللبنانيين الذين كانوا يتلقون العلم في مصر، وكتأويلهم وصول مركب من مصر إلى بيروت مشحونا بالملابس العسكرية، بأن هذه الملابس للشبان اللبنانيين الذين يجندون، وضاعف في هذه الدعاية إضعاف سلطة الأمير بشير والأمراء وطلب الفردة (وهي الضريبة الشخصية عن سبع سنين مقدما. والفردة أن يدفع كل شخص من سن الخامسة عشرة فصاعدا ضريبة أقلها 15 قرشا وأكثرها 500 قرش)، وعن الأحياء والأموات المقيدة أسماؤهم بالدفاتر وكانوا يدفعون المال لأميرهم. أضف إلى ما تقدم سخط أصحاب الإقطاعيات الذين زل نفوذهم. ولما وصلت في أثناء ذلك قوة من الجيش المصري إلى بعلبك وأخرى إلى طرابلس أولوا مجيئها بأنه لإكراه اللبنانيين على تسليم السلاح، وعلى دفع الفردة عن سبع سنين، وعلى تجنيد الشبان. فدارت المفاوضة بين النصارى والدروز على ما يجب عمله، فقرر زعماؤهم في اجتماع عقدوه في دير القمر مقاومة إبراهيم باشا إذا هو حاول أخذ جندي واحد منهم، وأنشئوا صناديق لمشترى السلاح، وكانت كل مقاطعة قد انتدبت اثنين للنيابة عنها. واتفق الجميع على بث دعوة العصيان، ووجهوا إلى أعيان البلاد رسالة قالوا فيها إن إبراهيم باشا أمر بجمع السلاح، وأنهم بسطوا له الرجاء مرارا ليبقي لهم السلاح في أيديهم، فرفض. والمراد من نزع السلاح تحصيل فردات وتجنيد الشبان؛ لذلك أعلنوا العصيان خوف الغدر بهم، وهم لا يقدمون الطاعة إلا لأميرهم ... إلى قولهم في تلك الرسالة:
أمس تاريخه حضر لنا علم من صيدا بأنه تتوجه علينا عسكر. وفي النهار ذاته توجه من هذا الطرف عسكر وصحبته المشايخ بيت أبو نكد. وساعة تاريخه نهار الخميس حضرت لنا بشارة سنية بأنهم ظفروا بهؤلاء الخارجين، وأخذوا منهم مائة وثمانين بارودة، ولا زالوا منتظرين على جسر صيدا بانتظار العساكر التي تمر لجهتنا، فنرغب أن تكونوا - كما نحن - منتظرين سهرانين ولكم أعين بجهة نواحي بيروت وجهة الشمالية. وكلما جد عندكم عرفونا حالا صحبة مخصوص، وبحوله تعالى أنتم الظافرون، ولا يلزم أن نحثكم على التيقظ، كون هذا صالحه عائد للجميع. نسأله تعالى أن نسمع عنكم كل ما يسر الخاطر حسب عوائدكم السابقة.
هذا ما لزم إفادتكم والله يحفظكم.
إخوتكم أهالي دير القمر
نصارى ودروز
27 أيار 1840
وهكذا بدأت الثورة اللبنانية التي اعتمد عليها اللورد بالمرستون لإعلان اتفاق الدول الأربع دون فرنسا كما قلنا.
ولما بلغ إبراهيم باشا خبر اتفاق دير القمر، كتب إلى الأمير بشير ليجمع السلاح الذي كان قد وزعه على النصارى ليقاتلوا به الدروز إبان ثورتهم، وأرسل رسالة إلى الأعيان يحذرهم من الاغترار، فرفض الأهالي تسليم سلاحهم.
وأرسل الأمير بشير كتابا إلى أعيان البلاد يقول فيه: «بلغنا أن جهال دير القمر أرسلوا إليكم مكاتيب لأجل أن يغشوكم كما غشوا ذواتهم، ولكي يرموكم تحت تغيير الخاطر، وأنكم ما قبلتم ذلك ولا جاوبتموهم. ولكن رأفة بكم وخشية لئلا يغشوكم بكثرة المراسلات، اقتضى إصدار هذا الأمر إليكم نحذركم وننصحكم من الوقوع بهذا الغلط الذي يوجب خراب الديار وقلع الآثار. وإذا كان عندكم مراسيل من الدير حالا اطردوهم وارموا عليهم القبض وأرسلوهم لطرفنا.»
ولما رأى إبراهيم باشا حركة العصيان وعدم تسليم السلاح، أرسل قوة لجمعه من نصارى الشحار والمناصف، فاستنجد هؤلاء بأهل دير القمر، فذهب منهم لنجدتهم مائة شاب، فاحتمى الضابط بالشيخ محمود النكدي. ووصل بعد ذلك خبر قدوم سليمان باشا من صيدا إلى دير القمر، فذهب مائتان إلى جسر الأولى وطردوا العساكر من الخان، وانضم إليهم أهل المعلقة وجدوا في أثر الجنود حتى أبواب صيدا. وأرسلت حامية صيدا في اليوم الثاني ألفي جندي، جمعوا أمتعة الجنود وعادوا إلى صيدا، وسلب أهالي بعبدا سلاح الجنود الذين كانوا قادمين من دمشق إلى بيروت، فاستعاده منهم الأمير حيدر وأرسله إلى الأمير بشير.
وهكذا أخذت الثورة تمتد، وقادها بعض الأمراء الشهابيين واللمعيين والمشايخ آل الخازن وحبيش والدحداح. وبرز فيها أبو سمرا غانم ويوسف الشنتيري، فكانا من أبطالها، حتى إن اللبنانيين كانوا يتغنون ببطولتهما ويقولون: «سبعين طلعوا في الديري، بو سمرا والشنتيري.»
ولما اشتدت حركة الثورة في جنوبي لبنان، وضيقت الخناق على مدينة صيدا، أرسل سليمان باشا آلايا من الجند المصري لحراسة المطاحن، وأمر الجنود بألا يتعرضوا للثوار، وأرسل إلى هؤلاء رسولا بأن محمد علي باشا لا يطلب نزع سلاحهم منهم، بل استعادة السلاح الذي وزعه عليهم ليسلح الرديف به، وأكد لهم أنه لم يخطر بباله تجنيدهم. وأرسل الأمير بشير رسالة لتسكين الأفكار، فعاد الثوار إلى قراهم. ولكن ظهر بجوار بيروت في أوائل يونيو زعيمان للثورة؛ هما أحمد داغر وأبو سمرا غانم، فهاجموا الحامية في مدينة بيروت. وفي 4 يونيو اجتمع أعيان إقليم المتن وكسروان، وتحالفوا على العدوان، ونهبوا مخازن الحكومة ومستودعاتها، فأرسل إليهم الأمير بشير ولده الأمير أمينا ليخلدوا إلى السكينة، فأجابوه أنهم يطيعون إرادته إذا أجيبت مطالبهم، وهي: (1)
بقاء سلاحهم بأيديهم. (2)
إعفاؤهم من التجنيد. (3)
إعفاؤهم من الفردة إلا عن الأحياء. (4)
إبطال السخرة والشغل في معدن الفحم الحجري في قرنايل.
ثم طلبوا من الأمير بشير: (1)
تأليف ديوان مشورة يكون مؤلفا من اثنين من كل طائفة. (2)
أن يكون معدل الفردة 30 قرشا عن كل رجل. (3)
إذا عجز مديون عن وفاء دينه لا يكلف أحد أقاربه الدفع.
ولما وصل خبر امتداد الثورة إلى محمد علي في أنحاء لبنان كله، أرسل حفيده عباس باشا إلى سوريا ومعه اثنا عشر ألفا من الجنود، ووصل عثمان باشا من الشمال ومعه 12 ألفا. وكان سليمان باشا يقود القوات المرابطة على السواحل وعددها عشرون ألفا. وهذه القوات التي طوقت لبنان من كل جانب أخذت تقاتل الثوار، وأخذ الأمير بشير يبذل مجهوده لإخماد الفتن، ولما جمع أعيان البلاد في بعقلين ليعينوا موقفهم، قدموا له المطالب الآتية: (1)
أنهم نصارى ودروز على قلب واحد. (2)
أنهم لا يسلمون سلاحهم. (3)
أنهم لا يقدمون الجنود. (4)
أنهم لا يدفعون الفردة. (5)
أنهم لا يدفعون سوى مال واحد. (6)
أنهم لا يدعون العسكر النظامي يدخل البلاد. (7)
أنهم لا يحاربون أحدا من أبناء البلاد إلا إذا هو أقدم على محاربة الأمير بشير ذاته.
وأرسل محمد علي باشا إلى عباس باشا وعثمان باشا بإخماد الفتنة والقبض على زعمائها وإرسالهم إلى الإسكندرية، فهاجم عباس باشا البلاد من الساحل وعثمان باشا من الجنوب، وأخذ الأمير بشير يجمع السلاح. وأرسل عباس باشا 57 شخصا إلى الإسكندرية بينهم أربعة من الأمراء الشهابيين وبعض المشايخ الدروز والنصاري، ومن زعماء الثوار يوسف الشنتيري، فأبعدهم محمد علي باشا إلى سنار.
وكتب محمد علي باشا إلى عباس باشا أنه بلغه خبر قيام الأسطول الفرنساوي والأسطول الإنكليزي إلى ميناء بيروت، وأن قيامهما ليس لقصد سيئ، ولكنه يجب عليه أن يتخذ الاحتياطات اللازمة. وقال في كتابه: وإن منع الدول عن التدخل لا يكون إلا بالقضاء على الفتنة والثورة.
وكتب إليه ثانية بأنه سره دخول أهالي جبل الدروز بالطاعة، ولكنه يجب نزع سلاح المسيحيين وسواهم وإمداد الأمير بشير بالقوة. وأرسل إلى الأمير بشير نيشان الافتخار المرصع، وإلى أولاده نياشين أخرى، وإلى جماعة مشايخ الدروز الهبات المالية، فوهب الشيخ خطاب 37 كيسا، وعبد السلام بك 30 كيسا، ونعمان 60 كيسا، ولطيف بك 90 كيسا.
ولما أرسلت الدول الخمس مذكرتها في 27 يونيو - وقد نشرناها في فصل تقدم - أرسل محمد علي إلى عباس باشا في بيروت يقول له: «يظهر لنا من الحالة الحاضرة أن الدول متحزبة ضدنا، وقرار مجلسهم في لندرة يمس مصالحنا ويخالف مقاصدنا، فيجب عليكم اتخاذ الاحتياطات اللازمة في سائر المواقع العسكرية على سواحل مصر والشام، فإذا حشدت الدول عساكرها ضدكم فقوموا بالدفاع، وقد صدر أمرنا إلى عمكم إبراهيم بما تقدم، فالواجب السير عليه. وإذا ما تظاهرت الدول بعمل ضد مصر تحضرون إلينا إما برا وإما بحرا، وتعيدون العساكر التي أتت إليكم من جهة كوبك إلى مكانها. والخلاصة أنه يجب عليكم أخذ الأمور بالحزم.»
ولما اجتمع سفراء روسيا وبروسيا والنمسا باللورد بالمرستون ليتفقوا على إكراه محمد علي على ترك سوريا، كتب محمد علي إلى عباس باشا وإبراهيم يقول:
لم يعرف قرار حكومة لندرة بالضبط حتى الآن، لكنا تحصلنا من كتاب قناصل روسيا وإنكلترا والنمسا أنهم يرون بث الفتن في بلاد الشام ومساعدة الأهالي، بإرسال ستة آلاف جندي عثماني إلى قبرص، وإرسال السلاح والذخيرة لتوزيعها على أهالي سوريا، وإرسال فرمان سلطاني إلى الأمير بشير بالخروج من طاعتنا والولاء لنا، وإرسال رسل من لدن الدول الأربع على وابور إنكليزي ليوزعوا في بلاد سوريا؛ لحض الناس على الخروج من حكم محمد علي. أما فرنسا فإنها تعد مائة ألف جندي، فعليكم رقابة السواحل، ومنع خروج الأجانب من المراكب، ومنع نشر الكتابات المهيجة، واتخاذ نظام الحجر الصحي حجة لهذا المنع، واستعملوا الشدة المتناهية.
وكان محمد علي إبان ذلك يستعد ويتأهب للدفاع، فألف في مصر حرسا وطنيا بتجنيد العمال في ورش الحديد وورش المهمات الحربية وورش بولاق وتلامذة المكاتب، واستثنى عمال المصانع. وتقدم من المشايخ السيد العزبي لتأليف آلايين من الرديف والشيخ حسن سرور والشيخ علي الجزار لتأليف آلايين، فأنعم عليهم برتبة الميرالاي. ثم استأذنه الشيخ عثمان السناري بتأليف آلايين من شبان باب الشعرية والجمالية أسوة بعلي الجزار وحسن سرور، فأذن له وأنعم عليه برتبة الميرالاي. ثم ألف هذا الشيخ آلايين آخرين، فأنعم عليه برتبة اللواء. وألف الشيخ محمد الإبراشي آلايا من قسم السيدة زينب والخليفة، وإبراهيم عارف من الدرب الأحمر وقيسون وعلي سعيد وسالم بدوي أربعة آلايات، فأنعم برتبة اللواء على الشيخ محمد الإبراشي والميرالاي علي الشيخ سعيد والشيخ سالم. وهكذا تألف 12 آلايا من الحرس الوطني، ووزع هذا الحرس على الإسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق وجهات القاهرة، وكان الآلاي يؤلف من 3500 مقاتل.
ووجه محمد علي رتبة قومندان الرديف إلى محمد باشا ابن الشيخ الشرقاوي ومصطفى باشا العروسي ابن الشيخ العروسي.
ثم أصدر أمرا بتأليف لجنة برياسة ولده سعيد باشا لتقوية استحكامات الإسكندرية، وأمر إبراهيم باشا يكن ابن أخته والي اليمن بالمجيء إلى مصر مع عساكره المرابطة هناك، وأمر في الوقت ذاته بتنظيم أبراج الإرشادات التي كانت تقوم مقام التلغراف بين مصر والشام. ولما وصلت آلايات اليمن وكل إليها تعليم الرديف أو الحرس الوطني.
وكان محمد علي يبذل جهده لإخماد الثورة اللبنانية؛ لأن تعليمات المسيو تيرس وزير خارجية فرنسا لقنصل دولته في الإسكندرية كانت تتضمن ذلك بقوله: «يجب أن تكون خطة فرنسا ومصر واحدة لغرض واحد، وهو محو النتائج التي تعلقها الدول الأربع على اتفاقها، والطريقة الوحيدة لذلك إخماد الثورة في سوريا؛ فإن الثورة التي اتقدت في لبنان هي السبب الأصلي لإبرام ذلك الاتفاق بين الدول، فما دامت هذه الثورة ناشبة فالاتفاق بين الدول الأربع يظل قائما.»
فإذا أخمد محمد علي ثورة لبنان، وحصن الإسكندرية وعكا، وجمع قواته في سوريا لضبطها وفي سفح جبال طوروس ليوقف أعداءه ويهددهم بالانقضاض عليهم؛ فإنهم لا يتوصلون لإخضاعه، ولا يحملهم على التسليم وعلى محو اتفاق الدول الأربع، لأنهم لا يملكون أية وسيلة من وسائل الإكراه.
وكان محمد علي على هذا الاعتقاد؛ لأنه كان يقول: «إن كل ما تستطيعونه هو توزيع المنشورات والنقود والسلاح فتذهب ضياعا؛ لأن جنودي تحتل السهول، والأمير بشير يحتل الآكام والروابي. فإذا عاد الجبليون للثورة كانوا بين نارين، ولا عون لهم سوى ستة آلاف ألباني ترسلهم تركيا.»
وبينما كان إبراهيم باشا مجدا في إخماد الثورة في لبنان، نزل خلسة على سواحل طرابلس ريتشردوود الذي كان قد صرف في لبنان سنتين بحجة درس اللغة العربية، فأخذ بعد نزوله يدفع اللبنانيين إلى إرسال العرائض للباب العالي لينقذهم من مغارم حكم محمد علي. وكان قنصل إنكلترا في الإسكندرية يسهل على رجال الأسطول العثماني الفرار، ولما سئل اللورد بالمرستون عن ذلك كله في مجلس نوابهم أجاب «أنه يوافق كل الموافقة على كل وسيلة من شأنها إعادة رعايا السلطان إلى حظيرة السلطنة.»
وكانت الحكومة الإنكليزية قد أرسلت أسطولا إلى بيروت بحجة المحافظة على رعاياها ، فأرسلت الحكومة الفرنساوية إحدى سفنها لرقابة حركة الأسطول الإنكليزي. ووصول هذا الأسطول كان قد أشار إليه محمد علي في كتابه إلى عباس باشا، فنصح القائد الفرنساوي للسفن المصرية بالعودة من بيروت إلى الإسكندرية، فعملت بالنصيحة. وفي 7 يوليو؛ أي بعد يومين من قيامها، وصل الأسطول الإنكليزي ونزل قائده الأميرال نابيير إلى البر وطاف أنحاء البلاد. وفي 3 أغسطس غادر مياه بيروت، وقبل أن يبعد بعيدا تلقى الأوامر بالعودة إلى بيروت، وانضم بعض المراكب إلى أسطوله، وتلقى نص الاتفاق الذي أبرم بين الدول الأربع لإخراج محمد علي من سوريا، وهو اتفاق 15 يوليو.
وفي 12 أغسطس وجه هذا الأميرال بلاغا إلى محمود بك متسلم بيروت بأن إنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا اتفقت على إعادة سوريا لحكم الباب العالي، وطلب منه أن يسلمه خمسة آلاف جندي تركي كانوا في جيش محمد علي، وأرسلهم إلى بيروت، وطلب منه أن يعيد إلى أهل لبنان سلاحهم ويحذره من أية حركة عدائية.
وأرسل إلى قنصل إنكلترا في بيروت ليبلغ ذلك للقناصل، وأرسل إلى قائد الجنود التركية في بيروت يحذره من الانتقال بجنوده، فإن هو فعل كان ذلك فاتحة الحرب والقتال.
ونشر في بلاد سوريا منشورا ذكر فيه اتفاق الدول الأربع على إخراج محمد علي من سوريا، وصدور خط شريف سلطاني لتأمين الأهالي ودعوة أهل لبنان خاصة إلى خلع نير محمد علي، ويعدهم بوصول الجنود والسلاح والذخائر قريبا إليهم.
وأرسل رسالة إلى الأمير بشير يدعوه لطاعة السلطان، وأخرى إلى الأمير بشير عمر الحاكم ومزاحمه يحثه على الانحياز لجانب السلطان، ويعده بأنه سيؤيده، وبأن الباب العالي سيرسل إليه المدد.
وأرسل إلى سليمان باشا قائد الجيوش المصرية يخبره بأن الأوامر التي لديه تقضي بحجز السفن المصرية والسورية التي تنقل الذخائر والجنود والمؤن الحربية، ويطلب منه وقف حركة هذه السفن في دائرة اختصاصه. فأجاب سليمان باشا بأنه لم يتلق تعليمات في ذلك، وليس لديه خبر بوقوع الحرب بين مصر وإنكلترا حتى يحترم هذا الإنذار الموجه إليه من قائد الأسطول الإنكليزي.
الفصل الثالث عشر
نص اتفاق الدول الأربع.
الفصل الملحق.
إنذار محمد علي بترك البلاد السورية.
موقف محمد.
علي وغضبه.
ضرب بيروت والسواحل السورية.
انتهاء إمارة الأمير بشير. ***
إن الاتفاق أو العهد الذي أبرمته الدول الأربع - إنكلترا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا - مع الباب العالي بشأن مصر ووقع في 15 يوليو 1840 وأذاعت الصحف أمره بتوقيعه، لم يبلغ رسميا لفرنسا إلا بعد مصادقة الدول عليه في 16 سبتمبر. وكان هذا العهد - أو الملحق الذي ألحق به - أساس الحالة النهائية في مصر، ولكنهم نصوا في البروتوكول الخاص على أن العهد والميثاق يعد نافذا من يوم توقيعه، وأن الوسائل التي قرروا التذرع بها تنفذ في الحال؛ لذلك رأينا الأميرال الإنكليزي يشرع في تنفيذها في 7 أغسطس في سواحل سوريا؛ أي عند وصولها إليه، فيرسل إنذاراته إلى متسلم بيروت وإلى سليمان باشا قومندان السواحل السورية وإلى الأمير بشير حليف محمد علي، وإلى الهيئات الأخرى في بيروت، وأما نص هذا الميثاق فهو:
المادة الأولى:
اتفقت عظمة السلطان مع أصحاب جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا وإمبراطور النمسا وملك هنغاريا وبوهيميا وملك بروسيا وقيصر روسيا، على شروط التسوية التي تريد عظمته منحها لمحمد علي، وهي مذكورة في الفصل الخاص الملحق بهذا.
ويتعهد أصحاب الجلالة بأن يعملوا متحدين، وبأن يوحدوا مجهوداتهم لإكراه محمد علي على أن يتبع هذه التسوية، ويحتفظ كل فريق بأن يعاون على بلوغ هذا الغرض تبعا للوسائل التي يستطيع استخدامها في هذا السبيل.
المادة الثانية:
إذا أبى باشا مصر أن يسلم بهذه التسوية التي تبلغ إليه من لدن السلطان بمعاونة أصحاب الجلالة، فإن هؤلاء يتعهدون بأن يتخذوا - بناء على طلب السلطان - الوسائل المتفق عليها بينهم، حتى تنفذ التسوية. وقبل ذلك يدعو السلطان حلفاءه لمعاونته على قطع المواصلات البحرية بين مصر وسوريا، وإلى منع إرسال الجنود الجديدة والسلاح والذخائر ومعدات الحرب من كل نوع.
ويتعهد أصحاب الجلالة بأن يصدروا أوامرهم اللازمة إلى قواتهم البحرية في البحر المتوسط، ويعدون فوق ما تقدم بأن قواد أساطيلهم يقدمون - طبقا للوسائل المتوفرة لديهم للمحالفة - كل تأييد وكل معاونة بإمكانهم، وكذلك لرعايا السلطان الذين يعربون عن إخلاصهم.
المادة الثالثة:
إذا رفض محمد علي الخضوع لشروط التسوية المذكورة ووجه قواته البحرية والبرية إلى إستامبول، فإن المتعاقدين يلبون دعوة السلطان التي يوجهها إلى سفرائهم في الآستانة، فيتذرعون بالوسائل التي يتفقون عليها للدفاع عن عرشه، وجعل البوسفور والدردنيل وعاصمة السلطنة بمنجاة من كل عدوان.
ومن المتفق عليه أن القوات التي تعين للقيام بمهمة في مكان معين تظل قائمة بمهمتها إلى أن يستغني السلطان عنها، وعندما يرى السلطان أن وجودها لم يعد لازما تنسحب تلك القوات راجعة إلى البحر الأسود أو البحر الأبيض.
المادة الرابعة:
ومن المعلوم حتما أن التعاون المذكور في البند السابق والذي يرمي إلى وضع البوسفور والدردنيل والعاصمة التركية موقتا تحت رعاية الدول المتعاقدة ضد كل عدوان من محمد علي، لا يعد إلا وسيلة استثنائية متبعة بناء على طلب السلطان والغرض منها الدفاع عنه في الحالة المعينة. والمتفق عليه أن هذه الوسيلة لا تخالف في شيء القاعدة القديمة المتبعة في السلطنة العثمانية، وهي التي منعت في كل وقت المراكب الحربية للدول الأجنبية من دخول البوسفور والدردنيل.
ويعلن السلطان من جهته أنه مصمم - فيما عدا الحالة المنوه عنها - كل التصميم على أن يحتفظ كل الاحتفاظ بالقاعدة القديمة المقررة في سلطنته، وأنه ما دام الباب العالي في سلام لا يسمح لأي مركب حربي بالمرور بالبوسفور والدردنيل، ويتعهد أصحاب الجلالة المتعاقدون على احترام ذلك. •••
أما الفصل الملحق الذي وقعه المتعاقدون بشأن محمد علي، فهو:
ينوي عظمة السلطان أن يمنح محمد علي شروط التسوية على الوجه الآتي، وأن يبلغه هذه الشروط:
الأول:
يعد عظمة السلطان بأن يمنح محمد علي وسلالته المباشرة من بعده إدارة باشاوية مصر، ويعد بأن يمنح محمد علي مدة حياته باشاوية عكا وقومندانية قلعة عكا مع إدارة الجزء الثاني من سوريا الذي يحدد فيما بعد، على شرط أن يقبل محمد علي هذه المنح بعد عشرة أيام من تبليغها إليه في الإسكندرية على يد مندوب من لدن السلطان، وفي الوقت ذاته يسلم محمد علي إلى هذا المندوب التعليمات اللازمة لقواد القوات البحرية والبرية؛ لينسحبوا في الحال من بلاد العرب والمدن المقدسة، ومن جزيرة كريد وأدنه، ومن الأجزاء الأخرى من أملاك السلطنة الخارجة عن حدود مصر وحدود باشاوية عكا كما عيناها.
المادة الثانية:
إذا لم يقبل محمد علي هذه التسوية في مدى عشرة أيام، يسحب السلطان إدارة باشاوية عكا، ولكن السلطان يظل راضيا بمنح محمد علي وسلالته المباشرة حكم مصر بالتوارث، على شرط أن تقبل هذه المنحة في مدى عشرة أيام أخرى تالية للعشرة الأيام الأولى؛ أي في مدى عشرين يوما تبتدئ من اليوم الأول الذي يتلقى فيه البلاغ، وعلى شرط أن يسلم محمد علي مندوب السلطان الأوامر اللازمة لقواد بحريته وبريته بأن ينسحبوا إلى حدود الولاية المصرية.
المادة الثالثة:
إن الإتاوة السنوية التي يدفعها محمد علي للسلطان تحسب على حسب الأملاك التي يعطى إدارتها، إما على حساب المنحة الأولى وإما على حساب الثانية.
المادة الرابعة:
فليكن مفهوما فوق ما تقدم أنه سواء كان في الحالة الأولى أو في الحالة الثانية، فإن محمد علي يسلم قبل انقضاء العشرة الأيام أو العشرين يوما الأسطول التركي وعساكره وسلاحه للمندوب الذي يعين لاستلامه، ويشهد قومندانو أساطيل الحلفاء هذا التسليم.
وليكن مفهوما أن محمد علي لا يستطيع بحال من الأحوال أن يدخل في الحساب أو يخصم من الإتاوة التي يدفعها للسلطان النفقات التي أنفقها على الأسطول العثماني مدة إقامته في الموانئ المصرية.
المادة الخامسة:
أن جميع المعاهدات والقوانين في السلطنة العثمانية تنفذ في مصر وباشاوية عكا المشار إليها آنفا.
ولكن السلطان يرضى - على شرط دفع الإتاوات - بأن يحصل محمد علي وخلفاؤه باسم السلطان وكمندوب معه في الأملاك التي يتولى إدارتها، الضرائب والرسوم المقررة شرعا، ومن هذه الضرائب والرسوم يدفعون النفقات الملكية والعسكرية في تلك الأملاك.
المادة السادسة:
القوات البحرية والبرية التي ينظمها باشا مصر وعكا تعد شطرا من قوات السلطنة وتعتبر دائما كأنها معدة لخدمة الدولة.
المادة السابعة:
إذا لم يقبل محمد علي في مدى عشرة أيام أو عشرين يوما - كما جاء في المادة الثانية - المنح المعروضة عليه، فإن السلطان يكون حرا بسحب هذه المنح وباتباع الخطة التي توحي بها مصالحه طبقا للنصائح التي يسديها إليه حلفاؤه. ا.ه.
وبعد الاتفاق على ذلك كله أبرم الحلفاء بينهم اتفاقا آخر بتنزههم جميعا عن كل ربح أو مغنم.
وفي 14 أغسطس وصل رفعت بك مندوب السلطان إلى الإسكندرية ليبلغ محمد علي قرار السلطان والدول، فكانت أول كلمة نطق بها عند سماع البلاغ: «إن ما أخذته بالسيف لا أسلمه بغير السيف.» وفي اليوم التالي قابله قناصل الدول المتحالفة وبلغوه قرار الدول رسميا واستمهلوه عشرة أيام، فطلب منهم أن يبلغوه ذلك كتابة ففعلوا، وأبلغوه فوق ما تقدم أن فرنسا لا تستطيع مساعدته، وأن الدول مصممة على تنفيذ قرارها وإن أفضى ذلك إلى حرب أوروبية. فأجابهم: إن ما بيدي هو حقي ولا أتنازل عنه حتى آخر رمق من حياتي.
وفي 24 أغسطس - وهو آخر الموعد الذي أعطي له - عاد مندوب السلطان ومعه قناصل الدول الأربع، فأبلغوه أنه لم يبق له حق في ولاية باشاوية عكا؛ لأنه لم يقبلها في الأيام العشرة الأولى، وأن الدول لا تسمح له إلا بولاية مصر كما جاء في قرارها وعهدها. فاحتدم محمد علي غضبا وطردهم من حضرته، وقال لهم: كيف أسمح لكم بأن تقيموا في بلادي وأنتم وكلاء أعدائي؟! فانصرفوا وقد أعطوه مهلة عشرة أيام أخرى لإعطاء جوابه، فإن لم يفعل تكون الدول المتحالفة غير مسئولة عن النتائج.
وفي 9 سبتمبر وصل الأميرال ستويفورد القائد العام لقوات الحلفاء إلى بيروت، وكانت قوات الحلفاء هناك عشرين سفينة إنكليزية وثلاث سفن نمساوية وثلاث سفن عثمانية، بقيادة القبطان الإنكليزي ووكر، المعروف في تركيا باسم ياور باشا. وكانت قواتهم البرية 3300 تركي و1500 إنكليزي و100 نمساوي، وهي جميعا بقيادة الجنرال سميث.
وكانت القوات المصرية في سوريا 80 ألفا، منها 15 ألفا في سواحل بيروت وثلاثة آلاف في سواحل صيدا و5 آلاف في طرابلس وعشرة آلاف في بعلبك والخمسون ألفا في جهات حدود الأناضول وسواها من أنحاء سوريا. •••
قابل الرأي العام في مصر إنذار الدول لمحمد علي بالسخط، فازداد إقبال الشبان على التطوع بالحرس الوطني، واندفع شيوخ الدين يقبحون عمل أوروبا. وطربت إستامبول لهذا النبأ، وغضب الرأي العام الفرنساوي والنمساوي، وانشق الرأي العام الإنكليزي؛ لأن تجارهم جنوا الربح من وراء إدارة محمد علي في مصر وسوريا وبلاد العرب، ورأى فريق آخر أن العمل الذي أقدم عليه بالمرستون عمل ظالم، ولكن رجال الاستعمار كان يهولهم شبح الإمبراطورية المصرية قائمة على أقوى القواعد وأمتن الأسس الحديثة. فإدارة ثماني سنين في سوريا وأدنه ضاعفت حاصلاتها ومتاجرها أربعة أضعاف، وإدارة البلاد العربية 25 عاما وطدت الأمن وبثت روح التعمير في اليمن وسواها حتى سواحل الخليج الفارسي، وإدارة جزيرة كريد نظمت شئونها ووطدت الأمن وزادت حاصلاتها. وكان الاقتصاديون، حتى القناصل، يصيحون من كل جانب بأن إعادة هذه البلاد إلى تركيا مآله إعادتها إلى الدمار. وإذا كان هناك أخطاء في إدارة إبراهيم ومحمد علي، فهو واقع على الموظفين الذين كانت تدفعهم المطامع لارتكاب الظلم الذي جعل الثورة اللبنانية تكأة للدول الأربع المتحالفة يتكئون عليها لإنجاح مقاصدهم؛ لأن اللبنانين الذين كانوا خاضعين لأمرائهم والذين أمدوا جيش إبراهيم بقوة كبيرة، كانوا يأبون الخضوع لغير أمرائهم ودفع الضرائب لسواهم.
والذي زاد في حرج الموقف خطأ السياسة الفرنساوية قبل اتفاق كوتاهيه وبعده، حتى ميثاق الدول الأربع في 15 يوليو دون اشتراك فرنسا، فقد كانت تحض محمد علي على القتال وتعده بلسان مندوبها الجديد «والوسكي» بالمساعدة. ولكن هذه المساعدة ظهرت بأن يطلب محمد علي حماية فرنسا، وبأن يقف موقف الدفاع، وبأن يواري سفنه الحربية، فلا يجعلها عرضة لنيران الأسطول الإنكليزي. وكان رأي إبراهيم باشا أن يحتفظ والده بصداقة فرنسا حتى يوازن القوة الأخرى التي تؤيد إستامبول، وكان محمد علي يكرر أثناء ذلك أوامره إلى إبراهيم بأن يلزم مكانه ولا يتجاوز جبال طوروس. أما بالمرستون روح المحالفة الأوروبية، فإنه كان يهدد فرنسا إذا هي أقدمت على مساعدة محمد علي بالقوة والمال، بأن يستولي على أساطيلها ومستعمراتها، وبأن يطلق يد النمسا وبروسيا في حدودها. وأراد ليوبولد ملك بلجيكا التوسط بين فرنسا وإنكلترا، فلم يفلح. وفي 17 سبتمبر أرسل تيرس إلى غيزو سفير فرنسا في لندن أن محمد علي سمع نصح فرنسا وتنازل عن كثير من مطالبه، فهو يترك للسلطان كريد والمدينتين المقدستين، ويكتفي بحكم الوراثة في مصر وبحكم سوريا مدى حياته. ولكن بالمرستون أخذ يماطل ويعد القبول باقتراح تيرس مذلة للدول الأربع، وكان في الوقت ذاته يحث على القتال والضرب. •••
وبينما الأسطول الإنكليزي واقف في بيروت، وصلت إحدى السفن من مصر، فأمر الأميرال نابييه بتفتيش ما فيها، فوجدوا كتابا من بوغوص بك وكيل خارجية محمد علي إلى سليمان باشا، يؤكد له فيه أن فرنسا ستساعد محمد علي بالجنود، وأنها ستستدعي قنصلها مورا من بيروت؛ لأنه كان يساعد الثوار اللبنانيين، وأن قناصل الدول المتحالفة تنوي أن تذيع في سوريا ترجمة العهد المبرم بين الدول الأربع تشديدا لعزم الثوار مع إرسال الجنود والذخائر وإبلاغ الأمير بشير إزالة حكم محمد علي، وأن محمد علي أبى الرضوخ لإنذار الدول ... إلخ.
كل هذا وأمثاله دعا الإنكليز إلى التعجيل بما كانوا يضمرونه، فقرر الأميرال روبرت ستوفورد القائد العام لقوات الحلفاء في سوريا بأن يبدأ بالأعمال الحربية بالنزول في جونيه؛ ليتصل باللبنانيين ويوزع عليهم الأسلحة ويقطع الاتصال بين الحاميتين المصريتين في بيروت وطرابلس. وفي 10 سبتمبر قام الأسطول الإنكليزي بمظاهرة أمام بيروت، ثم لم تلبث السفن أن اتجهت إلى جونيه وأنزلت الجنود هناك. وكان الأمير بشير قد أرسل حفيديه إلى هناك، وحرم على الأهالي الاتصال بالإفرنج، وهدد من فعل منهم بالقتل، فوقع أمر الأمير بشير في يد أحد الدعاة الإنكليز، فأرسله إلى الأمير، وأخذ الأهالي يفدون على جونيه لاستلام السلاح، وهو السلاح المحفوظ عندهم حتى الآن. وهم يطلقون على البندقية المصرية اسم البرهومية نسبة إلى إبراهيم، وعلى البنادق الإنكليزية «إنكليزية»، والنمساوية نمساوية، والمجرية «مجرية»، وهي أفضل البنادق في نظرهم. وكان عثمان باشا يحتل كسروان بثمانية آلاف مقاتل، فلم يتعرض للأساطيل التي أنزلت الجنود إلى البر ومعها سليم باشا قائد السفن التركية، فاحتلوا ميناء جونيه. وأرسل الأميرال الإنكليزي مركبين إلى نهر الكلب لهدم الطريق حتى لا يمر بها جيش إبراهيم باشا. وذهب ريتشردوود الإنكليزي المستشرق وأكبر دعاة الثورة إلى غزير ومعه 500 جندي، ففر من وجهه الأمير عبد الله الشهابي، وفي اليوم الثاني سلم هذا الأمير وهو ابن أخي الأمير بشير، فعدوا تسليمه أمرا كبيرا. وكان إبراهيم باشا إبان ذلك يطارد الثوار في جبال كسروان والمتن ويحرق قراهم، ولكن عساكر الحلفاء كانت تثبت أقدامها في السواحل. وفي 11 سبتمبر أرسل قائدا الأسطولين الإنكليزي والنمساوي إلى سليمان باشا أن يسلمهما بيروت، فلم يجب، فأخذت مراكبهما بإطلاق القنابل على المدينة والأبراج، فاحتج سليمان باشا عليهما احتجاجا شديدا؛ لأن قنابلهما أصابت النساء والأطفال والمستشفى، وكان عليهما أن يطلبا تسليم المدينة قبل ضربها من إبراهيم باشا أو محمد علي باشا. أما هو فمأمور بالدفاع عنها فقط، ثم أمر جيشه بالارتداد إلى الحازمية في ضواحي بيروت.
وفي 12 و13 سبتمبر هاجم أسطول الحلفاء قلعة جبيل وحاول إنزال الجنود، فردتهم الحامية، ولكن الثوار اللبنانيين دخلوا القلعة ليلا، فانسحبت منها الحامية، وفي الصباح سلمها اللبنانيون لعساكر الحلفاء. ومن جبيل تقدم الحلفاء إلى البترون، وكان السلطان قد ولى عزت باشا ولاية سوريا، بعدما أفتى مشايخ إستامبول بخلع محمد علي من الحكم والولاية كلها، فنزل في جونيه وأرسل إلى أبو سمرا علم من زعماء الثوار ليحضر إليه من جنوب لبنان ويتسلم منه السلاح، فوصل ومعه 500 نفر، فسلمه خمسة آلاف بندقية، فتوجه بها إلى بلاد جبيل والبترون، حيث اجتمع عليه نحو أربعة آلاف رجل زحف بهم على الأمير مجيد الشهابي في جهة اليمونة في أعالي لبنان، فارتد الأمير إلى الجيش المصري في عيناتا وأبو سمرا يتعقبه، إلى أن اشتبك بمعركة مع الجيش. وفي الليل دهمه الجنود المصريون، فارتد إلى جهة بشرى، حيث جمع الرجال واستأنف القتال مع الجيش، فكسره وأكرهه على الارتداد إلى بعلبك. وكان المستر ريتشردوود قد وصل مع الثوار إلى جهة الدامور وصيدا، فاستولى الحلفاء عليهما بمعاونتهم.
ولما كانت صيدا مركز الحاكم وفيها حامية قوية، وجهوا إليها ثمانية مراكب حربية ضربتها ضربا شديدا وقاتلت حاميتها قتال المستميت، إلى أن قتل قائدها حسن بك وعدد كبير من رجالها، وبلغت خسائر الهاجمين نحو أربعة آلاف. فلما وصل خبر سقوطها إلى إبراهيم باشا كبر عليه الأمر، وأرسل إلى الأمير بشير ليوافيه إلى بعلبك، حيث عقد مجلس من الأمير وشريف باشا وبحري بك، وكان رأي الأمير بشير أن يرجع السلاح إلى اللبنانين، فلم يقر إبراهيم باشا هذا الرأي، فظهر على الأمير بشير الوهن والضعف. وذهب ابن عمه الأمير بشير قاسم إلى معسكر الحلفاء في جونيه، وانضم إليهم، فأرسله قواد الحلفاء لقيادة الثوار الذين يقاتلون عثمان باشا في ميروبا، وأرسلوا إلى الأمير بشير ينذرونه ويعدونه بولاية لبنان بالوراثة في ذريته إذا هو سلم قبل مرور ثمانية أيام. فأجاب بعدم التسليم، معتذرا بأن أولاده وأحفاده في عسكر إبراهيم باشا. ولما انقضت الأيام الثمانية ولوا الأمير بشير قاسم على جبل لبنان، فسار هذا الأمير لقتال عثمان باشا، وكان قد صدر إلى هذا أمر إبراهيم باشا بالانسحاب من جبل كسروان إلى بعلبك، فسار الأمير بشير قاسم في أثر عثمان باشا وأخذ من جيشه ثلاثمائة أسير.
وكان الحلفاء قد عزموا على مهاجمة جيش سليمان باشا من البر والبحر، فأدرك سليمان باشا الخطر، فأجلى عن بيروت في ليل 9 أكتوبر، وسار جنود الحلفاء إلى مقاتلة إبراهيم باشا في بحر صاف ومعه ثلاثة آلاف مقاتل، فردهم على أعقابهم. فطلب الأميرال نابييه من الأمير بشير قاسم الأمير الجديد على لبنان بأمر الحلفاء أن يقدم برجاله إلى مؤخرة إبراهيم باشا ليهاجمه هو من الأمام. فزحف الأمير برجاله، وحال دون وصول فرقتين مددا لإبراهيم باشا. وكانت معركة بحر صاف معركة شديدة، أسر فيها الحلفاء من جيش إبراهيم 700 أسير بمعاونة الأمراء اللبنانيين، وارتد إبراهيم باشا إلى البقاع. وفي 11 أكتوبر سلمت الحامية المصرية الباقية في بيروت.
ولما رأى الأمير بشير ما حل بالجيش المصري وعدم قبول رأيه وتعيين ابن عمه أميرا على لبنان مكانه وقد انفض عنه اللبنانيون وانضموا إلى الحلفاء، قال لبحري بك : «قم واذهب إلى إبراهيم باشا، وقل له: لم تبق أقل فائدة، فالبلاد صارت الآن كلها صوتا واحدا.» وفي 11 أكتوبر غادر الأمير بشير مقره في بتدين، بعد أن استدعى أحفاده من محافظة البلاد وابنه من جيش إبراهيم باشا، ونهض إلى صيدا ومعه أولاده الثلاثة وزوجه وحفيده الأمير سعد، وأبلغ خالد باشا متسلم صيدا أنه أتى إليه مستسلما، فأمر خالد باشا أن تصطف العساكر بموسيقاها لاستقباله، وأن تؤدى له التحية. وقابله بالإجلال والاحترام، وطلب منه قواد الحلفاء في صيدا أن يتوجه إلى بيروت، وأعدوا سفينة بخارية لركوبه، فركبها إلى بيروت مع ابنه الأمير أمين وحفيده الأمير محمود. ولما وصل إلى بيروت أبلغه عزت باشا الذي عين واليا على سوريا أن يختار لنفسه محل الإقامة ما عدا مصر وفرنسا وسوريا، فاختار جزيرة مالطة، فوافق قواد الحلفاء على طلبه ووعدوه بتأمين أحفاده وأولاده. وفي 16 أكتوبر ركب الأمير بشير - الذي كان يعرف بالأمير بشير عمر الثاني - الباخرة الإنكليزية من صيدا ومعه زوجه وأولاده وزوجة ولده الأمير قاسم وحفدته الخمسة أولاد الأمير خليل وحفيده الأمير رشيد وسكرتيره بطرس كرامة ونحو سبعين رجلا من أتباعه وخدمه، وأقلعت بهم الباخرة إلى مالطة، وهكذا انتهت إمارته بعد حكم طويل المدى كثير الحوادث والأطوار.
وبعد تسليم الأمير بشير انسحبت الحاميات المصرية من طرابلس واللاذقية وأدنه بدون قتال، ولم يبق من مدن السواحل في أيدي المصريين سوى عكا.
الفصل الرابع عشر
موقف فرنسا.
الأسطول الإنكليزي يدك حصون عكا.
خسارة المصريين.
اتفاق نابييه ومحمد علي.
انسحاب الجيش المصري. ***
يصور لنا الوزير الفرنساوي الشهير فرسينه الحالة بعد ضرب بيروت والسواحل السورية في كتابه «المسألة المصرية» بقوله: إن الحالة تطورت بسرعة فوق سرعة تبادل الآراء بين فرنسا وإنكلترا؛ فالأسطول الإنكليزي - جريا على عادته بالمباغتة - ضرب بيروت في 11 سبتمبر وأنزل فيها الجنود التركية المعدة للعمل في سوريا. والسلطان نفذ بكل شدة أحكام الفصل الملحق بعهد الدول الأربع، فأسقط في 14 سبتمبر من الحكم محمد علي، وولى عزت محمد باشا خلفا له. ووصلت هذه الأخبار إلى باريس في 2 أكتوبر، فأحدثت تأثيرا كبيرا. فاجتمع مجلس الوزراء اجتماعا فوق العادة، ووكل إلى المسيو غيزو في 8 أكتوبر أن يقدم مذكرة إلى اللورد بالمرستون بعبارات موزونة ولكنها حازمة. وختام هذه المذكرة يشعر بأن في القضية سببا للعداء، وذلك بقولهم: «وإنا مستعدون لأن نشترك بكل تسوية مقبولة يكون أساسها بقاء السلطان وبقاء محمد علي. وفرنسا تكتفي بأن تعلن الآن بأنها لا تستطيع أن ترضى من جانبها بتنفيذ حكم خلع محمد علي الصادر من إستامبول.»
ولما وصلت هذه المذكرة إلى لندن، شعرت حكومتها بأنها أغرقت في التطرف، فأرسل اللورد بالمرستون في 15 أكتوبر إلى اللورد بونسوبي سفير إنكلترا في الآستانة «بأن من المستحسن أن يوصي سفراء الدول الأربع المتحالفة عظمة السلطان بكل إلحاح، بأنه إذا أظهر محمد علي في الحال خضوعه لعظمته وتعهد بأن يعيد الأسطول التركي وبأن يسحب جنوده من سوريا كلها وأدنه وكريد ومن المدينتين المقدستين، فإن السلطان من جانبه لا يكتفي بإعادة محمد علي واليا على مصر، ولكنه يمنحه الولاية بالتوارث في بيته.»
ولكن هذه الترضية لم يجدها الرأي العام الفرنساوي كافية؛ لما كان عليه من الهياج والسخط لمحمد علي، ولأنه كان بعد ميثاق الدول الأربع في 11 يوليو متألبا على فرنسا، وذلك هو السبب الذي دعا حكومة الملك فيليب لأن تعد معدات الحرب والقتال، فزادت سفنها الحربية واستعدت لحمل السلاح مرتبتين من مراتب الجيش المستحفظ، وطلبت فتح اعتماد ب 108 ملايين فرنك على أن يطلب من مجلس النواب الموافقة عليه عند اجتماعه.
ولكن الحكومة الفرنساوية مع إرضائها الرأي العام بالتذرع بهذه الوسائل استدعت الأسطول من مياه الشرق؛ لأنه هناك «مادة قابلة للالتهاب»، وحشدت هذا الأسطول في طولون ليكون على قدم الاستعداد للسفر إلى الإسكندرية إذا ما هاجم الحلفاء تلك المدينة. ولكن هذا العمل الذي يجمع بين حسن السياسة وحسن الخطة الحربية وصف بأنه «الفرار» من وجه الإنكليز كما وصف بأنه «ترك» سوريا، وبين هذه الآراء المتناقضة أو بين اختلاط الحابل بالنابل، دعي مجلس النواب للاجتماع في 28 أكتوبر. ويقول المسيو غيزو: ظهرت وقتئذ وتجلت الأخطاء التي ارتكبتها السياسة الفرنساوية منذ ظهور المسألة المصرية؛ لأنا لم نجد في ظرف من الظروف أو في حالة من الحالات موقفا معينا، وكنا دائما موزعين بين العاطفة والعقل، فنحن جعلنا مسألة محمد علي مسألتنا دون أن نبين لذلك حدودا تكون ضمنها وداخلها حمايتنا. وتملكتنا الذكرى فنسينا الضرورات القائمة. وبين تلك الهالة الرائعة من المجد الذي كنا نضفره لمحمد علي، لم ننظر نظرة صادقة إلى مقدريه على مخالفة إدارة أوروبا. ففي إبان المفاوضات صممنا على أن نعطي له الترضية كاملة تامة، ولم ننظر إلى ما كان ممكنا أن يكون لو رفضت هذه الترضية، وتناسينا أن المزاحمين العديدين لا يسمحون بأن يكون لنا التفوق في مصر وسوريا، وأن نتحكم بمصير الشطر الأكبر من أملاك السلطنة التركية. وما رفضت إنكلترا أن تقبله من روسيا لم يكن بالإمكان أن تقبله وترضاه من فرنسا، فلما انقضى عهد الأحلام بات من اللازم النظر إلى الحقائق وجها لوجه واتخاذ موقف نهائي، فإما إلى الحرب وإما إلى التقهقر، وكلا الموقفين صعب عسير. •••
أما قوات الحلفاء في سواحل سوريا، فلم يبق أمامها في تلك السواحل سوى حصن عكا فقط، فأصدرت إنكلترا أوامرها إلى الأميرال روبرت ستونفورد في أواخر أكتوبر بمهاجمة هذا الحصن، فجمع القوات البرية البحرية لهذا الغرض، وتقدم عمر بك قائد قوة صيدا إلى رأس الناقورة بألفي مقاتل، وذهب سليم بك بثلاثة آلاف مقاتل بحرا من بيروت، ما عدا توابير الشغالة والهندسة. وفي 2 نوفمبر اجتمعت القوات البرية والبحرية حول ذلك الحصن، وكان أسطول القتال مؤلفا من إحدى وعشرين سفينة حربية، ولم تكن حامية عكا تزيد على خمسة آلاف.
وفي الساعة الثامنة بعد ظهر 3 نوفمبر وجهت السفن الحربية مدافعها إلى تلك المدينة، وظلت النيران تصب من فوهات 470 مدفعا، حتى خيم الظلام والحامية تدافع دفاعا مجيدا، وكانت المنطقة التي تنصب عليها نيران المدافع لا تزيد على 1500 قدم عرضا، ولا على 3300 قدم طولا. ورووا أن مركبا واحدا من مراكب الإنكليز أحرق في إلقاء القذائف النارية على عكا 160 برميلا من البارود.
وكان من الذين تولوا تحصين عكا بأمر محمد علي أحد المهندسين الطليان. فقبل أن يبدأ الأسطول بضرب الحصن لجأ هذا المهندس إلى الأسطول الإنكليزي وسلمه خريطة الحصن، فكان الأسطول يضرب نيرانه إلى المكان الحيوي منه، إلى أن تمكن من إصابة مخازن الذخيرة، وكانت مخازن كبيرة جدا فانفجرت انفجارا ارتجت له الأرض في تلك البلاد، وسمع دويه إلى أقصى جهات سوريا وفلسطين، وهلك بذلك الانفجار 1500 جندي من الحامية، ودمرت الحصون والأبنية، ولم يبق أمام الحامية إلا الخروج؛ لأن المدينة تحولت إلى قطعة من جهنم، حتى قال أحد الشعراء:
قالوا بأن جهنما تحت الثرى
ما لي أراها فوق عكة تضرم
لو لم تكن دار الشقاوة عكة
ما أمطرتها بالشرار جهنم
وانجلت هذه المعركة عن ألفي قتيل وجريح من الحامية المصرية في تلك المدينة، وعن ثلاثة آلاف أسير. وبين الأسرى رئيس المهندسين يوسف أغا، وهو رجل بولوني كان اسمه الأصلي الكولونيل سولتز، وبعد الاستيلاء على هذا الحصن أقام الأميرال الإنكليزي فيها حامية تركية عددها ثلاثة آلاف رجل، وحامية صغيرة أوروبية عددها 250 رجلا، وأبقى في مائها سفينتين حربيتين، وأخذوا بالتحصين والامتناع فيها؛ لأنهم كانوا يخافون هجوم إبراهيم على السواحل في فصل الشتاء لاستخلاصها من أيديهم عندما تصبح الأساطيل عاجزة عن القتال وعن مقاومته.
وبعد الاستيلاء على عكا اتجه أسطول الحلفاء إلى يافا واستلمها بلا قتال.
ولتخوف الإنكليز من حلول فصل الشتاء قبل إنهاء المسألة، أرسلوا الأميرال نابييه إلى مياه الإسكندرية بأسطول كبير ليضغط على محمد علي، فوصل هذا الأسطول في 21 نوفمبر يقود ست سفن كبيرة. وفي يوم 22 وجه رسالة إلى بوغوص بك وكيل خارجية محمد علي يقول فيها: «إن إسكندرية ليست أمنع من عكا، وإن الفرصة سانحة لمحمد علي أن يؤلف إمارته وحكم الوراثة في أسرته.» فرد عليه بوغوص بأن تبعة الحرب في سواحل سوريا لا تقع على محمد علي، بل هي تقع على الحلفاء الذين أرسلوا إليه بلاغهم باسم السلطان. فرد عليه بأنه خاضع للسلطان، وبأنه يسلم بأن يكون حكم مصر له ولسلالته من بعده كما عرضوا عليه، ولكنه التمس في الوقت ذاته من السلطان أن يمنحه حكم سوريا مدى حياته، وأن يضيف إلى منحته الأولى المنحة الثانية؛ لاعتقاده بأن سوريا إذا ظلت تحت إدارته تدر الخير والبركة على السلطنة. فبدلا من الرد على هذا الطلب، قابلوه بحكم الخلع من الحكم وبالعدوان في كل جهة، فغنم نابييه فرصة هذا الجواب لفتح باب المفاوضة بالصلح والاتفاق مع محمد علي؛ لأنه وجد في لهجة الجواب ميلا صحيحا إلى الاتفاق. وقد كان الأميرال نابييه من الإنكليز المعجبين بمحمد علي والمعترفين بحسن إدارته، فوضع نصب عينيه الوصول إلى الاتفاق معه، معتمدا - في مؤازرته - على جماعة كبيرة من الإنكليز كانوا يقولون باكتساب صداقة مصر المستقلة، بدلا من إعادة مصر لحكم الباب العالي، وبدلا من جعلها مستعمرة إنكليزية تكون عبئا على عاتق إنكلترا، فضلا عن أن مصر تخرج بهذه الطريقة من يد فرنسا وترتمي في حضن إنكلترا.
على هذه القاعدة بدأ الأميرال نابييه مفاوضاته مع محمد علي، وعلى هذه القاعدة توصل إلى الاتفاق المعروف باتفاق 27 نوفمبر دون استشارة رئيسه الذي كان يقاوم ذلك كل المقاومة، واتفاق 27 نوفمبر هو الذي يجعل حكم مصر والسودان وراثيا في بيت محمد علي. •••
بعد استيلاء الحلفاء على سواحل سوريا بمعاونة الثوار في لبنان، وبعد تنازل الأمير بشير عن الحكم وانضمام خلفه إلى الحلفاء، ظل ماثلا أمام عيونهم شبح الفشل: (1) من قوة إبراهيم التي حشدها كلها بين لبنان ودمشق، وهي لا تقل عن 50 ألفا. (2) مذكرة فرنسا إلى الحلفاء في 8 أكتوبر بأنها تعتبر حرمان محمد علي من ثمرة انتصاراته والإقدام على تنفيذ قرار السلطان بعزله مدعاة للحرب. (3) قرب فصل الشتاء واضطرار الأساطيل إلى الانسحاب من مياه سوريا ومصر. (4) ظهور الانقسام في دول الحلفاء مخافة أن تقع الحرب في أوروبا ويقع حملها على النمسا وبروسيا وحدهما، خدمة لمآرب إنكلترا التى تريد الاستيلاء على مصر. (5) اشتداد ميل الرأي العام في أوروبا كلها نحو محمد علي وإبراهيم، واستنكار معاملتهما بذلك الظلم الصارخ. لذلك كان مشروع فرنسا وتنفيذه هو وحده المنقذ من ذلك الموقف المحفوف بالخطر، وهذا المشروع هو الذي يبقي على السلطان وحكمه، بالرغم من انهيار ملكه، لحفظ التوازن في أوروبا، ويبقي على محمد علي وحكمه بمصر في سلالته؛ لأنه اكتسب ذلك بباعه وذراعه، ولأن حكمه حكم إصلاح وتقدم ورقي على أحدث الأساليب ومبادئ الحضارة.
أما محمد علي، فقد كان يقضي عليه بقبول ما ارتأته فرنسا وترك سوريا: (1) خروج حليفه هناك الأمير بشير من الميدان وظهور الأمير بشير قاسم الذي ولته الدول بمظهر العداء. (2) حرمان جيشه من السواحل كلها حتى تعذرت المواصلات مع ابنه إبراهيم. (3) قلة الأموال حتى تأخرت رواتب الجنود أكثر من سنة ولم يجد في فرنسا من يمد إليه يد المساعدة. (4) تعب الجيش والأمة من حروب لا تنتهي منذ ثماني سنين. (5) اعتبار الدول الأربع - المتحالفة مع تركيا خامستهم - أن كرامتها جميعا معلقة على تنفيذ الإنذار الذي أوحته إلى السلطان.
فهذه العوامل كلها حملت الإنكليز وحلفاءهم على أن يرحبوا فرحين باتفاق 27 نوفمبر؛ أي اتفاق نابيير، ومحمد علي، بأن محمد علي يرضى بأن يخرج من المعمعة مكتفيا بحكم مصر في سلالته بعده. وحملت محمد علي على أن يرضى بذلك الحل الذي كان يرفضه ويأباه.
ولكن اتفاق نابيير ومحمد علي كان غامضا مبهما، وخلاصته «أن الدول الأربع المتحالفة تبذل كل مجهودها لدى السلطان ليمنح محمد علي وذريته بعده حكم مصر بالوراثة، وأن محمد علي يبادر بطلب العفو من السلطان، ويعلن استعداده لإرجاع الأسطول العثماني وسحب جنوده من سوريا والبلاد العربية، وأنه يفوض مستقبله للمراحم السلطانية.»
وقد عرفنا أن السلطان استصدر فتوى العلماء بخلع محمد علي من الحكم في 15 أكتوبر، وأعلن تعيين عزت محمد باشا خلفا له في حكم مصر وسوريا، وذلك بموافقة الحلفاء بعد انقضاء مهلة العشرين يوما التي أعطيت له.
فإصرار محمد علي «على أن لا يعيد بغير السيف ما أخذه بالسيف»، هو الإعلان الذي انتصر وفاز؛ لأنه ألغى وأبطل الحكم الذي صدر بخلعه وعزله، كما أن موافقة الحكومة الإنكليزية على اتفاق نابيير قضى على عناد سفيرها في الآستانة اللورد بونسوبي الذي حاول مرارا وتكرارا إنكار ذلك الاتفاق، وحمل السلطان على رفضه جريا على سياسة بالمرستون وزير الخارجية.
ولما وافق محمد علي على اتفاق نابيير، نشر في البلاد منشورا عاما وجهه إلى الحكام والعلماء والذوات، قال فيه:
إنه حضر إلى ميناء الإسكندرية جناب الأميرال نابيير قائد السفن الحربية الإنكليزية بالبحر الأبيض، وعرض لنا اتفاق دول أوروبا بإجابة طلبة مصر لنا بطريق التوارث، وبذلك صار حسم مادة سفك دماء المسلمين، وصدر الأمر للسر عسكر وكافة القواد بترك الشام والإذن بحضورهم لمصر بالجيوش التي يبلغ عددها 70 ألفا.
ثم أذيع في الأمة منشور آخر عمومي، هذا نصه:
إن العوارض تعرض للعالم منذ بدء الخليقة إلى اليوم، والحروب تتقد بين الأمم لأسباب وعوامل لا تدركها العقول، دون أن يظهر من وراء ذلك أمارات السلم والسلام واستتباب الراحة. وظل روح العدوان ساريا حتى الآن، ولكنه حضر إلى ميناء الإسكندرية قائد السفن الحربية الإنكليزية بالبحر الأبيض الأميرال نابيير، وعرض علينا وقوع الاتفاق بين دول أوروبا على إحالة حكم مصر بطريق التوارث إلى ولي النعم محمد علي باشا، وبذلك صار حسم مادة سفك دماء المسلمين الأمر الذي ترتاح إليه النفوس. وبناء على ما تقدم أعطيت الأوامر لدولة سر عسكر الجيش المصري ولكافة القواد بترك ولاية الشام وأدنه والرجوع بالجيوش إلى مصر، وصار نشر ذلك إعلانا للسرور.
وأصدر محمد علي بعد ذلك أمرا بإعداد منزل لنزول الأميرال نابييه، وأن يكون في ضيافته مع تعيين مهمندار له.
ولما وصل الاتفاق إلى إستامبول حاول سفير إنكلترا إحباطه، وانقاد إليه الباب العالي، ولكن سفراء النمسا وروسيا وبروسيا ألحوا بوجوب تنفيذه. وفي 10 يناير 1841 قدموا للباب العالي النصيحة بأن يمنح محمد علي حكم مصر بالتوارث في ذريته، فماطل الباب العالي وسوف، واضطرهم إلى أن يقدموا له مذكرة رسمية في 30 يناير قالوا فيها:
إن الدولة تطلب من عظمة السلطان أن يظهر بمظهر السماحة نحو محمد علي، لا لإبطال قرار خلعه من الحكم فقط، بل بالوعد فوق ذلك بأن يكون خلفاؤه في الحكم من سلالته من الذكور على التوالي كلما خلا منصب الحكم بوفاة الحاكم.
والدول الأربع التي تبذل نصيحتها للباب العالي بأن يمنح محمد علي هذه المنحة لا تبدي رأيا جديدا، بل هي تذكر فقط عظمة السلطان بالنيات التي أعرب عنها من تلقاء نفسه عند بدء الأزمة الشرقية، وهي النيات التي كانت أساسا لاتفاق 15 يونيو سنة 1840.
وفوق ما تقدم، أن الدول الأربع ببذلها النصيحة للباب العالي وبتكرارها النصيحة بهذه المذكرة، تعتقد بأنها لا تنصحه بأن يعمل ما يخالف حقوق السيادة أو سلطة السلطان الشرعية، ولا اتخاذ وسائل مخالفة لواجبات باشا مصر كتابع لعظمة السلطان يدعوه عظمته لأن يحكم باسمه إحدى ولايات السلطنة. وهذه الحقيقة ليست مثبتة فقط بالمواد 3 و5 و6 من الفصل المفرد الملحق باتفاق 15 يوليو، بل هي مثبتة أيضا بتعليمات الدول إلى سفرائهم في إستامبول عقيب مباحثات 15 أكتوبر. وفي الواقع أنه منصوص في الميثاق المشار إليه أن جميع المعاهدات وجميع قوانين السلطنة العثمانية الحاضرة والمستقبلة تنفذ في باشاوية مصر كما تنفذ في الولايات العثمانية الأخرى.
وهذا الشرط الذي تعتبره الدول الأربع لازما لا مندوحة عنه، هو في نظرهم الصلة الوثيقة التي تربط مصر بتركيا وتبقيها شطرا منها غير منفصل عنها. وفي الفقرة السادسة من الميثاق ذاته أن القوات البرية والبحرية التي تؤلفها مصر والتى تكون شطرا من قوات السلطنة، يجب أن تحسب معدة للخدمة العامة. ا.ه.
فهذه المذكرة التي جعلت مسألة مصر دولية، اضطرت الباب العالي أن يصدر في 13 فبراير فرمانا يبسط المبادئ الواردة في هذه المذكرة ويؤيدها.
أما إبراهيم باشا، فإنه رأى بعد سفر الأمير بشير من لبنان وحلول أمير آخر محله، وقد جمع أربعة آلاف رجل لمقاتلة جيشه وقطع مواصلاته، أمر قواده بالانسحاب من أنحاء لبنان إلى زحلة والرياق، فاجتمع من ذلك الجيش نحو 15 ألفا، وأرسل المرضى والعاجزين عن القتال إلى دمشق، ووقف الأمير بشير قاسم ورجاله في حمانا إلى أن يرسل الحلفاء إليه النجدات والسلاح، مخافة أن ينقلب جيش إبراهيم باشا لسحقه وتبديد شمل رجاله. ولكن جيش إبراهيم لم يكن يرغب ذلك بعدما انتهى من قتال الثوار في كسروان والمتن والقاطع، وأحرق في مروره بكسروان بقعاتا وميروبا ووطا الجوز وحراجل وفاريا وفيترون، وأحرق في المتن عين علق وبيت شباب. ولم يتعرض لقرية بكفيا؛ لأن الشيخ حردان الجميل وفياض علوان من مشائخ بكفيا قصدا إليه وهو في المروج، فعرضا عليه خضوع أهل بلدتهم، فأمر بالعفو عن بكفيا.
وتدل جميع الظواهر على أن انكفاف إبراهيم باشا عن لبنان وعدم تعرضه للحلفاء في السواحل وتركهم وشأنهم، كان يقصد منه تدبير الجلاء عن سوريا؛ لأنه قبل وصول والده إلى الاتفاق مع الأميرال نابيير وقبل وصول أمر والده إليه بالجلاء جمع جيشه في دمشق، وأخذ يعد الأهبة لذلك دون أن يتعرض لفشل الانكسار أو لقطع مواصلاته. ونقص جيش إبراهيم في لبنان وسواحله عشرة آلاف مقاتل، وظل الجيش وهو ينسحب من شمالي سوريا إلى دمشق حافظا على نظامه كل المحافظة، ونظم إبراهيم في كل بلدة أخلاها وجهة أجلى عنها جيشه وعماله، وجعل الحكم بيد أحد أبنائها، ولم يتعرض الجيش إلا للمعرة؛ لأن أهلها أبوا أن يعطوه حاجته. وكذلك حمص؛ لأن أسواقها أقفلت في وجه الجيش، وأبى أهل المدينة أن يقدموا للجيش حاجته. ولما شكا الأهالي إلى قائد الجيش أنزل العقاب الشديد بالجنود الذين ارتكبوا النهب.
ولما احتشد الجيش كله في دمشق، هطل مطر شديد مدرار دام بضعة أيام، فاضطر الجيش أن يدخل المدينة، وأن يحتل الخانات والقهوات والدكاكين والجوامع ما عدا الجامع الأموي وجامع السنانية، ووضع يده على المطاحن والأفران ليعد الزاد اللازم له في الرحيل. وأمر إبراهيم باشا بجمع الأموال المتأخرة من دمشق وقراها، حتى يتمكن من الإنفاق على جيشه إبان رحيله. وانفصل عن الجيش أكثر اللبنانيين والسوريين الذين كانوا يحاربون في صفوفه وعادوا إلى أهلهم وقرباهم. وشعر إبراهيم باشا ببعض الحركات العدائية في دمشق بتحريض الترك، فنكل بالمحرضين. واعترض بعض العربان والدروز في سعسع قوافل المؤن والذخائر، فأدبهم تأديبا شديدا. •••
في 27 نوفمبر 1841 وضع الاتفاق بين الأميرال نابيير ومحمد علي، على أن يعيد محمد علي الأسطول التركي، وعلى أن يدع سوريا ويكتفي بحكم الوراثة بأولاده الذكور. ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ إلا في شهر يناير، وبعد محاولات ومماطلة من الباب العالي ووزارة خارجية إنكلترا وسفيرها في الآستانة؛ لأن الوزير بالمرستون والسفير بونسوبي كانا يطلبان هدم حكم محمد علي، فلم يصدر محمد علي الأمر إلى إبراهيم بغير حشد جيشه في دمشق، فجمعه هناك، وأوحى عمال الإنكليز والترك إلى الأمير بشير قاسم اللبناني خليفة الأمير بشير عمر حليف محمد علي، بأن يهاجم جيش إبراهيم باشا، فطلب منهم المدد، فلم يمدوه، فتقدم مع الثوار إلى جهة دمشق. وذهب الزعيم الثائر أبو سمرا غانم إلى جهة المجدل للغرض ذاته، وأرسل الأمير أسعد شهاب إلى قرية خربة ريحا لقطع طريق إبراهيم باشا في وادي التيم في حالة جلائه الذي كان منتظرا. وسافر الأمير بشير برجاله إلى بلاد صفد ثم إلى يافا للغرض ذاته؛ لأن الأميرال سترانفورد تلقى الأوامر بأن يظل على مواصلة أعماله العسكرية ضد إبراهيم وجيشه، فأمر جاكوموس الذي كان يقود جنود الحلفاء بأن يجعل نصب عينه تجريد جيش إبراهيم من سلاحه؛ لذلك وضع قوة من اللبنانيين في وادي التيم وصفد ويافا على طريق إبراهيم إذا سار هو بجيشه من دمشق على طريق القنيطرة، ووضع قوة أخرى في القدس وثالثة على طريق بئر سبع بقيادة القائد التركي حسن باشا؛ لأن قيادة الحلفاء كانت تعتقد أنه ليس أمام جيش إبراهيم باشا طريق آخر غير فلسطين.
مثل هذه التدبيرات اتخذت قبل أن يرد جواب الباب العالي على اتفاق نابيير ومحمد علي. ولما وصل الرد ظهر أن السلطان لا يمنح محمد علي الحكم المتوارث في مصر، فظهر أن سفير إنكلترا كان يدبر ذلك الجواب، وكان يتوقع القتال. ولكن الدول الأخرى لم تكن على هذا الرأي، فأمرت الدول الأربع سفراءها بتقديم المذكرة التي ذكرناها في الفصل السابق، فأمر السلطان بإجابة مطالب الدول، فانتدب الأميرال نابيير ليشهد تسليم الأسطول التركي في الإسكندرية، وأرسل محمد علي رسوله إلى إبراهيم باشا ومعه أحد الضباط الإنكليز ليسحب جيشه من دمشق، مع تبليغ قواد الحلفاء تسهيل أمر الجلاء والسماح للنساء والأطفال والجرحى والمرضى بأن يعودوا إلى مصر بحرا.
ولما تلقى إبراهيم أمر والده في 9 سبتمبر، عقد مجلسا في مدينة دمشق من أعيان المدينة ليختاروا الحاكم الذي يسلمه مدينتهم، فاختاروا حسن بك الكحالة، ثم خطب فيهم حاثا على حفظ النظام والأمان، وألا يمسوا النصارى واليهود بسوء، فإذا هم لم يرعوا أوامره يرتد إليهم بقوة من جيشه ويحل بهم أشد العقاب.
وعرف إبراهيم ما يضمرونه له في طريقه رغم الاتفاق، فوضع خطة الرجوع لجيشه.
وفي 29 ديسمبر أصدر الأمر إلى جيشه المؤلف من 55 ألف جندي ومعهم 150 مدفعا بالجلاء، وكان يتبع ذلك الجيش نحو سبعة آلاف نفس من العائلات والاتباع.
وبعد ستة أيام من خروج إبراهيم باشا من دمشق، وصل إليها الجنرال جوكوموس، وأعلن إعادة حكم السلطان وتولية أحمد أغا اليوسف. وسار مع الثوار يناوش مؤخرة الجيش، وانضم إليهم نحو 700 من المتطوعين بجيش إبراهيم، فذهبوا مع رفاقهم للانضمام إلى جيش الأمير بشير قاسم الشهابي في طبريا، وهدم الجنرال جوكوموس جسر بنات يعقوب حتى يعرقل سير الجيش المصري.
وفي المزيريب ارتاح الجيش ثلاثة أيام، وكان البرد شديدا، فقسم إبراهيم جيشه خمسة أقسام؛ أحدهما بقيادة سليم باشا، والثاني بقيادة أحمد باشا الدرامه لي، والثالث بقيادة أحمد باشا المنيكلي، والرابع بقيادة سليمان باشا الفرنساوي، والخامس بقيادته هو ذاته. وعين للقسم الأول طريق شرق الأردن إلى غزة والعريش، وللثاني طريق الحج ومعان فالعقبة، ومنها إلى النخل والسويس. أما هو - وكان قسمه مؤلفا من الحرس وفرسان الهنادي والباشبوزق - فجعل وجهته غزة ليركب منها البحر إلى مصر. وتمكن إبراهيم - بحسن خطته ودقة نظام جيشه ونشاط ضباطه - من أن يلعب بقواد الحلفاء الذين كانوا يتربصون له في الطريق، وأن ينفلت من بين أيديهم، حتى قالوا في وصف ارتداده ورجوعه سالما إنه ربح أكبر معركة سلمية بالارتداد؛ لأن الجنرال جاكوموس جمع على طريقه كل ما يمكن جمعه من القوات بما فيها قوات الثوار - وهي أشد خطرا على الجيش المرتد من الجيش النظامي - ووقف بها في جهة جنين وجسر المجامع، وقطع الطرقات الأخرى. ولكن إبراهيم باشا كان يتظاهر بالزحف في فلسطين، ثم يسير بعيدا شرقي نهر الأردن والبحر الميت. على أن جيشه تحمل من أجل ذلك متاعب كبيرة جدا لا يتحملها جيش آخر؛ لأنه كان يسير في الصحراء القليلة الماء والزاد، حتى اضطر الجيش إلى أكل لحم الخيول والمواشي، وأن يعيش أياما على عشب البرية، وكانوا قبل وصولهم إلى السواحل كغزة والعقبة يكافحون الجوع والعطش ولصوص البدو. وفي 25 يناير وصل القسم الأول من جيش إبراهيم باشا إلى غزة.
أما جيش سليمان باشا، فإنه سار على طريق الحج، وكان يحسب أنهم يرسلون إليه من مصر بطريق صحراء السويس الزاد والماء، ولكن هذا الأمل خاب، غير أنه وفق للعثور على الآبار، ونجا وأوصل المدافع المائة والخمسين بخيولها سليمة إلى مصر.
ووصل إبراهيم باشا إلى غزة في 31 يناير، وأرسل إلى والده ليوافيه بحاجات الجيش، فأرسل إليه ما طلب. وبلغ عدد الجيش الذي وصل إلى مصر 41 ألفا، منهم 30 ألفا عن طريق غزة والباقي عن طريق العقبة والسويس، وكان آخر جندي غادر غزة في 19 فبراير سنة 1841.
أما اللبنانيون الذين كانوا في مصر، فإن محمد علي اتفق مع الأميرال نابييه في 27 نوفمبر على إعادتهم إلى وطنهم، كما اتفق معه على إعادة الذين كانوا قد نفاهم إلى سنار في سنة 1840.
ومما يذكر عن هؤلاء المنفيين وعددهم 57 أميرا وشيخا وعينا، أنه لما أبعدهم محمد علي إلى سنار، سلم قايد المركب الذي يركبونه كتابا إلى حاكم تلك الجهة، فتشاوروا فيما بينهم - وهم في الطريق - لمعرفة ما في ذلك الكتاب؛ فإن كان شرا فتكوا بجنود المركب ونجوا بأنفسهم في البرية، وإن كان خيرا واصلوا السير. فلما أخذوا الكتاب واطلعوا عليه، وجدوا أن محمد علي يوصي بهم خيرا، وبأن يعاملوا معاملة حسنة، فأعادوا الكتاب إلى حامله، وصرفوا مدة نفيهم معززين مكرمين، فلما عاد جيش إبراهيم إلى مصر أرسل الأميرال نابييه ولده إلى محمد علي يطلب أولئك المنفيين، فأعادهم محمد علي من السودان، وفي إبان عودتهم توفي منهم في صعيد مصر الأمير يوسف سليمان شهاب.
أما الجنود السوريون في جيش محمد علي، فكان المتفق عليه بين الأميرال تشارلس نابييه وبوغوص بك وكيل خارجية محمد علي أنهم يرجعون إلى بلادهم حال وصول جيش إبراهيم إلى مصر، فبعد مفاوضات طويلة بين القنصل الإنكليزي ومحمد علي، أمر محمد علي بإعادتهم، ووصل القسم الأول إلى بيروت في شهر سبتمبر سنة 1843، ووصل القسم الثاني بعد شهرين، وكان عددهم جميعا نحو عشرة آلاف. •••
خرج جيش إبراهيم من سوريا عائدا إلى مصر بعدما أقام فيها من 31 أكتوبر 1831 إلى 20 فبراير 1842، فاكتسح الجيش التركي في أربع معارك كبيرة، ولو شاء وشاءت أقدار السياسة لدخل إستامبول، ولو شاء وشاءت السياسة لجعل هذا الحكم المصري من حدود النمسا إلى حدود إيران فبحر الهند في آسيا، ومن مصر إلى الجزائر ومنها إلى زنجبار فالمحيط الهادي في أفريقيا. ولكنه غادر مصر ولاية يولي الباب العالي عليها من شاء، وعاد إليها وحكم مصر مقرر بين الدول لمحمد علي ولذريته بعده إلى ما شاء الله.
فماذا ترك بعده في سوريا من آثار السنين العشر؟ هنا وفي هذا الموضوع الذي لمسناه مرارا إبان الكلام عن البطل إبراهيم، ندع الكلام للمؤرخ الفاضل سليمان بك أبو عز الدين في كتابه «إبراهيم باشا في سوريا»، قال:
زالت حكومة محمد علي من سوريا بانسحاب جنوده منها، أما تأثيرها فلم يزل مع ذلك الانسحاب؛ لأنها أحدثت في نظام الأحكام انقلابا عظيما، فأدخلت أنظمة جديدة على الإدارة والقضاء والمالية والجندية، وكان لذلك تأثيرات جمة في حياة البلاد الاجتماعية والأدبية والاقتصادية والإدارية والسياسية، منها ما كان بعيد المدى، فاتصل تأثيره بوقتنا الأخير.
فمن التغييرات الاجتماعية التي نشأت عن حكم محمد علي: إطلاق الحرية الدينية، ونشر الروح الديموقراطية بالضرب على أيدي الزعماء والمتغلبين ونزع السلطة من أيديهم، وإنشاء العلاقة ما بين الشعب وحكامه مباشرة، وتأليف مجالس مشورة تمثل الشعب بعض التمثيل، ومع حق النظر في الشئون المحلية بعد أن كان النظر في جميع الشئون منوطا بحكام مستبدين.
وقد كان لوجود إبراهيم باشا في سوريا تأثير في بساطة المظهر بعد أن كان كبار البلاد يباهون بالملابس الفاخرة والمظاهر الخلابة وكثرة الأتباع، وكانوا يقلدون في ذلك الحكام العثمانيين. أما إبراهيم باشا، فكان ميالا بفطرته إلى بساطة المظهر والتخشن في المعيشة، ولعل حياته الجندية زادته استمساكا بذلك.
ويروون أنه لما جاء إبراهيم باشا بجيشه إلى لبنان وحل بدير القمر، أقام في منزل صغير، وذهب ذات ليلة لزيارة الأمير بشير زيارة غير رسمية، فلم يستصحب أحدا من حاشيته، بل كان معه أحد خدمه، فقضى السهرة عند الأمير. وكان الأمير قبل ذلك لا يعهد في الوزراء سوى مظاهر الأبهة والترفع عن الناس، فلا تتحرك ركابهم من مكان إلى مكان إلا وهم مرتدون الملابس الفاخرة محوطون بالجند والعظماء. وكان الأمير نفسه ومن دونه من الزعماء يجرون على الخطة ذاتها. أما بعد أن تلقى هذه الزيارة الودية من إبراهيم باشا، فلم يسعه إلا أن يحذو حذوه. وبما أن إبراهيم باشا - وهو ابن عزيز مصر ورأس الحكومة السورية وقائد الجيش العام - قد زاره ومعه خادم واحد، فحفظا للنسبة بين المقامين رد الأمير بشير الزيارة لإبراهيم باشا وحده وليس معه أحد.
وفي عهد إبراهيم باشا طرح الأمير بشير وأولاده العمائم واستبدلوا منها الطربوش المغربي اقتداء بمحمد علي وإبراهيم ورجالهما، فتبعهم في ذلك كبار البلاد وسواهم.
وقبل دخول إبراهيم باشا سوريا لم يكن مباحا للمسيحيين أن يلبسوا العمائم البيضاء أو الخضراء أو الحمراء، وكانت محظورة عليهم أمور أخرى كثيرة. وكانت تولية النصارى أعمال الحكم نادرة جدا، فأزالت حكومة محمد علي هذه الفوارق، وأباحت للمسيحيين كل ما يباح للمسلمين من لباس، وركوب الخيل، ومن الحقوق الأخرى الاجتماعية والوطنية، وقلدت الكثيرين من المسيحيين الوطنيين والإفرنج الوظائف في الجيش والدولة، ومنحتهم الرتب والألقاب. ويروون عن حنا بك بحري الذي كان يتولى منصبا عاليا في حكومة سوريا، أن زملاءه المسلمين ما كانوا يعاملونه بالإكرام الذي يستحقه منصبه، وكان محمد علي قد منحه رتبة ميرميران، فشكا إلى إبراهيم الذي دخل مرة مجلسا ضم كبار القوم وبينهم حنا بحري بك، فنهضوا واقفين، فقال إبراهيم باشا: «يا بك تفضل»، ولم يذكر اسمه، فتقدم موظف آخر اسمه حافظ، فقال له إبراهيم: أنا أريد «بحري بك»، فلما دنا منه قرب مجلسه وأجلسه وأمر الآخرين بالجلوس ، فبعد هذا الحادث صاروا يعاملون بحري بك بالإجلال.
ساوت حكومة محمد علي بين الرعايا على مختلف الأديان والمذاهب، ولم يكن قبلها يساوى بين المسلم والذمي، وسوت بينهم بالضرائب والحقوق، ولكنها كانت تكلف النصارى دفع الخراج مقابل تجنيد المسلمين.
وكان التضييق على المسيحيين الإفرنج شديدا، فلا يستطيع واحد منهم التجول في البلاد إذا لم يكن مرتديا بالملابس الوطنية أو يحرسه الجند، حتى إن إنكلترا عينت المستر فلرين قنصلا لها في دمشق في سنة 1829، فلم يستطيع دخول دمشق وأقام في بيروت إلى أن احتل إبراهيم البلاد.
وقيام حكومة محمد علي في سوريا مهد السبيل لنهضة علمية أدبية؛ لأن تنظيماتها تطلبت اختيار المتنورين لإدارة الأحكام والقيام بالأعمال القضائية والمالية والإدارية والكتابية، وسهلت قدوم الإفرنج من مرسلين وتجار وسواهم، فأنشئوا المدارس.
وأحدث إرسال طائفة من الشبان لدرس الطب في مصر واستخدام السوريين في حكومة محمد علي، صلة أدبية دائمة بين الأمتين.
أدخلت حكومة محمد علي روحا علمية في البلاد، فأنشأت محجرا صحيا في بيروت والتلقيح ضد الجدري، واعتنت بالصحة، وحفرت المصارف في المدن لصرف المياه الزائدة والأوساخ، واستخدمت المهندسين لإنشاء الطرقات وسواها. ونشطت حكومة محمد علي الزراعة وغرس البساتين والكرمة والزيتون والتوت وتربية دود الحرير، وحفرت المناجم كمنجم الفحم في قرنايل وآخر في بزبدين ومنجم الحديد في مرجنا، ثم زراعة قصب السكر والنيلة والبن، ونشطت التجارة بتأمين طرق المواصلات.
ومن حسنات حكومة محمد علي إدخال مبادئ النظام في الحكم، وتوزيع السلطات الإدارية والقضائية، واختصاص كل هيئة منهما، وإزالة الحكم المطلق، وتعيين العدد الكبير من أبناء البلاد في المناصب، فمرنوا على طرق الحكم الجديدة وتأليف مجالس المشورة في المدن، فألفوا الشورى، ومد رواق المساواة. وكان حكم محمد علي أساسا «لخط كلخانة» الذي أصدره السلطان عبد المجيد بالمساواة بين رعاياه.
كذلك العمل على إقرار الأمن في نصابه، فقبل حكومة محمد علي كان حبل الأمن مضطربا والأشقياء يعيثون فسادا والقبائل تغزو الحضر، وكانت مكامن اللصوص على جميع الطرقات، حتى إن المسافرين كانوا يضطرون أن يسيروا جماعات وهم شاكو السلاح للدفاع عن أنفسهم وأموالهم، فألقت على عاتق رؤساء القبائل والعساكر وشيوخ البلاد تبعة ما يقع في دوائر نفوذهم.
تلك بعض آثار حملة إبراهيم وحكم محمد علي في سوريا، والشر الوحيد الذي وقع في لبنان من آثارها تأصل العدوان بين الدروز والموارنة؛ لأن الموارنة كانوا عونا لإبراهيم باشا ضد الدروز، فكانت العداوة الطائفية التي أفضت إلى المذابح وإلى انتهاء عهد الإمارة في سنة 1860 و1863 والاستعاضة عن الإمارة المتوارثة في الأمراء الشهابيين بتعيين متصرف نصراني للبنان، تقر الدول الست الكبرى تعيينه، وينتخب الأهالي مجلس إدارة إلى جانبه ليقرر الميزانية والنفقات.
ولم ينس محمد علي وإبراهيم الأمير بشير حليفهما الذي سافر إلى مالطة مع أسرته، وبعد 21 يوما من وصوله عينت له حكومة تلك الجزيرة قصرا فخما على بعد ثلاثة أميال من المدينة. وقبل أن يخرج من المحجر الصحي، وقبل أن يستقر به المقام، أرسل إليه محمد علي كتابا مع رسول رومي يقول له فيه: أنا باق على محبتك، وسأجعل مصلحتي كمصلحتك شفقة على شيخوختك وحفظا لودك. وكانت المراقبة شديدة على الأمير، فأرسل إلى الرسول الرومي كاتم سره بطرس كرامة، فأعطاه صورة الكتاب. ولما سأله عنه والي الجزيرة أطلعه عليه، ولم يستطع أن يسلم الرسول رده على ذلك الكتاب إلى محمد علي.
وبعد إبرام الاتفاق بين الباب العالي ومحمد علي أرسل السلطان عبد المجيد فرمانا إلى الأمير بشير يخبره فيه بالإقامة في إحدى جهات السلطنة ما عدا سوريا، وأرسل إليه الصدر الأعظم رءوف باشا كتابا رقيقا، فاختار الإقامة في إستامبول حيث ظل إلى آخر حياته.
الفصل الخامس عشر
الخاتمة
بعد عودة جيش إبراهيم باشا إلى مصر، وزع محمد علي هذا الجيش على أنحاء الوجه البحري للاشتغال بزراعة القطن ولخفارة هذه الزراعة؛ لأن الأهالي لم يكونوا قد ألفوها، وكانوا يفضلون عليها زراعة الحبوب، فكان دأبهم أن يقتلعوا ليلا البذور التي يزرعونها نهارا. وكان 1500 فلاح فرنساوي جاء بهم محمد علي من فرنسا يعلمون الفلاحين زرع القطن، وعين محمد علي كل واحد من أولاده وأحفاده لرقابة مديرية، فكان إبراهيم يرقب المنوفية، ومحمد علي ذاته اختص نفسه بالقليوبية. وكانت لإبراهيم مزارع خاصة يعنى بها كل العناية؛ لينفق من دخلها على نفسه وبيته؛ لأن محمد علي كان يعيش عيشة الأمراء القدماء، فلا يعتمد على أموال الدولة للإنفاق على نفسه، حتى أجمع المؤرخون على أن نفقة قصوره ودوره لم تتجاوز في سنة من السنين عشرين ألف جنيه. واعتنى بعد الحروب بإنشاء مصلحة لهندسة الري، وإنشاء القناطر وحفر الترع وتنظيم الصحة ومعالجة الفقراء مجانا، ووضع مشروع لإنشاء مساكن للفلاحين، وآخر لإنشاء بنك وطني، وتجربة جميع أنواع النبات، وحفر المصارف، والإكثار من المدارس. وكذلك إبراهيم ولي عهده كان يميل بطبعه إلى شظف العيش. وإبراهيم الذي ولد في سنة 1879 كان قائد القوات البرية، كما كان أخوه سعيد باشا قائد الأسطول بعد أن صرف ثلاث سنين في التمرن على أعمال البحرية، وقد وصفه لنا أحد مؤرخيه من معاصريه، فقال:
كان ربعة القامة، قوي العضلات، واسع الصدر، عريض المنكبين، واسع العينين البراقتين رماديتي اللون، مستطيل الوجه، طروب، إذا ضحك اهتزت أعضاء جسمه جميعا، حتى يخيل إلى الناظر أن كل عضو من أعضائه يضحك، وإذا هو غضب تحول بركانا. جمع البسالة والجود، وما أضاع في ساعة الشدة رباطة جأشه، وكل ما اشتد الأمر عليه ازداد حلما وسكونا، وما رآه أحد بعد النصر تأخذه نشوة الفخر، بل يتملكه التفكير الطويل لما يلي ذلك ولما يمكن أن يليه. كان يحب الزرع والنبات والشجر والغابات إلى حد الغرام، فأكثر من ذلك في سوريا ومصر، وكان يكرر كلمة المملوك مراد بك «إذا طلبت في مصر الذهب فانكش وجه أرضها»، وكان يتكلم التركية والعربية والفارسية، ولكنه كان فخورا بعربيته ومصريته. نقل إلى التركية تاريخ نابليون بعنوان «دفيني أسرار حكامي أوروبا»؛ أي كنز أسرار حكام أوروبا، وكان واسع الاطلاع في تاريخ أمم الشرق.
ولاه والده إدارة بعض المديريات وهو في السادسة عشرة من عمره، فاكتسب خبرة واسعة في الشئون الإدارية والأحكام. وكان إبراهيم - على مجده وعزته - كأصغر الناس في حضرة والده ، فإذا أقبل عليه لثم يده، ولا يأخذ في المجلس مكانه إلا إذا أمره، ولا يدخن في حضرته إلا إذا أباح له التدخين. وكان محمد علي يقابل ذلك بمثله، فالألقاب التركية التي كان يلقب بها إبراهيم - كأمير الحرمين الشريفين - كانت تجعل له المقام الأول بين أمراء الدولة العثمانية، فيقدم عليهم جميعا. والمفروض على هؤلاء، إذا أقبل عليهم أمير الحرمين الشريفين، أن ينهضوا إجلالا له. فكان محمد علي، إذا أقبل ولده إبراهيم عليه، انتظر دخوله واقفا تعظيما لرتبته وأذن له بالسير معه في الحفلات والتشريفات الرسمية سائرا قبالته على صف معتدل. وكان إبراهيم عماد الملك وقوام الأريكة وذراع محمد علي اليمنى ورأسه المفكر. •••
أرسله والده مع أخيه الأكبر إلى أوروبا في سنة 1846 لانحراف صحته، فلما وصل خبر رحلته إلى الملوك والأمراء وجهوا إليه الدعوة، وتلقى دعوة الملكة فكتوريا لزيارة إنكلترا وهو في توسكانا في طريقه إلى فرنسا، وكان استقباله في توسكانا حافلا جدا، ولما وصل إلى باريس كانت الحفاوة به فوق حد الوصف، فعرض ثلاثين ألف جندي في ميدان شان دي مارس، وقالوا في وصف ذلك العرض: إن فرنسا لم تشهد مثله بعد نابليون الأول. وشهد العرض مع رجال الدولة ثمانية من أمراء البيت المالك وست من الأميرات، فكان يوم 21 مايو سنة 1846 يوما مشهودا في عاصمة فرنسا.
وزار ما زار من معاهد فرنسا - كما يقول إدوار جوان - دار الضرب الفرنساوية، فضربت بحضوره مدالية، فإذا بها تمثل محمد علي باشا، وقد كتب تحت الصورة بالفرنساوية: «محمد علي مجدد مصر.» ولزمه الدوق دي مونبانسيه الذي زار مصر في سنة 1845، ولقي كل إكرام إبراهيم باشا إبان زيارته فرنسا، ودعاه لزيارة ميدان التمرينات العسكرية في سان نامور. فذهب إبراهيم باشا إلى ذلك الميدان بمركبة ملكية ومعه الدوق دي نمور والبرنس دي جوانفيل، وقدم له الجواد اللازم لركوبه، فإذا به الجواد الذي ركبه في معركة نصيبين، وكان والده محمد علي باشا قد أهداه في سنة 1841 إلى ملك فرنسا مع 9 جياد أخرى عربية أصيلة. قال الذين وصفوا يومئذ تلك الحفاوة بإبراهيم باشا: إنه نظر إلى الجواد فأحس الحاضرون أن أعصابه ترتعد وأن الدمعة حائرة في عينيه، ولكنه وثب وثبة الأسد إلى ظهر ذلك الجواد الذي كان رفيقه في معركة نصيبين، وعرض من مشوهي الحرب أمامه 2500 جندي وهم متقلدون سلاحهم، وكانوا من جنود الحملة الفرنساوية في مصر، وأهدت إليه حكومة فرنسا يوم سفره وسام «اللجيون دونور»، ولكثرة إحساناته أطلقوا عليه لقب «البطل المحسن»، وعند مغادرته باريس أعطى 12 ألف فرنك للفقراء.
إبراهيم باشا في ميدان عرض الجيش الفرنساوي بباريس.
وزار إبراهيم بعد ذلك لندن عاصمة الإنكليز إجابة لدعوة الملكة فكتوريا، فكانت الحفاوة به كبيرة، وكانت الجماهير تتزاحم على طريقه لرؤية بطل نصيبين. وعرض أمامه هناك قسم من الأسطول والجيش، وطاف بعض بلاد اسكتلندا. ولما عزم على العودة إلى مصر بعد سفر والده إلى إستامبول، جعل طريقه على بلاد البرتغال، حيث زار الملك والملكة، ولقي كل حفاوة وإكرام، وأهدى إليه الملك وسام البرج والسيف، ومن هناك عاد إلى مصر.
وكان سليمان باشا الفرنساوي يرافق إبراهيم باشا في رحلته إلى أوروبا، وسليمان باشا أو الكولونيل سيف هو صاحب الكلمة المشهورة: «أحببت في حياتي ثلاثة رجال، وجعلت حبي لهم فوق كل حب: والدي، ونابليون، ومحمد علي. وقد مات الاثنان الأولان، فانحصر حبي بمحمد علي.» وكان محمد علي يقول: «سليمان ولد من أولادي، لا يخرج من مصر إلا إذا خرج منها محمد علي.»
وقد كان لإبراهيم ثلاثة أولاد: أحمد بك؛ ولد سنة 1825، وإسماعيل بك (الخديوي إسماعيل)؛ ولد في سنة 1828، ومصطفى بك؛ ولد في سنة 1832. وكان له ولد رابع توفي طفلا وهو في حجر إحدى الجواري السود برفصة جارية بيضاء كانت قد وجهتها إلى الجارية السوداء التي تحمل الطفل الذي ولد بعد حرب الوهابيين، فحزن عليه إبراهيم حزنا شديدا.
أما إخوة إبراهيم، فهم: سعيد باشا قومندان الأسطول المصري؛ ولد في سنة 1822، وحسين بك؛ ولد في سنة 1825، وحليم؛ في سنة 1826، وعلي؛ ولد في 1829، وإسكندر؛ ولد في 1831، ومحمد علي؛ ولد 1833.
وفي سنة 1848 اشتد المرض والذهول على محمد علي، فذهب للسياحة في أوروبا، وتولى إبراهيم أمر الحكم بموافقة الباب العالي، ولكنه توفي في شهر نوفمبر سنة 1848، فتولى الأمر عباس بن طوسون بن محمد علي، وتوفي محمد علي في شهر أغسطس 1849 وهو في الثانية والثمانين من عمره. وبحكمة محمد علي وبسالة إبراهيم وذكائه، وصلت مصر إلى حكم نفسها وحكم السودان، وانتهى عصر الحروب والمعارك الذي بدأ في سنة 1798 بنزول الحملة الفرنساوية في مصر، وتجدد في سنة 1807 بنزول الحملة الإنكليزية ثم بالحروب مع تركيا. ولولا تألب أوروبا على مصر لكانت مصر الإمبراطورية العظيمة الشان. ويقول المسيو فرنسينيه: إذا كانت مصر لا تهدد بعد اتفاق 1841 توازن أوروبا، ومن أجل هذا التوازن حكم عليها ذلك الحكم القاسي بأن يعتبر الغالب مغلوبا والمغلوب غالبا كما قال رئيس وزارة إنكلترا في مجلس نوابهم، ولكن مصر لا تزال ولن تزال من مشاغل الأمم والشعوب.
ذلك هو البطل الفاتح إبراهيم الذي قاد جيش مصر من نصر إلى نصر، ورفع علمها عاليا في كل مكان من كريد إلى البلقان ومن السودان إلى اليمن ونجد والحجاز وسوريا والأناضول.
الوثائق السياسية الرسمية
عن حرب سوريا 1832-1833
جمع القومندان جورج دوين وطبعت الجمعية الجغرافية تحت رعاية جلالة الملك الوثائق السياسية الرسمية عن حرب سوريا في سنة 1831-1833 في ثلاثة مجلدات ضخمة. والمجلدان الأولان - وكل واحد منهما يقع في نحو 700 صفحة - يتضمنان الوثائق الفرنساوية من تقارير القناصل والسفراء ورجال البر والبحر، والبلاغات الرسمية المصرية، وأقوال الصحف الرسمية، وبلاغات الحكومة المصرية ... إلخ، وما يقوله ويعمله قناصل الدول الأخرى وسفراؤها وحكومة مصر وحكومة الباب العالي.
والمجلد الثالث بقلم أنجلو ساماركو في الموضوع ذاته، وهو يتضمن الوثائق السياسية الرسمية الطليانية، وهذا المجلد هو المجلد الثامن للمؤلف ذاته عن حكم محمد علي في مصر ، وهو الحكم الذي يقول المؤرخ إنه بدأ في شهر يوليو من سنة 1804، والمجلد الواحد يقع في نحو 300 صفحة.
ولا مندوحة لنا عن شكر المسيو مونيه سكرتير الجمعية، الذي تكرم علينا بهذه الوثائق التي استمددنا منها الكثير عندما أخذنا ذكرى السنة المائة لفتح البطل الفاتح إبراهيم سوريا، فتابعنا القراء في مراجعة تلك الذكرى مع الفخر والإعجاب. وذكرى البطولة والأبطال تشحذ الهمم وتنير البصائر وتوسع الأفق لعيون الناظرين الذين يتخذون من الماضي عبرة للحاضر ومن الحاضر سراجا هاديا للمستقبل. وقد أحسنت الجمعية الجغرافية كل الإحسان بعنايتها بنشر هذه الوثائق كلها؛ فإن التاريخ المصري بأشد حاجة إليها، ولأن هذا التاريخ مجهول، ولأن الموجود منه قلما يستند إلى وثيقة رسمية، فهو «روايات الأفراد» لم تمحص. أما الآن - وهذه الوثائق تنشر تباعا - فلنا الأمل أن نتوصل بعناية جلالة الملك المعظم الذي وضع العمل تحت ظله ورعايته، إلى أن تكون لنا مكتبة تاريخية كاملة تحتوي على الوثائق الرسمية، فيستمد منها الكاتبون والمؤرخون، ويعرف منها المصريون التاريخ الصحيح لبلدهم ورجال هذا البلد.
ولم يكن بالإمكان الوصول إلى هذه الغاية بغير عناية جلالة ملكنا وهمة المؤلفين المؤرخين العلماء، كالقومندان دوين صاحب المؤلفات الشهيرة عن مصر والبحر المتوسط وحملة بونابرت وأسطول محمد علي ومصر المستقلة والبعثة الفرنساوية العسكرية في جيش محمد علي، ومهمة البارون بواليكنت عند محمد علي (1833)، وإنكلترا في مصر (1807)، ومحمد علي وحملة الجزائر (1829-1830)، وإنكلترا ومصر وسياسة المماليك (1803-1807). وقد راعى القومندان دوين في نشر الوثائق أن يصدر كل فصل بخلاصة تاريخية يجعل الوثائق وفصولها سندا لها.
ولا مندوحة لنا في هذا المقام عن التنويه بفضل حضرة صاحب السعادة أمين سامي باشا صاحب تقويم النيل؛ فقد جمع في المجلدات الثلاثة المتقنة التي أصدرها وثائق رسمية ذات قيمة كبيرة يستطيع الكاتب أن يرجع إليها وأن يعتمد عليها في تدوين تاريخ حياة مصر التي جددها ذلك الرجل النابغة محمد علي، سواء كان غرض الكاتب أن يراجع تاريخ الدارس أو الضائع أو الحروب أو الفتح أو الزراعة أو أي فرع من فروع الحياة.
على أن «الدفترخانة» المصرية لا تزال طافحة غاصة بمثل هذه الوثائق التي لم تترجم، وأكثرها باللغة التركية القديمة. وهذه اللغة تزول الآن وتضمحل وتحل محلها اللغة الحديثة، لا بصور الحروف فقط، بل بالتعبيرات التي تنقل عن الإفرنجية. وإذا كانت وزارة المالية تستخدم بعض المترجمين، فإن عددهم قليل لا يكفي للقيام بهذه المهمة. والحجة بقلة المال حجة غير قائمة؛ لأن النفقة قليلة، والفائدة من وراء ذلك كبيرة جزيلة. وهذه الفائدة التي يمكننا الوصول إليها اليوم قد تفوتنا غدا للسبب الذي بسطناه، فالمأمول بوزارة المالية ألا تضن بالمال القليل لاستخراج تلك الكنوز من كنانها.
تعليقات
ننشر تحت هذا العنوان ما علقه بعض القراء على فصول هذا الكتاب حسب التواريخ التي وردت فيها يوم نشرها:
تصحيح تاريخي
جاء في العدد 6981 من «الأهرام» في سياق ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا، أن المرحوم إبراهيم باشا قال للمرحوم رشيد باشا: «إن السلطان محمد الفاتح ارتقى على العرش وهو في السابعة من عمره.»
والحقيقة أن الذي ارتقى على العرش من سلاطين آل عثمان في السنة السابعة من عمره هو السلطان محمد الرابع بعد خلع وقتل والده السلطان إبراهيم.
أما الفاتح، وهو السلطان محمد الثاني، فقد جلس على العرش في المرة الأولى بعد تنازل والده السلطان مراد الثاني وعمره أربع عشرة سنة، وبعد ذلك عاد والده وتسلم العرش إلى أن توفي، فعاد الملك لمحمد الثاني وعمره إحدى وعشرون سنة. وبعد نحو سنة من جلوسه على العرش فتح القسطنطينية، وأخذ اسم ولقب الفاتح، حتى إن كلمة الفاتح وحدها تعني عند الأتراك: محمد الثاني ابن مراد الثاني.
دكتور علي حلمي
مدير القسم الطبي بالسجون سابقا
الأهرام:
لم يكن من حقنا التغيير لنص الحديث، فأوردناه كما هو.
البطل الفاتح إبراهيم والشعراء
عزيزي ...
بمناسبة نشر تاريخ حروب إبراهيم باشا في سوريا وآسيا الصغرى، وما أظهره من المقدرة الحربية والبسالة، يلقبه مؤرخو رجال الحرب الإنكليز بطل قونيه وترب، ولدى انتصاراته العظيمة في سوريا أتذكر هذه الأبيات من قصيدة نظمها بطرس كرامة شاعر الأمير بشير وكاتم سره يمدح بها البطل إبراهيم باشا، قال:
عرج أخا البأساء نحو بني العلي
والثم ثرى أعتابهم متذللا
وابسط أكف رجاء كسرك عندهم
واجر الدموع على الخدود توسلا
ودع التعجب من شجاعة من مضى
من قبل واترك عنترا ومهلهلا
وزن الرجال فإن في أفرادها
من لا يزان بألف ليث في الملا
لو قيل إبراهيم جاء محاربا
سقطوا ولو كان الكلام تقولا
فى عدله ترعى الضواري والظبا
وبحلمه أضحى الزمان مجملا
ومنها يصف بسالته:
لو شام حر لهيبها إسكندر
لاندك محكم سده
1
وتفصلا
وفي الأخير:
من خبر الأتراك أن جيوشهم
كسرت وأن حسينهم ولى إلى
هل يغلب الأسد المجرب ثعلب
مهما استعان بحيلة وتحيلا
ومنها يظهر للملأ تعلق السوريين بإبراهيم باشا وإعجابهم بشجاعة وبسالة جنوده المصريين. كذلك أتذكر أغنية سمعتها من بعضهم رووها عن آبائهم الذين كانوا متجندين مع جنود إبراهيم باشا من السوريين، كانوا ينشدونها أثناء سيرهم:
هيا بنا هيا بنا
للحرب نلقى ضدنا
نحن السيوف الباترة
نحن الأسود الكاسرة
من أرض مصر القاهرة
جئنا وقد نلنا المنى
بارودنا شراره
يشوي الوجوه ناره
وعزمنا بتاره
من العدا تمكنا
هذا ما رغبت أن أذكره لكم كأثر تاريخي مع إعجابى بما خطه قلمكم عن هذا الفاتح العظيم والقائد العسكري الكبير.
إسكندر حداد
الأهرام:
إن الشعراء الذين نظموا القصائد في إبراهيم باشا وأعماله كثيرون، كذلك القصيد الذي كان ينظمه العامة.
أمين الجندي لا بطرس كرامة
حضرة صاحب الأهرام
إن ما نشرتموه من قلم إسكندر أفندي الحداد في عدد «أول أبريل» عن بطرس كرامة وإبراهيم باشا، هو خلاف المقرر عندنا؛ فإن القصيدة التي مطلعها:
عرج أخا البأساء نحو بني العلى
والثم ثرى أعتابهم متذللا
هي على ما نعلم من نظم الشيخ أمين الجندي الشاعر الحمصي المعروف، وهي محفوظة عند أحفاده من عهده، وقد قرأتها خطا من 48 سنة، وهي قصيدة طويلة عرض بها الشيخ أمين الجندي بالترك تعريضا لم يلمسه قلم بطرس إبراهيم كرامة.
وقد قدم الشيخ أمين هذه القصيدة لإبراهيم باشا على أثر كسره الجيوش العثمانية في ميدان المشرع غربي حمص، وهي واقعة فاصلة - في سوريا - بين الجيوش التركية والجيوش المصرية. ولم يصب الشيخ أمين ضرر من جراء نظم هذه القصيدة لما تقلص ظل الدولة المصرية عن ربوع الشام؛ وذلك نظرا لما لأسرة الجندي من المكانة في البلاد، فقد كانوا حكام البلاد، وكان أسلافهم يقتطعونها إقطاعا كما في عهد الإقطاع في أوروبا. لهذا السبب كان الشيخ أمين شاعر آل الجندي وشاعر الحمصيين قبل إبراهيم الحوراني في مأمن من غائلة الترك. وبهذه المناسبة أذكر ما كان أجدادنا وجداتنا يتلونه علينا من السمر في ليالي الشتاء عن المعارك التي خاض إبراهيم باشا غمارها في تلك الربوع، وعن أحكامه في حمص وإنشاءاته الكبيرة التي رأيناها رأي العين، وبعض أجدادنا شهد معاركه وخدم في جيشه، وقد ألفنا ذلك منذ نعومة الأظفار، وكانوا يمدحون حكمه كثيرا.
مصر، حنا خباز
روفائيل فارحي الملقب بالصراف
نتجرأ أن نلفت أنظار حضرتكم إلى ما يأتي: قد سردتم في أحد فصول ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا التي تنشر تباعا بالأهرام الأغر، أسماء الأعضاء الذين انتخبوا لتأليف ديوان المشورة بدمشق الشام، مع بيان أسمائهم وألقابهم فردا فردا. وقد اكتفيتم بذكر اسم الخواجة روفائيل الصراف المنتدب عن الطائفة الإسرائيلية، مع أن الموما إليه هو عميد العائلة الفارحية والمعروف بالمعلم روفائيل فارحي، وهو الذي كانت بعهدته آنئذ مالية ولاية سوريا، وكان معينا لأجلها من لدن حكومة ساكن الجنان السلطان محمود.
خضر متلون
ذكرى البطل إبراهيم
سيدي رئيس تحرير جريدة الأهرام الغراء
بمناسبة ما جاء في مقالكم الرابع تحت عنوان: منذ مائة سنة «البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام»، المنشور بعدد 22 فبراير وتولية المغفور له السيد محمد شريف باشا والي ألوية الشام، رأيت - إنصافا للتاريخ - أن أذكر شيئا عنه، فلقد لعب دورا خطيرا مع البطل الفاتح المغفور له إبراهيم باشا.
بعد أن استتب الأمر لإبراهيم باشا في سوريا ثلاث سنوات، طلب من الأمير بشير الشهابي الكبير حاكم لبنان أن يجند من دروز ولايته ألفا وستمائة؛ لينتظموا في سلك الجند النظامي المصري. وكان إبراهيم باشا يظن أن التجنيد في سوريا كالتجنيد في مصر، ولكنه أخطأ الظن؛ لأن السوريين كانوا بعيدين عن التجنيد القانوني، لأنهم استعاضوا عنه بشهود الحرب بأنفسهم عندما يستصرخهم حكامهم.
فجمع الأمير بشير زعماء الدروز وأراهم أمر إبراهيم باشا لتجنيد الشبان من ابن خمس عشرة إلى خمس وعشرين، وألح عليهم بالطاعة فأبوا جميعا، فتوسط في الأمر مع إبراهيم باشا فلم يفلح، بل ألحف وقدم بعشرة آلاف جندي إلى بيت الدين، فاضطر الأمر إلى جمع ألف ومائتي شاب من الدروز وأرسلهم إلى عكا جبرا، فانتظموا في الجيش المصري، وأرسل بعضهم إلى المدارس الحربية في مصر.
فأوغر ذلك صدور الحورانيين الدروز وغيرهم، وأوجسوا خيفة، وتحفزوا للمناوأة إذا طلب منهم مثل ذلك، إلى أن جاءت سنة 1835 فكتب إبراهيم باشا إلى السيد محمد شريف باشا والي دمشق يأمر بتجنيد الدروز في حوران كما جندوا في لبنان وألح عليه.
فاستقدم شريف باشا شيوخ حوران، وفي مقدمتهم زعيمهم الأكبر الشيخ يحيى حمدان، وتفاوضوا بذلك في مجلس عقد لهم فأبوا، فأخذ ينصحهم بالإخلاد إلى الطاعة لأنها أفضل من العصيان. فأشار إليه الشيخ يحيى حمدان أن يستبدل التجنيد بمال؛ لأن الشبان يردون غارات العرب عنهم، وأن يخاطب بذلك إبراهيم باشا، وأظهر حدة في الكلام، فقابله شريف باشا بصفعة على وجهه، فكظم غيظه وأظهر الطاعة مرغما، وذهب مع رجاله وهم يرغون ويزبدون من هذه الإهانة، فلما وصلوا الجبل وأوقفوا الشيوخ على ما جرى، أجمعوا على العصيان وأعلنوا الثورة بموافقة رئيسهم الروحي الشيخ إبراهيم الهجري. وكان شيخ نجران حسين أبو عساف أول من جاهر بإيقاد الثورة، ولذلك فاوضوا عرب السلوط المخيمة عندهم لمساعدتهم، فجمعوا ألف رجل منهم ومائتين من العرب ليقاوموا التجنيد، فبلغ ذلك شريف باشا وإبراهيم باشا، فتأهبا لتجنيد الدروز غصبا.
فأرسل إبراهيم باشا جندا من الهوارة والصعايدة بقيادة علي أغا البيصلي أبو الرجيلي، يصحبه عبد القادر أغا أبو حبيب الدمشقي متسلم حوران وجبل الدروز، فجمعوا الشيوخ وطلبوا منهم تسليم الشبان للتجنيد، فأبوا وخرجوا عازمين على الحرب.
ففاجأ الدروز عسكر إبراهيم باشا في محلة «التعلة»، وكانوا نحو أربعمائة فارس، وقتلوهم إلا القائد فإنه نجا مع بعض الفرسان، فتعقبهم إبراهيم الأطرش عم إسماعيل جد الطرشان وشبلي أغا العريان زعيم دروز راشيا الذي قدم لذلك القصد وفندي عاصر. والعاصريون هم بعد الطرشان في المنزلة، فقتل إبراهيم الأطرش والمتسلم أبو حبيب في هذه المناوشة، فاشتد الدروز إصرارا على المقاومة.
ولما نما خبر هذا العصيان إلى إبراهيم باشا، قرر محاربة الدروز. وكان الدروز قد أعدوا عدتهم للمحاربة والدفاع عن جبلهم الحصين بمعاقله الطبيعية وحفظ استقلالهم الذي كانت صخور جبال حوران تساعدهم عليه؛ لوعورة مسالكها ومشقة قطعها، فانضم إليهم بعض اللبنانيين سكان وادي التيم وإقليم البلان الذين راسلوهم بإيقاد النيران بإشارات خاصة على عادتهم. وهكذا كانت مقدمات الحرب التي بقيت تسعة أشهر مشتعلة الضرام قتل فيها الكثير من الفريقين.
وما أمكن إبراهيم باشا التغلب عليهم، حتى قدم بنفسه على رأس عشرين ألفا من الأرناءوط والأكراد والأتراك، وحاصر الجبل وضيق عليهم الخناق، ولكنهم لم يخافوا، بل هاجموا عسكره بقيادة زعيمهم حسين درويش، فشتتوا شمله واستولوا على الذخائر والمدافع والمؤن والبنادق، وأسروا أربعة قواد كبار وعشرين ضابطا.
فصار إبراهيم باشا يعود المرة بعد الأخرى إلى نهب قراهم وتدميرها والتنكيل بهم، مع المحافظة على الأطفال والنساء والشيوخ، فضايقهم كثيرا حتى ارتئوا تحويل الحرب إلى وادي التيم وما يجاوره؛ لتفريق شمل الجيش المصري وإرهاقه، بعد أن ثار عليه شمالي سوريا واضطر لمحاربة العثمانيين فيه. فلما ضاق ذرع الدروز في حوران، لا سيما بعد نفاد المؤن، عزموا على تحويل الحرب إلى وادي التيم وإقليم البلان، فأرسلوا شبلي العريان إليها ليلهي شريف باشا عنهم، ولكن إبراهيم باشا فطن لذلك، فأرسل إليهم الأمير مسعود ابن الأمير خليل الشهابي ابن الأمير بشير الكبير، فأخمد ثورتهم وعاد إلى لبنان ظافرا.
وفي يوم الخميس 7 تموز تسلم إبراهيم باشا اللجاه من الدروز وأخذ ينظم شئونه. وفي 11 منه عاد إلى دمشق ودخلها باحتفال عظيم.
ولما عاد السيد محمد شريف إلى مصر لتولي منصب مدير المالية في عهد المغفور له محمد علي باشا - وهو أول مدير للمالية، وكان ذلك في سنة 1841 - استصحب معه قرينته المرحومة فاطمة هانم العظم من آل العظم الأمجاد بسوريا، والتي توفيت بمصر بعد أن أسست الجامع المعروف باسم «جامع الشامية» بشارع الدواوين أمام وزارة الداخلية الآن.
وقد توفي إلى رحمة ربه المغفور له السيد محمد شريف باشا في سنة 1280 هجرية، ودفن بجوار مدافن العائلة المالكة بقرافة الإمام الشافعي رضي الله عنه.
هذا ما أردت ذكره إنصافا للحقيقة والتاريخ.
مصر، باب البحر
عطية علي شلبي
الجيش المصري في حرب القريم لسمو الأمير عمر طوسون
الإسكندرية في 12 أبريل، لمراسل الأهرام الخاص. كان للمقالات المتسلسلة التي نشرتها الأهرام أولا عن الثورة العرابية ثم عن البطل الفاتح إبراهيم باشا وفتحه لسوريا والأناضول، فائدة جلى عند جمهور من القراء ممن لم يكن يتيسر لهم قراءة تلك الذكريات التاريخية المجيدة، مجموعة منسقة بالشكل الذي أبرزها فيه كاتبها البليغ على صفحات الأهرام.
وكان في مقدمة المهتمين بهذه المقالات حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون، وهو - كما يعرف الجميع - من كبار الباحثين في تاريخ مصر الحديثة، ويميل إلى إبراز ما انطوى من ذكر المآثر المصرية في هذا التاريخ وغيره.
وقد كتب سموه أخيرا - لمناسبة الذكريات التي تنشر في الأهرام - مقالا طويلا جزيل الفائدة عن الجيش المصري في حرب القريم، وهو عبارة عن صفحة مجيدة من تاريخ مصر، يبرز فيها اشتراك جيش مصر البري والبحري في حرب سيباستوبول بين سنتي 1853 و1855.
وهذا الاشتراك - كما يقول سموه - لا يحلم به في أيامنا هذه إلا العدد القليل من المصريين؛ لذلك رأى من الخير والفائدة أن يبين بإيجاز قصته، ولا سيما أن ذلك العمل الحربي المجيد كانت له نهاية مشرفة للجنود المصرية.
وسيتحف الأمير الجليل قراء الأهرام بهذا المقال الممتع بعد أن تتم مقالات ذكرى الفاتح إبراهيم باشا.
ذكرى البطل إبراهيم
جاء في تعليق الأديب عطية علي شلبي على ثورة حوران التي وردت في إحدى مقالات «الأهرام» الخاصة بالبطل إبراهيم باشا، أن إبراهيم باشا أرسل إلى الحورانيين الدروز قوة من الهوارة والصعايدة بقيادة علي أغا البيصلي أو الرحيلي ... إلخ.
وتصحيحا لاسم هذا القائد، أذكر أن اسمه الحقيقي علي أغا البصيلي، نسبة إلى بلدة البصيلية مركز إدفو بأسوان. ونذكر بهذه المناسبة أن هذا القائد كان من القواد العظام المعروفين بالشجاعة وبعد النظر، وقد أكبر فيه المغفور له إبراهيم باشا هذه الصفات، فاستصحبه معه في السودان وفي حروب الشام، وكان يعول عليه كثيرا.
والمرحوم علي أغا البصيلي هو جد حضرة صاحب السعادة هرون سليم باشا مدير الدقهلية من جهة والدته.
هذا بعض ما عن لي ذكره بهذه المناسبة، أرجو نشره للحقيقة والتاريخ.
مؤرخ
اقتراح
حضرة رئيس تحرير جريدة الأهرام الغراء
قد تتبعت باهتمام كبير مقالاتكم الافتتاحية بخصوص أعمال البطل والفاتح العظيم «إبراهيم باشا»، مما جعل الجميع يعجبون ببسالته ويذكرون أعماله المجيدة الخالدة بالفخر والإجلال.
ولي اقتراح متواضع لعله يحوز قبولا من أولي الأمر، وخصوصا صاحب الدولة المجدد الكبير ورجل الساعة في مصر صدقي باشا.
أما الاقتراح فهو تسمية الميدان الذي يوجد فيه تمثال البطل الكبير بميدان «إبراهيم باشا»، وكذا تسمية شارع كامل باسمه، وذلك لسببين وجيهين: (1)
لأن كاملا المسمى باسمه الشارع لا ذكرى له في تاريخ مصر ولا أهمية له، بخلاف البطل الكبير والد المغفور له الخديوي إسماعيل باشا وجد جلالة المليك المحبوب. (2)
لأن أغلب الناس، وخصوصا العامة منهم، يسمون التمثال المقام للبطل العظيم بأبي أصبع؛ وذلك لجهلهم معرفة صاحبه، وعندما يسمى الميدان والشارع باسمه تبطل هذه التسمية غير اللائقة بالفاتح الكبير.
ولهذا كتبت هذه الكلمة ولي الأمل الكبير أنكم لاهتمامكم بسيرة البطل العظيم إبراهيم باشا تحبذونها وتطلبون من الحكومة تنفيذها.
وإني أعبر عن رغبة كثير من شباب مصر لحبهم لشبل محمد علي العظيم منشئ مصر الحديثة وجد صاحب الجلالة المليك المعظم حفظه الله.
ملازم أول حكيم تناغو
أشقودرة وأسكدار
قرأت في المقال العاشر من مقالات ذكرى فتح سوريا والأناضول التي تنشرها «الأهرام» تباعا، مدبجة بيراعة رئيس تحريرها المفضال، قول ساكن الجنان محمد علي باشا لقناصل الدول عقب تدخلهن لمنع الجيش المصري من مواصلة الزحف إلى الآستانة: «إذا ظل الباب العالي على المطل والتسويف، فلا قوة تمنع ابني من الوصول إلى أشقودرة ...» إلخ. فلم تمر بي حينما وقع نظري على كلمة «أشقودرة» خلجة شك في أن ورودها بهذا الاسم كان سهوة من سهوات القلم في مثل هذا الموضوع الذي لم يتناوله الكاتبون بالبحث والتمحيص من قبل.
فليست أشقودرة هي البلد الذي فاه محمد علي باسمه في حديثه مع أولئك القناصل؛ لأنها من بلاد الدولة العثمانية البائدة في غرب تركية أوروبا، حيث كان يتألف منها مع ولايتي قوصوة ويانيا قبل الحرب البلقانية الأخيرة بلاد ألبانيا. والمعروف أن الطريق بين معسكر الجيش المصري في أطنة وبين أشقودرة يمر بالآستانة، فإذا بلغها وقضى لبانته من فتحها، فما الذي يضطره إلى تركها من ورائه للزحف على أشقودرة، وهو ما لا تدعوه إليه حاجته بعد سقوط البلاد كلها في قبضته باستيلائه على عاصمتها؟
يبقى إذن أن يكون اسم البلد الذي فاه به محمد علي في حديثه مع قناصل الدول هو أسكدار لا أشقودرة، فإن أسكدار (كريزوبوليس القديمة) قائمة على الساحل الآسيوي من البسفور تجاه الآستانة، والمرور فيها ضربة لزام على من يبغي دخول الآستانة ذاتها؛ لأنها منها كالعتبة من الدار. وإذا خلط الكاتب بين الاسمين أسكدار وأشقودرة، فما هو إلا لأن البلدتين (أشقودرة القائمة على البحيرة المعروفة بهذا الاسم في ألبانيا وأسكدار الماثلة أمام الآستانة في بر آسيا) يطلق الفرنجة عليهما اسما واحدا هو:
Sculari ، بلا مميز لفظي لإحداهما عن الأخرى.
فعسى أن يلاحظ المفضال كاتب تلك الفصول الممتعة تصحيح ذلك الاسم عند طبعها في مجلد واحد.
محمد مسعود
ذكرى إبراهيم باشا: كلمة «الأهرام»
اليوم تحتفل الحكومة المصرية، بل الأمة المصرية وعلى رأسها جلالة صاحب العرش، الملك فؤاد الأول - أيده الله بروحه وأيد به عرشه وعرش أجداده العظام - بذكرى السنة المائة لفتح البطل إبراهيم حصن عكا في 27 مايو سنة 1832. وحصن عكا هو مفتاح البلاد السورية كلها، عاد عنه نابليون بعد حصار طويل، وامتلكه إبراهيم بعد حصار دام من 2 نوفمبر سنة 1831 إلى 27 مايو سنة 1832. وكان إبراهيم إبان الحصار يخضع المدائن والأمصار وينظم الشئون ويبسط القانون والنظام، فلم يكن إبراهيم فاتحا عسكريا، بل كان مصلحا إداريا ينبت العشب تحت أقدام جواده وينبثق الخير من ظل يديه ويروق رواق العدل حيثما حل وحكم. فلم يحمل من مصر إلى الأقطار والأمصار التي خضعت لقوته ولحكم والده سلطة الرهبة والترهيب، بل حمل إليها أحدث أنظمة العمران والحضارة والتعليم والتهذيب والإخاء، عاملا بأمر والده إليه: «أنت رجل تعامل الناس حيثما حللت معاملة الرجال.»
اليوم وحكومة البلاد تحتفل بذكرى السنة المائة لفتح البطل المصري عكا وعاصمة البلاد تتألب للاحتفال بذكرى هذا البطل الفاتح المصلح أمام تمثاله، يتاح «للأهرام» التي تقدمت بإحياء ذكرى السنة المائة لفتحه سوريا والأناضول وبسطت فضله وفضائله ونبوغه وعبقريته وشجاعته وبسالته وإصلاحاته، أن تفخر بأنها أدت له حقه المقدس، وأن أعاظم رجال الدولة يؤدون له اليوم هذا الحق. ويخيل إلينا أن أبا مصر ومجدد شبابها محمد علي ليطل على حفيده الملك فؤاد المحتفل بذكرى جده البطل الفاتح والفاتح المصلح قرير العين كإطلاله من جامع الغورية على ابنه إبراهيم بعد فتح الدرعية عاصمة الوهابيين ودخوله العاصمة بموكب حافل من باب النصر وعلى رأسه الطلخان السليمي وقد أرخى لحيته، فدمعت عينا ذلك الأب العظيم دمعة الفرح، وسار وراء ذلك الموكب الفخم حتى القلعة، وهناك تلقى هو ذاته ولي عهده الذي غادر مصر وهو دفترادرها ومفتش إدارة أقاليمها ورئيس مجلس شوراها، فعاد وهو والي جدة وخادم الحرمين الشريفين وفاتح الدرعية وبلاد العرب حتى خليج فارس، ولما يتم الثامنة والعشرين.
أجل في ذلك اليوم العظيم الشان في تاريخ مصر دمعت عينا محمد علي دمعتين؛ إحداهما دمعة الحزن على طوسون فاتح المدينة وقد توفاه الله في شرخ الشباب، والثانية دمعة الفرح للبطل الذي أتم عمل أخيه واهتز العالمان الغربي والشرقي لعمله. ولما انتظر هذان العالمان من وراء ذلك العمل، وقد وقع ما انتظراه اليوم ليضع جلالة الملك فؤاد إكليل الغار والورد على تمثال جده البطل الفاتح تذكارا لفتح حصن عكا في 2 مايو سنة 1832، ولكأنما هذا الإكليل يتناول ذكريات جليلة لا تقل عظمة ومجدا.
يتناول ذكرى فتح الدرعية عاصمة الوهابيين في 15 ديسمبر سنة 1818 وذكرى وصوله إلى القاهرة في 9 ديسمبر، فدامت الأفراح في طول البلاد وعرضها أسبوعا كاملا.
وذكرى اكتشافه النيل الأبيض الذي سمي باسمه في سنة 1821.
وذكرى استيلائه في 11 مايو سنة 1825 على حصن نافارين في بلاد المورة.
وذكرى استيلائه في 23 يونيو على تريبوليزا عاصمة المورة.
وذكرى استيلائه في 22 أبريل سنة 1826 على قلعة مسولويغي.
وذكرى فتح دمشق في 16 يونيو سنة 1832.
وذكرى 18 يوليو بفتح حمص والانتصار على الباشاوات العشرة.
وذكرى 29 يوليو بفتح مضيق بيلان والانتصار على جيش السر عسكر.
وذكرى معركة قونيه في 21 ديسمبر.
بل ذكرى أكبر معركة في حروب ذاك الزمن، وهي معركة نصيبين في 30 مايو سنة 1839.
هذه الذكريات جميعا، وقد بسطت «الأهرام» أطوارها للقراء، قد تجتمع اليوم بذكرى فتح عكا في 27 مايو.
وفي فتح عكا كان إبراهيم - مثله في كل فتح آخر - يقرن البطولة بالرجولية والعفو عند المقدرة، فقبل أن يقرر الهجوم على الحصن أرسل إلى عبد الله باشا والي عكا يدعوه للتسليم فأبى، فأمر بالهجوم في صباح ذاك اليوم. ولما رأى شدة دفاع الحامية وتقهقر فريق من الهاجمين، شهر سيفه وتقدمهم، فتحمس الجنود وظلوا يقاتلون ويدخلون ثغرات الحصن، حتى إذا ما دنا المساء تقدم إلى إبراهيم باشا وفد من أعيان المدينة يعلن تسليمها، وتلاه وفد آخر من قواد المدافع وآخر من العلماء يطلبون العفو عن رجال الحامية، فعفا إبراهيم باشا عن أرواحهم وأموالهم، وأبقى لهم سلاحهم، وضمن لعبد الله باشا حياته وراحته. وعند منتصف الليل وصل عبد الله باشا إلى خيمة إبراهيم باشا مع الأميرالاي سليم بك، فقابله بالإجلال وبما يقابل به الوزراء، ثم ركب معه إلى قصر البهجة ... إلخ. وفي 29 مايو سافر عبد الله باشا إلى مصر، فأرسل محمد علي لركوبه زورقه الخاص، وأمر بإطلاق المدافع تحية له، وخصص له دارا خاصة، ولما جاء القاهرة أنزل في قصر بالروضة.
وهكذا يعامل الأبطال الأبطال، وهكذا يعيش الأحياء بموتاهم.
ولما وصل خبر استيلاء إبراهيم باشا على عكا، أمر محمد علي بأن تقام الأفراح ثلاثة أيام كأيام الأعياد الكبيرة، وبأن تطلق مدافع القلاع والبنادر ثلاث مرات في كل يوم من الأيام الثلاثة، وبأن يعلن ذلك لجميع أنحاء البلاد، ولكل واحد من أمراء محمد علي، وبأن يعفى عن المسجونين والمنفيين في أبي قير ما عدا القاتل وقاطع الطريق، وذلك إجابة لطلب القائد العام إبراهيم باشا.
فى حصار عكا: كلمة لسمو الأمير عمر طوسون
الإسكندرية في 26 مايو: لمراسل الأهرام الخاص. لقد اشتهر من مزايا سمو الأمير الجليل عمر طوسون أنه فخور بأجداده العظام ومآثرهم، ومطلع على جميع أعمالهم وتفاصيل تاريخهم المجيد الذي هو تاريخ مصر كلها من عهد مجددها ساكن الجنان محمد علي. وقد رأى الجمهور كثيرا من مباحث سموه الدالة على ذلك.
وقد أتحفنا سموه اليوم بمناسبة عزم الحكومة على الاحتفال بذكرى إبراهيم باشا ومرور مائة عام على فتح عكا، بكلمة عن القوات المصرية التي دخلت عكا عند فتحها تزيد تلك الذكرى تمجيدا.
ويقترح الأمير الجليل أن يلبس الجنود الذين يحضرون الحفلة ملابس أسلافهم في أيام ذلك الفتح. وإليكم كلمة سموه:
يجدر بنا وقد صحت عزيمة الحكومة المصرية على الاحتفال غدا بذكرى مرور مائة عام على فتح عكا وذكرى فاتحها العظيم، بطل مصر ساكن الجنان إبراهيم باشا بميدان الأوبرا بالقاهرة، أن نذكر وحدات الجيش التي حاصرت حصن عكا العظيم ودخلته فاتحة منصورة بقيادة هذا الفاتح الأكبر الذي تفتخر به مصر اليوم بحق وتجدد ذكراه الخالدة بهذا الاحتفال الرائع.
عمر طوسون
وإننا نذكرها نقلا عن كدلفين وبارده وهي: آلايات المشاة، آلاي الحرس:
آلاي الحرس
الآلاي رقم (2).
الآلاي رقم (5).
الآلاي رقم (8).
الآلاي رقم (10).
الآلاي رقم (11).
الآلاي رقم (12).
الآلاي رقم (13).
الآلاي رقم (18).
آلايات الفرسان
الآلاي رقم (2).
الآلاي رقم (3).
الآلاي رقم (4).
الآلاي رقم (5).
الآلاي رقم (6).
الآلاي رقم (7).
الآلاي رقم (8).
ومجموع هاتين القوتين هو 24 ألف جندي تقريبا غير جنود المدفعية.
وقد ضربت حصون عكا تسع سفن من الأسطول المصري الذي كان يحاصرها، والذي كان مؤلفا من ست عشرة سفينة حربية وسبع عشرة سفينة نقل. وكان قائد هذا الأسطول أمير البحر عثمان نور الدين باشا.
أما التسع السفن التي ضربت هذه الحصون، فكان بها 484 مدفعا و3810 من الجنود البحريين.
وهذه أسماؤها :
اسم السفينة
اسم القائد
الفرقاطة الجعفرية
برغمه لي أحمد قبودان، وكان عليها علم أمير البحر عثمان نور الدين باشا
الفرقاطة البحيرة
عبد اللطيف قبودان، وكان عليها علم الأمير الثاني لهذا الأسطول مصطفى مطوش بك
الفرقاطة كفر الشيخ
برسك الإنكليزي
الفرقاطة رشيد
السيد علي قبودان
الفرقاطة شير جهاد
نوري قبودان
الفرقاطة مفتاح جهاد
مصطفى قبودان الجزائري
الفرقاطة دمياط
هدايت محمد قبودان
القرويت بمبه
بيجان قبودان
القرويت رهبر جهاد
علي رشيد قبودان الجزائري
ومما ينبغي ذكره أن حصار عكا دام ستة أشهر، وأن أول من أحرز فخر الاستيلاء على مدينة عكا والدخول فيها من الجيش المصري المحاصر لها، هو الآلاي الثاني من المشاة. وقد سبقت لهذا الآلاي نفسه مأثرة أخرى في الحرب الحجازية كان جزاؤها أن أنعم محمد علي باشا على أفراده عندما رجعوا إلى مصر في شهر أكتوبر سنة 1826 بوسام فضي، وأمر أن يقيم في القاهرة ليكون حامية لها، وميز جنوده بلباس خاص يوضع على رءوسهم، وهو منديل حريري مخطط بخطوط خضراء وصفراء ترخى أطرافه على أكتافهم (كوفية)؛ لأن هذا كان غطاء رأس الشعب الذي قهره هذا الآلاي (الوهابيين)، وأنعم على قائده أمير الآلاي محمد بك بمبلغ من المال مكافأة له، ورقى وكيله القائمقام عابدين بك إلى رتبة أميرالاي وعينه قائدا للآلاي الثاني عشر.
وحيث إن الجيش المصري الحالي سيكون له في هذا الاحتفال الدور المهم في تمثيل هذه الذكرى، فيا حبذا لو أمكن أن تلبس جنوده الملابس التي كانت تلبسها أسلافهم جنود الجيش المصري في تلك الأيام؛ لتكون لهذه الذكرى بعض المشخصات المرئية التي تجليها بصورتها التاريخية لأعين الناظرين.
ميدان إبراهيم باشا
بمناسبة الاحتفال الرسمي الكبير الذي قررت الحكومة إقامته اليوم إحياء لذكرى فتح الجيوش المصرية لمدينة عكا، وعلى رأسها البطل المغوار إبراهيم باشا، أكرر القول أن تطلق الحكومة على «ميدان الأوبرا» اسم «ميدان إبراهيم باشا»؛ تخليدا لتلك الذكرى المجيدة وفخرا لجيوشنا المصرية وقائدها الفاتح العظيم. ولي كثير الأمل في أن ينال اقتراحي المتكرر هذا عناية من أولي الأمر وسرعة في التنفيذ؛ لأن في تخليد اسم إبراهيم باشا لمفخرة لمصر وجيوشها التي سجل لها التاريخ العالمي التفوق في الحروب والفتوحات.
فؤاد الشغبي
إبراهيم باشا على طوابع البريد
لي اقتراح بمناسبة ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا جد مليكنا الأعظم حفظه الله، هو أن يعمل طابع بريد يتشرف بصورة تمثال هذا القائد، ويوزع لمدة ثلاثة أيام فقط بعد انتهاء الاحتفال بأيام؛ أي بعد إنجاز الطبع، ويكون ذلك أثرا خالدا لهذه الذكرى المباركة النادرة، ويكون للطابع بعد ذلك مكانته لدى الهواة في جميع أنحاء العالم.
محمد عبد الرءوف
الخطاط بسكرتارية محكمة النقض والإبرام
فى ذكرى فتح عكا: الأهرام وذكرى إبراهيم
قصيدة لحضرة الأديب صاحب الإمضاء:
عصر بإبراهيم عز وطالا
باهى العصور مهابة وجلالا
شادت له «الأهرام» ذكرا خالدا
يفنى الزمان ولا يزول زوالا
صفحاتها نشرت لنا آثاره
في شامنا ومآثرا وفعالا
حييت يا داود كم أطلقت ما
بين الطروس يراعك السبالا
فأعدت للشرق الأغر فخاره
فسمت معالمه سنى وكمالا
جددت ذكرى الفاتح البطل الذي
في ساحة الهيجاء صال وجالا
يا فاتحا عكا بصارم عزمة
علوية تفري بها الأهوالا •••
شيدت للعدل المنيف صروحه
لما شهدت صروحه أطلالا
فاضت بها نعماؤك الحلى كما
ملأ السهول نداك والأجبالا
الحلم فيك سجية وإذا طغى
سيل العداة فلا تهاب نزالا
الغرب يفخر بالرجال أما درى
كم أنجب الشرق العظيم رجالا
شادوا له صرحا يظل مجددا
في الشرق ما امتد الزمان وطالا
هذا سليل المجد إبراهيم قد
أبقى له الآساد والأشبالا
يهدي لإبراهيم إكليلا غدا
رمزا لمجد خالد ومثالا
يحيى فؤاد فيه ذكر فوارس
خاضوا الوغى واستبسلوا استبسالا
فلتحي مصر عزيزة بفؤادها
وليحي شعب يكرم الأبطالا
الإسكندرية
فريد حداد
ذكرى الفاتح العظيم
قدم حضرة الناظم هذه الأبيات إلى العتبات الملكية مكتوبة بخط جميل وهي:
يا فاتح الأقطار منك بجرأة
وبحكمة عزت على الأبطال
قم واستمع آي الخلود جميلة
من ألسن التاريخ والأجيال
ما زلت في صدر الزمان ولم تزل
رغم المنية في المقام العالي
أنجبت إسماعيل من أحيا الحمى
بجليل إصلاح وحسن فعال
وكفى بإسماعيل أن مليكنا
السامي ابنه، وفؤاد مصر الغالي
يا مصر تيهي إذ غدوت بعصره
تزهين بالإسعاد والإجلال
هذا فؤادك فانعمي في ظله
وتمتعي بعظائم الأعمال
نجيب هواويني
الجيش وذكرى إبراهيم
سر للحقائق إن تسر بحسام
ودع الخيال لهذه الأقلام
وإذا الصوارم واليراع تناظرا
فرقت بين الحق والأوهام
من للغزاة إذا رموك بصاخب
لجب، ومن للمبصر المتعامي
الكتب أضعف ما تكون وإنما
تقوى إذا حملت على الصمصام
وإذا امرؤ هز الحسام فقد صحا
من نومه بمعبر الأحلام
أي الشعوب حمى حماه بكتبه
أو نال بالأقلام أي مرام
أقسمت ما حفظ البلاد لأهلها
شيء كجيش للبلاد لهام
بالجيش تمتنع البلاد وهل ترى
من غاية عزت بلا ضرغام
لو أن للآرام نابا أصبحت
وكناسها أجم من الآجام
قووا لنا جيش البلاد وأمسكوا
عنا الكلام، فلات حين كلام
قووا لنا جيش البلاد فإنه
سر الحياة يدب في الأجسام
محمد الأسمر
مجد السيف وفضل القلم: عز الوطن في يمين سيد الوطن
إنما المجد ما بنى والد الصد
ق وأحيا فعاله المولود
لم تبخل مصر يوما أن تطيع حاكمها وحاكم الجد فيها يلقى منها الجد له، تمده وتنصره وتواليه وتواتيه، حتى لو خاض البحار لخاضتها أو رام السماء لبلغتها عن همة وخلوص نية، وجهد واستنفاد جهد، وصدق، وقلب صدق، وعمل صدق.
قال عمر بن الخطاب للحطيئة يوما: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: وكيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا وكان حازما، فكنا لا نعصيه، وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم، وكان فينا الربيع بن زياد، وكان ذا رأي وكنا نستشيره ولا نخالفه، وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره، فكنا كما وصفت لك. قال عمر: صدقت. ا.ه.
هكذا، ما أقرأ هذا الخبر حتى أتصور مصر إذا بعث الله لها ملكا صالحا وقائدا حكيما وذادة مخلصين. ومصر لها من دون الأمم تاريخها، إنما هو تاريخ ملوك، من عظم منهم عظمت به ومن خف منهم خفت به. وهذه الرقعة من وسط الدنيا القديمة دامت دار مصر، إن عزت حوطت مداها على طول الأفق أو هانت أرز مجدها إليها، حتى ما يكاد يهدأ في حاضرتها وربما طار حينا من تاريخها.
وهذا السر في مصر قد وقف عليه العباقرة الأحرار من ملوكها، فاستعملوه لها ولهم، وبسطوا ملكهم به مؤطر النواحي بمجدهم الباقية آثاره على هذا المدى. وغاب هذا السر عن كل خوان مأفون، فقبر به تارة أو قبر به أبناء الوادي، والتاريخ شاهد مزكي على صدق هذه النظرية في أطواره كلها وأطوار مصر معه. فلما بعث الله محمد علي ملكا على الوادي، كان من صفاء الروح وشحذ الهمة وقوة العبقرية بحيث عرف السر واستخرجه، فانتفع به ونفع أصحابه، فعادت مصر في أيامه إمبراطورية واسعة الأطراف من منابع النيل في الجنوب إلى منابع الفرات في الشمال، وقد ضم بيديه طرفي آسيا وأفريقيا في مضيق عدن، فغدا البحر الأحمر بحيرة مصرية ضفتها من آسيا جزيرة العرب إلى بحر فارس، ومن أفريقيا شطرها الشمالي الشرقي، ملك بناه رأي هذا الماجد وسيف ابنه ذاك العظيم إبراهيم الذي يهز مصر اليوم من تمثاله النحاسي هزة بعثتها فيها منذ مائة سنة إحدى انتصاراته اللاتي لو عدت مع أيام السنة لكفتها، واللاتي يبدأ الحفل بها اليوم، فإذا بدأ كرت على مصر ذكريات متلاحقة، فما إن تفيق من نصر إلا إلى نصر. ويوشك أن تعود مصر سيرتها الأولى وقد جاءها عبقري جديد يجدد لها حياتها جدة العصامي العظامي، والمجد عصامي عظامي، هو إذ يقف اليوم أمام تمثال الفاتح إبراهيم باشا فليست كوقفة الذين يقف التاريخ أمامهم هم، بل وقفة الذين يقف التاريخ له كما وقف من قبله أمام آبائه وأجداده.
إنما المجد ما بنى والد الصد
ق وأحيا فعاله المولود
أنا مصري من الذين تهزهم شعائر الوطن، وددت اليوم لو حشد المصريون ليروا ساعات الحفل في ميدان إبراهيم وقد وقف حفيده تحت قاعدة التمثال ومن حوله عصبته وأهل دولته وقادة جيشه والصفوة من جنوده، ومن ورائهم أفراد الرعية حافين بالعرش وحملته، زخرت بهم الشوارع وملئت بهم النوافذ، ورئيس الحكومة بين يدي مولاه يشدوا بمآثر أسرته، والعسكر يمتطون الجياد شاهري السيوف شاكي السلاح كاملي العدة، أبواقهم تضرب نوبة المساء مثل بوق الأسلاف في أسوار عكا واقتحام حصونها. منظر عجيب كفيل بالروح والإحساس، وبمثله تغذى أرواح الشعوب والأمم، ومنظر يهز المصري من عطفيه؛ عطف النصر وعطف الفخر بالنصر؛ إذ كانت فعلات أجدادهم بكرا لم يطمثها من رامها قبله. فإن سيد الحرب في الغرب رام أن يفتح عكا، فعزت عليه عكا فتركها على مضض، أما سيد الحرب في الشرق فإنه رام ونال المرام. وينتشر في العين منظر يغشى جند الميدان بطابع رأيته على قيد خطوات في الأوبرا أمام الميدان؛ إذ تمثل فيها رواية عائدة المصرية، فيرى الراءون جنود أسلافهم وقد جاءوا بالنهائب والسبايا، ولا فخر، فالولد سر أبيه. •••
وتصفحت الوجوه لأرى الكاتب الذي نشر «ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا» وأرى فيه روح النصر للقلم وقد خدم السيف بإحياء رب السيف، فإذا بأحياء السلف يستجيبون للكاتب قياما على فضل القلم. تنظرت الوجوه لأرى داود بركات وهو أولى من حقه أن يرى حفل اليوم فلم أجده، وقيل إنه في الفراش كان مدد قوته في تذكير أمته نفد به الوجد عن طاقة الاستعداد، فهو يستجم لعود المداد، وهكذا رجال الضحية من حملة السيف وحملة القلم إنما يعيشون بالذكرى أكثر مما يعيشون بالأعصاب. •••
وكان مما رأيت عمائم مجنحة فوق طيالس منشرة ذكرتني برواية الكاتب عن سحر محمد علي إذ نفث في القوم حتى هب شيوخ القوم يعتقلون السمهري بدل العكاز، ويستلئمون بالمغفر عن العمامة، ويدرعون الزرد من دون الفراريج، فعدلنا أسماء من شيوخ الأزهر وأبناء شيوخه تطوعوا في جده وطوعوا غيرهم تحتهم، فرقاهم الباشا في صفوف العسكرية إلى رتب القائمقام والأميرالاي واللواء. وقرأنا حديثه عن الشيوخ المتأخرين كما نقرأ حديث السلف الصالح عن شيوخ الصحابة وجلة أهل العلم وكانوا يعلمون ويعملون، ويعظون ويجاهدون ويسلكون دروب الحياة كلها مقتدين بالسيد الأعظم الذي قال وقوله الحق: «وجعل رزقي في ظلال رمحي.» •••
وخاتمة المقال بتكرير آية المجد ارتداء إبراهيم ببني مصر وهو عائد من حروب الشام وقد جعل جيشه ثلاث شعب، فنجت الثلاث الشعب على عيون الأعداء وسهر الكمياء مثلما ارتد خالد بن الوليد بالمسلمين في غزوة مؤتة من مكان قريب مما ارتد إبراهيم، فاستحق بحركته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لقبه الخالد في الإسلام «خالد سيف الله»، وكذلك شهد للعظيم إبراهيم كل عظيم في زمنه بحركته. •••
لم يطو لمصر علم ولا هزم جيش مصر - ولها قائد - في موقعة. ولم يترك إبراهيم بلاد الشام التي فتحها بسيف المصريين أمام دولة واحدة ولا دولتين ولا ثلاث دول، ولكن تجمع عليه أولو القوة من بني الدنيا جميعا: إنكلترا، وبروسيا، والروسيا، والنمسا، وإيطاليا، وتركيا، وثوار الشام. فخلص من هذه الجهات الست خلوص العزة حين قضت عليه السياسة أن يترك ما بيديه؛ فلم يتركه إلقاء المضيم، ولكن تركه في عزة المستطيع ولين القوي. فاليوم يستطيع كل مصري أن يرى عزته عن كثب، وأن يرى كيف ينال العز بالشرف، وهو إذ يتمثل نصر العز ممتلئ الحياة بفيض العز يقول مع رئيس الحكومة إنه لا يبغي حربا، وإنما يطلب حياة تليق بصاحب هذا التاريخ.
ولله در الشماخ، لو أنه يرى اليوم «فؤادا» في حشده تحت تمثال جده وقد استظل بيده الممدودة تقول: «إلى الأمام»، إذن لأنشده بيته الخالد:
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها فؤاد باليمين
مصرايم
ملاحظة:
كاتب هذا المقال هو صاحب الفضيلة الشيخ محمد سليمان نائب محكمة مصر الشرعية.
الاحتفال بذكرى فتح عكا
جلالة الملك عند تمثال البطل الفاتح - خطاب رئيس الوزارة - مظاهرات الطلبة والعمال والأهالي للملك
لأول مرة في تاريخ مصر الحديثة تحتفل بذكرى مجيدة من ذكرياتها العسكرية المجيدة، ذكرى نسر ونفخر بأن «الأهرام» كانت أول من عمل على إحيائها وإحياء اسم بطلها العظيم في سلسلة المقالات التي كتبها رئيس تحرير هذه الجريدة. والتي أثارت في الناس تقدير ذلك الماضي القريب المجيد، وحركت الرغبة في إحيائه في احتفال وطني كبير.
وقد اشترك في الاحتفال الجيش المصري ممثلا في جميع القوات المرابطة بالقاهرة، وهي أربع أورط من المشاة، وأورطتان من الفرسان، وبطاريتان من المدفعية بأسلحتهما. وقد اصطفت جميعها حول ميدان الأوبرا الذي اختير لإقامة الاحتفال عند تمثال البطل إبراهيم. واصطف معها تلاميذ المدرسة الحربية ومدرسة البوليس والإدارة.
وتجمع وراءها طلاب المدارس والأزهر الشريف وهيئات العمال المختلفة وعشرات الألوف من الأهالي الذين تجمعوا على الأفاريز، وغصت الشرفات في الدور المحيطة بالميدان بالناس.
وأقام قسم الأشغال بوزارة الحربية سرادقا جميلا على شكل كشك مرتفع إلى يمين التمثال، وفرشت الأرض أمام الكشك وأمام التمثال بالسجاجيد.
واصطفت قوات من البوليس عند منافذ الشوارع المخصصة للمرور وحول الجيش لحفظ النظام وعدم السماح لأحد من غير حاملي تذاكر الدعوة بالاقتراب من محل الاحتفال.
وكان يشرف على نظام البوليس بيكر بك حكمدار البوليس بالنيابة، ويشرف على النظام عامة صاحبا العزة أحمد كامل بك مدير الأمن العام وبدوي خليفة بك وكيله، ويشرف على نظام الجيش ضباطه، وكانوا جميعا بملابس الميدان.
ومنذ الساعة الرابعة أخذ المدعوون يفدون وبلغوا عدة مئات، ووقفوا ينتظرون تشريف جلالة الملك وفي مقدمتهم الأمير إبراهيم حليم والأمير محمد علي حسن والنبلاء إسماعيل داود وسعيد وطوسون وعمر وإبراهيم ومنصور داود وسليمان داود، ورئيس الوزارة ورئيسا مجلسي الشيوخ والنواب وعدلي يكن باشا والوزراء جميعا. ومن رجال القصر الملكي سعيد ذو الفقار باشا كبير الأمناء، ومحمد زكي الإبراشي باشا ناظر الخاصة، ومراد محسن باشا رئيس الديوان الملكي بالنيابة، ومحمود شوقي باشا السكرتير الخاص لجلالة الملك، وأحمد محمد حسنين بك الأمين الأول، ومحمد حسين بك الأمين الثاني، وفيروتشي بك باشمهندس السرايات الملكية، وعبد الوهاب طلعت بك مدير الإدارة العربية، وغيرهم من الأمناء والتشريفاتية والياوران.
وفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، ونيافة الأنبا يؤانس بطريرك الكرازة المرقسية، وسيادة الحاخامباشي مفتي الديار المصرية، والأستاذ السيد محمد الغنيمي التفتازاني، وكثيرون من كبار العلماء ورجال الأديان.
ورئيس محكمة النقض، ورئيس محكمة الاستئناف الأهلية، وجميع وكلاء الوزارات، ومحمد مفتي الجزايرلي بك وزير مصر المفوض بطهران، والمحافظون، وأكثر مديري المديريات ومستشارو محاكم النقض والاستئناف الأهلية والمستشارون الملكيون، وكبار رجال القضاء الشرعي، والأستاذ محمود منصور بك رئيس نيابة مصر، وأساتذة الجامعة المصرية وعلى رأسهم مدير الجامعة بالنيابة وعميدو الكليات.
وقواد الجيش المصري، وكبار موظفي وزارة الحربية، ومدير المدرسة الحربية، ومدير مدرسة البوليس وأساتذة المدرستين.
وعدد كبير من الوجوه والأعيان، وفي مقدمتهم: مدحت يكن باشا، وعبد الخالق مدكور باشا، وسمعان صيدناوي بك، ويوسف موصبري بك، وحامد العلايلي بك، ومحمود ثابت بك، وعبد الحميد الشواربي بك، والأستاذ أحمد رشدي المحامي، وحسين عاصم بك، وغيرهم كثيرون لم تسع الذاكرة أسماءهم.
وعند الساعة الخامسة تماما وصلت السيارات الملكية قادمة من سراي القبة العامرة، وكانت الجماهير تقدر بعشرات الألوف على طول الطريق، وصفقت هاتفة بحياة جلالة الملك، وبلغت الحماسة أشدها في ميدان الأوبرا لكثرة من تجمعوا حوله.
ولما نزل جلالة الملك من السيارة، قدمت قوات الجيش التحية العسكرية، وصدحت الموسيقى بالسلام الملكي، وتفقد جلالته قره قول الشرف الذي وقف تجاه الكشك الملكي الذي رفع عليه علم جلالة الملك. ولما انتهى جلالته من عرض القره قول صعد إلى الكشك محييا المنتظرين، رافعا يده مبتسما ابتسامة رقيقة، وصعد خلف جلالته الأمراء والوزراء، ورئيسا محكمتي النقض والاستئناف الأهلية، ورئيس المحكمة العليا الشرعية، ونقيب الأشراف، وسماحة السيد عبد الحميد البكري، فتفضل جلالته وصافحهم جميعا، ثم نزل ووقف عند قاعدة تمثال البطل إبراهيم باشا. وأحاط بجلالته الأمراء والنبلاء، ووقف إلى يمينه الوزراء والكبراء، وأمامه بقية المدعوين، ووقف بين يديه صاحب الدولة صدقي باشا رئيس الوزراء، فألقى الكلمة الآتية:
خطبة رئيس مجلس الوزراء
مولاي صاحب الجلالة
تحرص الأمم الراقية والشعوب الناهضة على إحياء ذكرى مفاخرها ومآثرها، والإشادة بها على مر السنين؛ لأنها بذلك تجمع بين تمجيد المحسنين وتسجيل الاعتراف بالجميل لرجالها النابهين، وبين تنشيط النفوس وإنعاشها وبث روح الثقة والتجديد فيها، ونشر ألوية الغبطة والفخار في كل مكان.
لهذه الاعتبارات الحيوية الجليلة، ننتهز هذه الفرصة السعيدة يا مولاي: فرصة مرور مائة عام على فتح عكا على يد جدكم العظيم، المغفور له إبراهيم باشا؛ لنحتفل بهذه الذكرى المجيدة في ظلال تمثاله، وبين يديكم الكريمتين.
ففي مثل هذه الساعة، وفي مثل هذا اليوم من عام 1832، استولى البطل إبراهيم على حصون عزت على غيره من الغزاة الفاتحين، وسجل لمصر بفعاله وبسالة جنده نصرا عظيما في صفحة الخلود.
ونحن بتمجيدنا هذا اليوم، إنما نمجد أسرتكم وجيشكم، ولا يحدونا في هذا التمجيد إلا عاطفتان اثنتان: عاطفة الإخلاص والولاء من ناحية، وعاطفة الإعجاب والفخار من ناحية أخرى.
فأما أسرتكم الكريمة، فإن مصر بأسرها لتذكر بالحمد والثناء أياديها البيضاء عليها، فهي التي وطدت في البلاد دعائم المدنية، وشيدت فوق الدعائم خير المنشآت.
وأما جيشكم الماثل أمام جلالتكم، فهو - يا مولاي - سليل تلك الجيوش الفاتحة، من حيث روحها واستعدادها، ومن حيث نظامها وولائها للوطن العزيز، وعرشكم المفدى.
نعلن ذلك في غبطة وفخار، ونحن أبعد ما نكون عن الإشادة بالحرب وما إليها، وحسبنا أن العالم بأسره يعرف ميلنا للسلام؛ إذ السلام شعاركم وشعار أمتكم، والناس على دين ملوكهم.
أدامكم الله يا مولاي ذخر البلاد وحصنها المنيع، وإن جيشكم الباسل لينتهز هذه الفرصة ليقدم فروض الولاء والإجلال لقائده الأعلى، وإن شعبكم المجيد لينتهز هذه الفرصة كذلك ليظهر فيها حبه والتفافه حول مليكه العظيم.
ولما انتهت الخطبة صفق الحاضرون لها طويلا ودوى بوري الجيش، ثم نادى الضباط: «تحية عسكرية!» فوضع الجنود أسلحتهم، الوضع العسكري الذي يؤدي معنى التحية، وأدى الضباط «سلام الملك»، فصدحت الموسيقى بالسلام الملكي، وهتفت قوات الجيش كلها: «يعيش فؤاد ملك مصر» ثلاثا، ثم صدحت الموسيقى بالسلام الملكي. وبعد ذلك اتجه جلالته نحو السيارة مودعا كبار المحيطين به، وصافح دولة صدقي باشا معربا عن سروره وإعجابه، وسار في عاصفة من الهتاف بحياته اشتركت فيها الجماهير العديدة.
وبعد ذلك تقدم حضرة صاحب السعادة علي جمال الدين باشا وزير الحربية ووضع عند قاعدة التمثال إكليلا جميلا من زهور القرنفل البيضاء على شكل دائرتين في أرضية من أوراق الزهر الخضراء. وفي وسط الإكليل شريط طرز عليه بواسطة مصنع الكسوة الشريفة العبارة التالية بخط فارسي جميل:
إلى البطل الفاتح العظيم إبراهيم باشا، من الجيش المصري تمجيدا للذكرى المئوية لفتح عكا. 27 مايو سنة 1932.
وبعد ذلك قدمت مواكب مظاهرات كبرى يقدر من اشتركوا فيها بعدة ألوف، ومع كل فريق علمه، وقد تيسر لنا أن نتبين منها أعلام نقابة الموظفين، ورابطة العمال المتحدة، واتحاد نقابات العمال العام الذي يرأسه حضرة الأستاذ إدجار جلاد، والأزهر الشريف ومدارس عديدة، وكانت جميعها تهتف بحياة جلالة الملك وبحياة الوزارة. وظل الزحام في الميدان إلى ما بعد الاحتفال بأكثر من ساعتين.
وزينت قاعدة التمثال بورق الأشجار الأخضر والأزهار، زينة بسيطة جميلة، وزين الميدان بالأعلام، وزين أصحاب الدور والمتاجر المحيطة به أماكنهم زينات بديعة. وفي المساء بدا الميدان في حلة باهرة من الأنوار المتألقة المتلألئة، وصدحت موسيقى الجيش إلى ساعة متأخرة من الليل. •••
ولم يدع الوزراء المفوضون ولا أحد من الأجانب؛ لأن الاحتفال مصري وطني بحت بذكرى مصرية، وهذه هي العادة المتبعة في الاحتفال بذكريات الحروب والفتوحات.
ذكرى إبراهيم باشا
ما اقترحه بعض أعضاء البلدية منذ أربع سنوات
الإسكندرية في 27 مايو، لمراسل الأهرام الخاص. لمناسبة الاحتفال الذي يقام اليوم في القاهرة لذكرى إبراهيم باشا ومرور مائة عام على فتح عكا، ذكرنا أحد حضرات نواب الإسكندرية في البلدية باقتراح قدمه إلى الهيئة البلدية في سنة 1928 اثنان من أعضائها في تلك السنة؛ هما الأستاذ سعيد طليمات بك الذي كان رئيسا للمأمورية ووكيلا للقومسيون، والمسيو فيلكس جرين؛ يراد منه إقامة «قوس نصر» في ميدان قصر رأس التين في هذه المدينة تذكارا للبطل الفاتح إبراهيم باشا، وأن ينقش على هذا الأثر التاريخي الثابت خلاصة تاريخ ذلك البطل وفتوحاته ومآثره البارزة . وكانت المأمورية قد درست هذه المسألة، ووافقت على الاقتراح مبدئيا، ووضعت لقوس النصر المقترح إقامتها رسوم مختلفة كان أخصها رسم يماثل أثرا من هذا الطراز مقاما في باريس لذكرى بعض أبطال فرنسا.
ولكن الحالة المالية لم تكن إذ ذاك تسمح بتنفيذ هذا المشروع، فأرجئ إلى الوقت المناسب، وطوي الاقتراح حتى الآن.
وفي نية أحد الأعضاء - كما فهمنا - أن يجدد ذكرى هذا المقترح التاريخي لمناسبة الاحتفال بذكرى إبراهيم باشا وفتح عكا منذ مائة عام، ومناسبة ما نشرته الأهرام من المقالات القيمة عن سيرة إبراهيم باشا، التي ذكرت الحكومة والأمة بفتوحاته المجيدة وأدت إلى إقامة هذا الاحتفال.
على أن الحالة المالية التي كانت تحول في سنة 1928 دون إقامة الأثر المقترح تحولت في هاتين السنتين إلى أزمة شديدة، وربما كان ذلك مما يوجب إرجاء هذا المشروع إلى وقت آخر، على أنه جدير بالتنفيذ.
ولهذه المناسبة نذكر أن الإسكندريين يعجبون لتسمية الميدان الذي فيه تمثال إبراهيم باشا في القاهرة «ميدان الأوبرا»، مع وجود ذلك الأثر الخطير فيه. وكان يجب أن يسمى «ميدان إبراهيم باشا» كما سمي الميدان الذي فيه تمثال محمد علي باشا في الإسكندرية «ميدان محمد علي» من زمن طويل.
نادرة لطيفة عن إبراهيم باشا في الشام
احتفلت البلاد أمس بذكرى مرور مائة عام لوفاة المغفور له إبراهيم باشا، الرجل الباسل الفاتح الشهير، ونعم ما فعلت، تكريما لرجالها العظام الذين يستحقون كل إكرام قدوة بسائر البلاد المتمدنة. وبهذه المناسبة أذكر للقراء حادثة طريفة تبين سطوة هذا الرجل العظيم في البلدان التي فتحها وهيبته وكرمه.
روى أحد أصدقائي نقلا عن والده من أعيان دمشق وثقاتها الإسرائيليين، أنه لما فتح إبراهيم باشا بلاد الشام كان يوما راكبا جواده متنكرا في ضواحي الشام، فقابل رجلا سائرا على الأقدام واسمه «يوسف الرايق»، هذا الرجل كان من الباعة الذين يسرحون بأقمشة على أكتافهم يطوفون القرى المجاورة يبيعونها للفلاحين أو يستبدلونها بدجاج أو بيض أو بما أشبه ذلك، وكان يومئذ ذاهبا إلى قرية جوير، وهي تبعد عن الشام نحو نصف ساعة، ولما مر به إبراهيم باشا نزل عن جواده وسأله عن مهمته أو سبيله، ثم قال له: ألا تخاف يا رجل أن تذهب وحدك في البرية؟ ألا تخشى اللصوص وقطاع الطريق وأنت بلا سلاح؟ فأجابه على الفور ولم يكن يعرف من الذي يخاطبه: «لا يا أفندى، كيف أخاف وأبو خليل موجود في البلاد!» وافترقا كل في سبيله. وبعد نصف ساعة اعترض فارس آخر يوسف في الطريق وأوقفه عن السير، فخاف هذا وهو يظنه من قطاع الطريق، ولكنه بالعكس كان رسول خير وبيده عشرة جنيهات هدية له من «أبو خليل».
عاد يوسف مسرورا إلى منزله بغنيمته عوضا عن الدجاج والبيض وهو يثني على كرم المهدي ويردد قوله: «الله يطول عمرك يا أبو خليل.»
الدكتور هلال فارحي
ماذا أعدت الأمة والحكومة لمكافاة محيي ذكرى إبراهيم باشا؟
بيننا رجل هو من أفاضل كتابنا ومن أماثل حملة القلم فينا، ومن مفاخر صحافيينا، له في المشاكل السياسية رأي ناضج، وفي المعضلات الوطنية قول صادق، لم تصب الأمة بأزمة أيا كان خطرها إلا وتراه قد طلع على الناس بالقول الصائب والرأي الفاصل والبرهان المنير. تسهر عيناه في البحث والتنقيب وانتزاع الحجج والبرهانات تأييدا لحق الأمة فيما يعرض من أمر وما يتاح من شأن، بينما غيره في سكرة من متع الحياة. ينظر في الآفاق ويرقب الأحداث، حتى إذا لاح له نجم مشرق يتلألأ بذكرى يوم من أيام الأمة المشهودة، بادر إلى تخليده وتذكير الناس بوجوب تمجيده، فتهتز له القلوب وتصغي إليه الأسماع وتميل نحوه الأعناق، فيعود كل امرئ إلى نفسه يرميها بالقصور ويتهمها بالإهمال، ثم يلتفت إلى ذلك الرجل العامل المجد. فماذا يكون نصيبه من الالتفات؟ لم نر له من حظ ولا نصيب على ما قدم لهذه الأمة إلا ابتسامة الاستحسان أو نظرة الإعجاب، ثم لا يلبث أن يتلاشى ذلك الاستحسان وينسى ذلك الإعجاب بين الضحى والعشي. وذلكم الرجل هو الكاتب الباحث المنقب الكبير شيخ الصحافة وإمام الكتاب: الأستاذ داود بركات. وهذا هو حظه من هذه الأمة، وليس هو بالحظ الذي يدل على الكمال والنضوج أو يشير إلى حسن القياس والتقدير؛ لأن الأمة الكاملة الناضجة لا يفوتها أن تقدر العاملين المخلصين ولا تنسيها الأحداث والغير مكافأة المجدين الصالحين.
لنترك مواقف داود البارعة في صفوف العاملين طوال زمن الاحتلال، ولنطو الآن صفحة مكافحته خصوم البلاد، فجريدة الأهرام حافلة من آثاره الخالدة بكل شريف وكريم. ولنلق نظرة سريعة على مشاهده الباهرة منذ قيام هذه الحركة الأخيرة؛ لنتبين منها آثار هذه النفس المتوثبة، وهذه الروح الكبيرة، وهذا العقل الناضج، وهذا القلب النابض بالغيرة والإخلاص، وهذا القلم المعجز الفياض، وما لتلك الآثار من الفضل الكبير على هذه الأمة الغافلة.
قامت الحركة الأخيرة منذ اثنتي عشرة سنة، وحضر إلى مصر مستر شيرول مستطلعا طلع الأمر فيها محاولا تصوير الحالة في الصورة التي يراها في مصلحة أمته، فصمد له داود وأخذ يناقشه مناقشة العالم بأسرار السياسة البريطانية واتجاهاتها، وأخذ يناظره مناظرة الكاتب الوطني الغيور. وما زال ينجد معه ويهتم ويقف به على أسباب الداء ويرشده إلى حقيقة الدواء بالحجة القاطعة والبرهان المبين. وهل من دواء إلا أن يترك الإنكليز البلاد لأهلها وأن تستقل بنفسها لنفسها؟! هكذا كان اتجاه داود ومطلبه، فماذا صنعت له الأمة وبماذا كافأته؟!
قامت مسألة السودان وجرى البحث في حقوق مصر فيه، وكبرت دعاوى الإنكليز بشأنه، وأخذ الكتاب في المناقشة والمباحثة، وتناولوا الأمر فيما بينهم جذبا ودفعا وخفضا ورفعا. وبينا هم في أمر من شأنه مريج طلع داود على الأمة بكتابه الفذ القيم «السودان المصري والإنكليزي»، فقطع قول كل خطيب وأنار السبيل وعبد الطريق وأوضح المسالك وبين ما لمصر في السودان من الحقوق الثابتة التي أيدتها الدماء المهراقة في صحاريه والأموال السائلة في بواديه. وقد عرف كل مصري أن السودان له دون غيره من سائر خلق الله، وذلك بفضل داود وبعقل داود وبقلم داود. فماذا صنعت الأمة لداود وبماذا كافأته؟!
تحدث الناس في شأن الحركة العرابية، وكتب الكتاب فيها، وذهبوا في أسبابها ونتائجها مذاهب شتى، وتناولها الباحثون بمختلف الفكر والآراء، فطلع عليهم داود بمقالاته المحققة ورسائله الممحصة، فجلا بهما غواشي الظلم المتراكبة، وأظهر الأسرار وبين المعالم وأعطى من كل ناحية نواحيها حقها من البيان والإيضاح، وحقق الأسباب وصحح المقدمات وخرج بالنتيجة التي لا ترد وبالغاية التي لا تدفع، فماذا صنعت الأمة لداود وبماذا كافأته ؟!
درجت الأمة ومضت السنون والناس لا يعرفون من أمر إبراهيم باشا شيئا، وقد أنكروه، حتى إنهم كانوا يسمون تمثاله بالحصان ويعتدون القرب منه سبة عار. ولكن داود لا يحب أن تجهل هذه الأمة تاريخها إلى هذا الحد، ولا يستريح إلى أن تستهين بأبطالها إلى هذا المقدار، فاستثار كوامن نفسه، ونبه المختزن من حافظته، وأرسل نظره في بطون الدفائن من الأوراق والمستندات والدفاتر، ثم أرسل قلمه البليغ يتوغل في شعاب البحث والدرس والاستقراء، فجلا للأمة - بل للأمم كافة - حقيقة البطل المصري العظيم إبراهيم باشا، وعرض عليهم مواقفه الهائلة في الذياد عن كيان الأمة، ومشاهده العظيمة في العمل على توسيع رقعتها وامتداد سلطانها. كما قرأ على الناس صفحة خالدة من أنصع صفحات الجيش المصري المجيد، فنبه الأمة إلى تمجيد هذا البطل الكريم وإلى الاعتزاز به والافتخار بأعماله. كما أيقظ الحكومة من سباتها، فقامت تحتفل بذكراه عن إحدى وقائعه الكبرى وفتوحاته الجليلة، وكان يوم 27 مايو من مفاخر الأيام في هذه الأمة. فماذا صنعت الأمة لداود وبماذا كافأته؟! وماذا صنعت له الحكومة وبماذا كافأته؟!
أرى أنه يجب على الأمة إزاء هذه الأعمال العظيمة التي قام بها داود بركات، وهذه الخدمات الكبرى التي قدمها إليها حسبة لوجه الله، وقياما بحقوق هذا الوطن العزيز، أن تظهر له شعورها الفياض فتقيم له حفلة تكريم، وتقدم له فيها تذكارا ثمينا يتفق مع عزتها وكرامتها؛ لتثبت أنها أمة حية صالحة للبقاء، وأنها تقدر العاملين وتعرف أقدار المخلصين.
وأما الحكومة، فمن واجبها أولا: أن تمنح هذا الكاتب العظيم لقبا من ألقاب الشرف التي يحملها السني والدني. ثانيا: أن تقوم الجامعة بمنحه لقب الدكتوراه الفخري؛ فهو من أحق الناس بحمله وأجدرهم بالتلقب به. أليس قد قدم للأمة سفرا ضخما عن إبراهيم باشا وفتوحاته تندق الأعناق وتتحطم الأصلاب دون كتابة مثله؟ ثالثا: تدفع إليه الحكومة مقدارا مرضيا من المال مكافأة له عما عانى في هذا البحث وما بذل في سبيله من النفس والنفيس. رابعا: تأمر بطبع هذا التاريخ ونشره بين الناس وتقريره في مدارسها الكبرى وفي مكاتب المدارس على الإطلاق على نفقتها بطريق التراضي معه على ذلك.
هذه كلمة صراحة وإخلاص أنشرها خدمة لسمعة أمتي وقياما بحق هذا الكاتب الجليل الذي طوق أعناقنا جميعا بمننه التي لا تنسى، فهل من سميع؟!
حسن السندوبي
بعض مراجع الكتاب
الوقائع المصرية.
مذكرات كلوت بك.
مذكرات الدكتور غالياردو.
الوثائق الرسمية التي طبعتها الجمعية الجغرافية.
تاريخ مشاقة.
مذكرات نوفل.
تاريخ الأعيان لطنوس الشدياق.
تاريخ جوين.
مذكرات دوين.
تقويم النيل لأمين سامي باشا.
الجبرتي وميخائيل شاروبيم.
البحر الزاخر لمحمود فهمي باشا.
الرسائل الشرقية.
سليمان بك أبو عز الدين.
المسألة المصرية الفرنسية.
مذكرات سليمان باشا الفرنساوي.
وذلك ما عدا الوثائق الخطية التي وصلت إلى المؤلف، ومما ترجم له من الدفترخانة ومؤلفات بريه ولوران وبوجولات وموريز.
صفحه نامشخص