قهرمان فاتح، ابراهیم و فتح شام ۱۸۳۲
البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام ١٨٣٢
ژانرها
إهداء الكتاب
لمحة من حياة المؤلف رحمه الله
دمعة وعهد
تمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
صفحه نامشخص
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الوثائق السياسية الرسمية
صفحه نامشخص
تعليقات
بعض مراجع الكتاب
إهداء الكتاب
لمحة من حياة المؤلف رحمه الله
دمعة وعهد
تمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
صفحه نامشخص
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
صفحه نامشخص
الفصل الخامس عشر
الوثائق السياسية الرسمية
تعليقات
بعض مراجع الكتاب
البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام 1832
البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام 1832
تأليف
داود بركات
المؤلف.
إهداء الكتاب
صفحه نامشخص
إلى مصر العزيزة التي أحبها داود من صميم قلبه فضمته هي في صميم قلبها.
إلى أبطال مصر من عهد محييها محمد علي باشا إلى عهد حفيده فؤاد الأول أمد الله في عمره.
إلى أصدقاء داود وصحبه وإخوانه.
إلى روح داود التي أفرغ منها في كل سطر من هذا الكتاب نفثة.
أهدي هذه الصفحة المجيدة من تاريخ البطولة المصرية.
بركات بركات
لمحة من حياة المؤلف رحمه الله
في صباح اليوم الثامن من شهر ديسمبر سنة 1867 ولد داود بركات في بلدة «يحشوش»، إحدى القرى الكبيرة في فتوح كسروان في لبنان، وتلقى وهو في عهد الطفولة مبادئ العربية والسريانية والإيطالية واللاتينية على عمه المرحوم الخوري يوسف بركات الذي كان من حاملي ألوية العلم والأدب، ودخل بعد ذلك مدرسة المحبة في بلدة عرامدن، وهي مدرسة قديمة كانت تتقن تعليم اللغة العربية على الخصوص. ثم انتقل منها إلى مدرسة الحكمة في بيروت، وهي المدرسة المشهورة بتخريج العلماء والكتاب والشعراء حتى لا يكاد يخلوا قطر في العالم من خريجيها، فكان داود من أنبغ تلامذة العلامة المشهور المرحوم عبد الله البستاني.
ولما أكمل دروسه - وهو لا يزال في سن المراهقة - تولى التعليم في مدرسة «بير الهيت» من المدارس المحلية في لبنان، ولكن المحيط الأدبي كان في نظره ضيقا، فهجر لبنان وجاء إلى مصر حيث التحق بإحدى الوظائف الحكومية في مديرية الغربية، وظل فيها سنة تقريبا ثم انتقل بعدها إلى التدريس في مدينة زفتى.
ولما كان يميل بطبعه إلى الكتابة، فقد كان ينشر في الصحف بين حين وحين بعض الكتابات في شتى الموضوعات، إلى أن حدثت فاجعة في زفتى فالتهمت النار منزل أحد الأعيان. عندئذ أثرت الحادثة بنفسه، فكتب عنها إلى جريدة المحروسة مقالا أعجب به صاحبها، وكان ذلك سببا لاشتراك الفقيد في تحريرها من مدة الزمن.
صفحه نامشخص
ولم يطل عمله في المحروسة، فأنشأ مع صديقه الشيخ يوسف الخازن وابن عمه الأستاذ إبراهيم بركات جريدة الأخبار التي راجت في ذاك العهد رواجا كبيرا.
وفي سنة 1899 انتقلت الأهرام إلى القاهرة، فتولى رئاسة تحريرها، وظل فيها إلى أن وافاه القدر المحتوم في 4 نوفمبر سنة 1933 في منتصف الساعة العاشرة صباحا.
هذه لمحة موجزة لحياة الفقيد، ولو حاولنا التبسط في الكتابة عنها من الوجهة الأدبية والخيرية والعلمية ... إلخ، لملأنا مجلدا بأكمله. رحمات الله عليه!
دمعة وعهد
أي داود ...
ظننتني وأنا أبكيك حولا كاملا أن الدمع قد يطفي شيئا من حر قلبي، ولكن الظن خاب، وما كان من نار الحزن إلا أن زادت سعيرا، والدمع يا أخي يجلب الدمع!
ها هو العام يمضي ونحن نعيش بدونك.
نتلمسك في البيت صباحا فإذا البيت كئيب يندبك، ونترقبك في العش ليلا فإذا بالعش خال إلا من الزغاليل، تصيء بعد فقد عميدها، وتميل إلى بعضها ليصعد كل منها مع الآخر زفرة تتصاعد وتعلو ثم تعلو إلى أن تبلغ السماء حيث أنت، ولكنها بعد ذلك تضمحل وتخفت وتتبدد في اللانهاية وأنت ساكن ساكت، وما عودتنا من قبل صمتا وإعراضا!
أخي داود!
ما غيبك الجدث ولا القبر طواك، بل أنت ماثل أمام العين، وستظل ماثلا ما دام في العين نور وفي القلب خفقة.
صفحه نامشخص
وما أزال ولن أزال أترسم خطاك متخذا طريقي طريقك ومقتفيا في الباقي من حياتي أثرك إلى أن يجمعني الله بك.
وكانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حيا
ما نسيت قط يا أخي عندما كنت أخلو إليك في البيت أو في الطريق أو المكتب أو أي مكان آخر ما كنت تطلعني عليه مما يجول في صدرك من شتى الموضوعات والرغبات، وتحدثني عما ترتاح إليه نفسك في مختلف مناحي الحياة وما يضيمها ويزيد في متاعبها.
وإن أنس لا أنسى رغبتك في أن يكون تاريخ «البطل الفاتح إبراهيم» مجموعا في سفر واحد بعد أن كنت قد نشرته فصولا في الأهرام.
وها أنا الآن - وقد ربيتني كما ربيتني - أبر بوعدي لك بتنفيذ رغبتك، وأجمع - على قصوري - هذا التاريخ المجيد، فأجعله خير إكليل أضعه على قبرك في مثل هذا اليوم الذي شاءت العناية أن تختطفك فيه منا، ويا ليت الناموس الطبيعي كان قد لها عن تدوينه في حياتنا وفي سني العمر.
نعم ها أنا أسجل بنشر هذا التاريخ حبك لمصر وتفانيك في خدمتها، فلعلي بذلك أكون قد قمت بشيء من واجبي نحوك وواجبك نحو وطنيك: لبنان ومصر خاصة والشرق عامة.
فتقبل يا أخي داود، مع الدمع الذي أذرفه على قبرك، ما قد فعلت تنفيذا لرغبتك، وارقد بسلام يا شقيقي الحبيب.
وإلى الملتقى.
صباح 4 نوفمبر سنة 1934
صفحه نامشخص
بركات بركات
مقدمة الكتاب
روحان تآخيا في الحياة فلم يفصم الموت تآخيهما: أنطون الجميل، وداود بركات.
وها هو الأستاذ الكبير أنطون الجميل بك يفرغ من عواطف نفسه تحية إلى داود في تاريخ «البطل الفاتح إبراهيم».
فهل هناك خير منها مقدمة للكتاب؟ ***
داود بركات ...
حال الحول على وفاته، ولا يزال اسمه ملء الأفواه والأسماع، ولا تزال الحسرة عليه ملء الجوانح والقلوب.
كل يذكره بحسنة من حسناته، حسب الجانب الذي عرفه من جوانب حياته: فالكثيرون يذكرون فيه الصحفي اللبق والكاتب الفياض القريحة.
والكثيرون يذكرون فيه الصديق الأمين والخل الوفي.
والكثيرون يذكرون فيه رجل النجدة والمروءة والهمة القعساء.
صفحه نامشخص
أما أنا فأذكر فيه كل ذلك؛ لأني عرفته من جميع هذه النواحي مدة ربع قرن؛ فقد كان أول من قرأت من الصحفيين الذين يعالجون الموضوعات القومية العامة، وقد كان لي طول هذه السنين الصديق الودود، بل الأخ العطوف. ولطالما خبرت غيرته ومروءته واستعداده لتلبية من يستنجده.
عرفت فيه ذلك كله، فكان حزني عليه بقدر ما عرفت وما خبرت، وكان حزنا مضاعفا لأنه اشترك فيه العقل والقلب، وما كانت الحوادث في كل يوم من هذه السنة إلا لتجدد ذكراه وتثير عاملا جديدا على الأسف عليه.
وإذا كنت قد دعيت اليوم لكتابة هذه السطور في صدر هذا الكتاب، فقد تلقيت هذه الدعوة بالشكر والحمد؛ لأنها أتاحت لي الفرصة لأقوم بواجب الذكرى وواجب الوفاء، فأظل ذاكرا وفيا له بعد الممات، كما كان لي وكنت له في الحياة. •••
هذا الكتاب حسنة من حسناته، أودعه شيئا من حبه لمصر؛ وطنه المختار، ومن إعظامه لبناة مجده ورجالاته، كما أودعه شيئا من حبه للبنان وطنه الأول وتعلقه بتقاليده وعاداته. فلقد طالما سعى وكتب لتوثيق عرى الوداد والولاء بين القطرين الشقيقين، ولم يكن أحق من «إبراهيم الفاتح» في تمثيل القطرين في شخصه؛ فقد كان سيفه صلة الوصل بينهما، كما كانت أقلام الكتاب فيما بعد موثقة لهذه الصلة. وإذا كان تمثاله قد قام في قلب العاصمة المصرية يذكر بفتوحه وانتصاراته، فإن له في قلوب الناس في الديار الشامية تمثالا يذكر بعدله وإصلاحاته.
كان إبراهيم من أبرز الشخصيات في تاريخ الشرق العربي الحديث ومن أبسل قواده. قاد الجيوش المصرية المظفرة في حروب الوهابيين والمورة والشام. ولعل فتحه الشام كان من أكثر أعماله توفيقا وأبعدها أثرا، فقد سار فاتحا، والنصر معقود بأعلامه، من غزة إلى عكا إلى دمشق إلى حمص إلى حلب، وتخطى تخوم سوريا إلى آسيا الصغرى، من أطنه إلى طرسوس إلى أزمير فقونيه، وهو يهزم أو يأسر جيشا بعد جيش حتى أصبح يهدد الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية.
هذا هو الفتح المجيد الذي رأى المؤلف - رحمه الله - أن يدون حوادثه ووقائعه ونتائجه السياسية والاجتماعية في فصول متتالية نشرها منذ ثلاث سنوات في «الأهرام» لمناسبة مرور مائة عام على فتح الشام.
كان الفقيد من أغزر الكتاب مادة وأجودهم قريحة وأخصبهم إنتاجا، ولو قام من يجمع الفصول والمقالات الشائقة التي دبجتها يراعته، في مختلف الموضوعات، في «الأهرام» وفي غيرها من الصحف مدة ثلث قرن، لتوفر لديه مجلدات ضخمة في السياسة والعلم والأدب والاجتماع. ولكن فصوله هذه التي ضمتها دفتا هذا الكتاب قد تكون خليقة بالنشر قبل سواها لعلاقتها الروحية الوثيقة بما وقف عليه حياته من خدمة القطرين اللذين جمع إبراهيم باشا بينهما بروابط سياسية تمكنت السياسة من فصمها بعد حين، وبروابط أدبية ومعنوية لم يكن مرور قرن كامل ليضعفها.
ما حدثت الفقيد يوما في وجوب جمع بعض آثاره العلمية إلا ابتسم معرضا. أما فصوله المجموعة في هذا الكتاب عن البطل الفاتح فقد كان يبتسم مرتاحا إلى نشرها، وكان قد بدأ يأخذ العدة لذلك بنفسه عندما عاجلته المنية.
لذلك أحسن شقيقه الأبر، الأستاذ بركات، الإحسان كله في قيامه بهذا العمل وانصرافه إلى تنسيق تلك الفصول ونشرها في هذا الكتاب، تذكارا لمن كان له أبا وأخا: فكان كلاهما بارا بأخيه شأن النفوس الزكية.
ولا ريب في أن محبي داود والمعجبين بداود يقدرون لأخيه صنيعه، ولعل القراء يمهدون له السبيل لينشر تباعا بعض آثار الفقيد كتاريخ الثورة العرابية، وتاريخ المسألة المصرية، وغير ذلك من الفصول والمباحث.
صفحه نامشخص
أما أنا فإني - فوق إجلالي لعمله - أشكره لأنه مكنني في ختام العام من أن أضع زهرة الذكرى على ضريح هذا الفقيد العزيز.
أنطون الجميل
تمهيد
هل ندري ونحن نمر أمام ذلك التمثال في ميدان الأوبرا أمام أية قوة من قوات البطولة نمر؟ وهل نعرف أن هذا التمثال سفير كبير لأجل صفحة من صفحات التاريخ؟ وهل نعرف أنه يجب علينا أن نقف أمامه ذاكرين، وأن نعلم أولادنا من هو صاحب التمثال، فإذا علمناهم حببنا إليهم البطولة وعلمناهم تاريخ مصر الحديثة، بل تاريخها المجيد؟
أندري إلى أي حد بلغ جهل العامة، فقدموا ذكر الحصان على راكبه، فيضربون الموعد للقاء عند «الحصان» أو في القهوة أمام «الحصان»، وتعلو الفلاحات الساذجات فوق الكافة، فينظرن إلى الفارس لا إلى الفرس، ويقلن إذا ما تحدثن عنه: «المادد إصبعه»!
أندري إلى ما تشير تلك اليد الباطشة القوية؟ إنها تشير إلى المورة وكريد وبلاد اليونان، وقد أعجز الباب العالي إخضاعها، فندب لها إبراهيم على رأس 16 ألف جندي دوخوها ودكوا حصن موسوليغي الحصين إلى أن أخذت أساطيل الدول أسطوله بنيرانها من كل جانب وهو راس في فرضة نافارين، فوقف إبراهيم البطل البطاش والفاتح العظيم ينظر إلى ذلك الأسطول الذي كان الثالث في أساطيل البحر المتوسط يحترق بلا إنذار ولا وعيد، فدمعت عيناه ولم يفه إلا بكلمة وجهها لأحد رفاقه من الضباط الفرنساويين: «أتشترك فرنسا بتحطيم الأسطول الذي بناه مهندسوها؟!» وكان الأسطول مؤلفا من 63 سفينة حربية و100 مركب لنقل الجنود، ثم صدر إلى إبراهيم أمر أبيه بالعودة برجاله فعاد، ولم تستهل سنة 1825، ووصلت اليونان بعد عودته إلى استقلالها بتألب الدول في سنة 1826.
أندري أن هذا البطل هو الذي صعد في السودان إلى النيل الأبيض فسمي في ذاك الحين باسمه كما سمي النيل الأزرق باسم أخيه إسماعيل وكما سميت بحيرة الأوغندا «الإسماعيلية» باسم ابن إبراهيم.
وهل ندري أنه هو الذي أخضع بلاد العرب كلها: نجد - بعد أن شتت شمل الوهابيين - والحجاز واليمن، وأعاد مفاتيح الكعبة لتركيا؟
أندري ونحن ننظر إلى تمثال هذا البطل المغوار والفاتح العظيم، أنه تولى حكم مصر السفلى ولم يزد عمره على 17 سنة ليمكن والده من السفر إلى الحجاز في سنة 1813، فأظهر من الحنكة والدراية ما كان مضرب المثل؟
أندري أنه وهو فتى الإهاب كان يعامله أبوه وهو يعامل أباه النابغة معاملة النظير للنظير، حتى خيل للسذج من رجال الدولة الذين يجهلون تاريخه أنه ليس ابن محمد علي، بل هو ابن زوجه، تبناه محمد علي بعد وفاة ابنه طوسون الذي قاد قبل إبراهيم حملة الوهابيين ومات في برنبال بالطاعون، ولكن مؤرخ محمد علي «إدوار جوين» رد هذه الفرية ودفعها، فقال: إن محمد علي تزوج من ثيب غنية لما أظهره في بلده من البطولة، فرزق منها خمسة أولاد ذكور؛ منهم إبراهيم وطوسون وإسماعيل، وكان مولد إبراهيم في سنة 1789، وقد وصف الذين زعموا ذلك الزعم بالقحة والسماجة والباطل!
صفحه نامشخص
حمل إبراهيم علم مصر عاليا من سنة 1814 إلى سنة 1840، فما نكس بيده مرة واحدة، بل رفرف هذا العلم بيده والنصر معقود بأهدابه في الجزر اليونانية وبلاد اليونان والصرب وفي أفريقيا والأناضول وبلاد العرب وسوريا.
وإذا كان إبراهيم قد اشتهر بصلابته في القتال، فإنه قد اشتهر أيضا بصلابته في العدل بين الناس، حتى بات إلى اليوم مضرب المثل بالعدل في بلاد الشام التي حكمها ثماني سنين، فلم يكن الحاكم العسكري فقط، بل كان العسكري المصلح الذي بقيت آثاره هناك إلى اليوم، ولا يزال الناس يتغنون بعدله إلى الآن ويضربون على ذلك الأمثال.
وهذا ما حمل بعض الأدباء في لبنان إلى مكاتبة أصدقائهم هنا بأن تؤلف لجنة من المصريين والسوريين لإقامة عيد السنة المائة لاستيلاء إبراهيم على بلاد الشام من حدود صحراء سينا حتى جبال طوروس. وإبراهيم هو الذي نظر مع والده إلى وحدة هذه البلاد، فلما تألبت عليه الدول وقررت أن تكون حدود مصر سيناء، رأى إبراهيم ورأى والده أن تتلقى العلوم في المدراس المصرية العالية مجانا طائفة من أبناء تلك البلاد، وأن يكتب على شهاداتهم التي ينالونها ما يشعر بذلك؛ لتكون دليلا على عطف مصر وإخائها. وظل الحال على هذا المنوال إلى أن كان الاحتلال الإنكليزي، فقطع هذه الصلة الروحية بعد أن قطعت الدول الصلة المادية بإقامة الحدود التي محاها إبراهيم بسيفه.
كثرت أساطير الناس وأقاويلهم عن إبراهيم، فإذا لم تكن تلك الأساطير والأقاويل صحيحة، فإنها تدل فقط على اعتقاد الناس بحكمته وعدله؛ فقد رووا أنه لما عزم محمد علي على استئناف النضال في بلاد الوهابيين - بعد وفاة ابنه طوسون الذي عقد هدنة مع زعيم الوهابيين - جمع قواده ورجال الحكم والسلطة وبسط لهم إرادته، وبعد ذلك أمر ببسط إحدى الطنافس الكبيرة في الدار ووضع في وسطها تفاحة، وقال: إن الذي يتناول التفاحة بيده ويقدمها لي دون أن يمس السجادة أوليه قيادة الحملة. فأخذ الحاضرون يتطاولون إلى التفاحة بلا جدوى، إلى أن جاء دور إبراهيم وكان قصير القامة، فلم يزد على أنه تناول طرف الطنفسة بيده وطواها إلى أن وصل إلى التفاحة، فتناولها وأعطاها لأبيه، فولاه قيادة الجيش.
لا شك في أنهم يقولون ذلك ويبتدعونه كما ابتدعوا حكاية البيضة وكريستوف كولمب إذ ازدرى حساده بعمله أمام الملك، فطلب منهم أن يوقفوا بيضة على رأسها، فلما أعجزهم الأمر تناول البيضة وكسر أحد رأسيها فوقفت!
ويروي أهل الشام عن عدله، أن عجوزا شكت إليه جنديا أكل تينها اغتصابا، فأتى بالجندي وسأله فأنكر، فقال للمرأة وقال للجندي: إني سآمر ببقر بطنه فإذا وجدت فيه بزر التين أكون قد أنصفتك منه، وإلا فإني ألحقك به. فارتضت، ووجد بزر التين بأمعاء الجندي - أسطورة عندهم على عدله. •••
قبل أن نتكلم عن فتح الشام والأناضول نحتاج مع القارئ إلى استعراض الحالة السياسية في ذاك العصر؛ لنعرف كيف اندفع محمد علي إلى الفتح، والسبب الذي دفعه، وماذا كانت مهمة إبراهيم في بلاد اليونان وبلاد العرب، ولماذا وكيف دكت تلك الإمبراطورية التي ألفها إبراهيم بسيفه ومحمد علي بحكمته. وقد وصف المؤرخ «جوين» محمد علي بقوله: «سلك مسلك الثعلب أحيانا، ومسلك الأسد دائما، فألقى بالعثمانيين بأيدي المماليك، وبالمماليك بأيدي الألبانيين، وبهؤلاء بأيدي المصريين. وهدم أربعة ولاة دون أن يخشى الجلوس على أريكة مزعزعة، حتى قالوا إن صعوده إلى تلك الأريكة كان عملا عظيما جدا، ولكن بقاءه على تلك الأريكة كان أعجوبة.»
كانت تركيا مريضة تحتضر، ولم يكن يمنع الدول عن اقتسامها سوى اختلافهم على ذلك الاقتسام. وكانت مصر مطمح أنظار الفرنساويين، فبعد أن أخرج الإنكليز جيش نابليون منها وفسخوا معاهدة «أميين» التي كانت تقرر الاحتفاظ بمصر كما هي، تطلعوا إلى بسط حمايتهم عليها بواسطة المماليك الذين كانوا يحكمونها. وكانوا فيها حلفاء الإنكليز الذين كانوا قد قدموا للباب العالي اقتراحا بإثبات هذه الحماية، فأرسل الفرنساويون قنصلهم دي ليسيبس إلى مصر ليبحث عن الرجل الذي يستطيع مقاومة الإنكليز إذا هم حاولوا الاستيلاء على مصر، فوجد ضالته بمحمد علي، فبذل له كل مساعدة، ووجد محمد علي بالعلماء أصحاب السيطرة أكبر عون، فاختاروه واليا وطردوا الولاة الثلاثة الذين عينهم الباب العالي؛ لأن البلاد كانت قد ضجرت وملت حكم المماليك، وأراد الإنكليز احتلال البلاد فتمكن محمد علي من طردهم بعد احتلال الإسكندرية ستة أشهر، وكانت تابعة للباب العالي فضمها محمد علي إلى حكم البلاد.
وعرف أن الإنكليز هم أعداؤه السياسيون، فحاول الاتفاق معهم، ولكن حكومتهم فضلت اتباع سياسة هدمه على سياسة محالفته، وظلت هذه السياسة سياستهم حتى النهاية، واحتكر محمد علي الغلال، فاستطاع أن يؤلف جيشا ويبني أسطولا، وأن يضع أمام عينيه امتلاك بلاد العرب وسوريا والعراق وتأليف إمبراطورية عربية.
ولم يفاجئ محمد علي حكومة إستامبول برغبته في أن يتولى حكم سوريا، بل طلب ذلك من صارم بك رسول السلطان إليه، كما طلبه من نجيب أفندي الرسول الثاني، ولكنه قرن الطلب بأن يكون حكم مصر وسوريا وراثيا، وكانت حكومة السلطان تجعل الحكم في البلاد إقطاعيا، فلا يهمها إلا أن يدفع الوالي المال، فإذا تقدم آخر بالزيادة ولته وخلعت الذي تتقدمه. أما الحكم بالتوارث فلم تكن تسلم به، وبلغ ما عرضه محمد علي على الباب العالي مقابل حكم سوريا 60 ألف كيس في السنة - الكيس 500 قرش - فعرض الباب العالي عليه حكم المورة وكريد وقبرس وهو يعلم بضياعها، وحكم بلاد العرب وهو يعلم أنها عبء ثقيل على حاكمها. ولكي ينفذ محمد علي خطته أخذ منذ سنة 1825 يعد الأنصار والأصدقاء في بلاد الشام، فتوسط لدى الباب العالي بأن يعين عبد الله باشا الخازنه جي واليا على عكا. وعكا هي مفتاح سوريا، وقد ثبتت في وجه نابليون ولم يستطيع فتحها، فارتد عنها واستعان القائد الفرنساوي بأمير لبنان بشير الثاني فلم يعنه، واحتاج عبد الله باشا إلى المال ليدفعه للباب العالي فأمده محمد علي.
صفحه نامشخص
ثم وجه نظره إلى الأمير بشير، فأحكم به صلاته، ونزل الأمير بضيافته في مصر في حاشية كبيرة مدة ثلاثة أشهر، وكان اتفاقهما تاما، ثم أوفد إليه الأمير ابنه الأمير أمينا، فظل في مصر سنة وشهرا، ولم يرجع إلى لبنان إلا قبل قيام حملة إبراهيم باشا بأيام قليلة، وجاء مصر أحد أكابر البلاد الشيخ علي العماد للغرض ذاته. وكان حنا البحري الحمصي هو الصلة بين أمراء سوريا ومحمد علي، حتى صارت شئون تلك البلاد شطرا من شئون مصر في نظر محمد علي، يتدخل بها تدخلا فعليا، حتى إنه هدد والي دمشق بإرسال عشرة آلاف مقاتل بقيادة ابنه طوسون إذا لم يتحول عن اضطهاد اللبنانيين الذين يدخلون بلاده فيسجنهم إلى أن يدفع أميرهم الفدية.
ولم ير الباب العالي من وسيلة لصد محمد علي عن غرضه إلا أن يحرض لمقاومته عبد الله باشا والي عكا، ففتح عبد الله باشا ذراعيه لجميع المصريين الفارين من بلدهم لسبب من الأسباب، حتى بلغ عددهم ستة آلاف شخص، فكتب محمد علي إلى عبد الله باشا أن يعيدهم إلى وطنهم، فأجابه جوابا جافا وقال فيه: إن هؤلاء الستة آلاف هم رعايا السلطان، وشأنهم هنا كشأنهم بمصر، فإن شئت فاحضر لأخذهم. فأجابه محمد علي: إني سأحضر لأخذ ستة آلاف وواحدا فوقهم! وأراد بهذه الكلمة أخذ عبد الله باشا ذاته. وكان كتاب عبد الله باشا إنذارا، وكان جواب محمد علي ردا على ذاك الإنذار. ولما قيل إن الأمير بشيرا هو حليف محمد علي وسيكون في صفه كتب قنصل النمسا يقول لدولته: «إن وجود الأمير بشير في صف محمد علي لهو عبارة عن وجود سوريا في قبضة مصر.»
وغادرت طلائع الجيش المصري مصر إلى عكا في 14 أكتوبر 1831، واحتلت الحملة البحرية المصرية يافا في 8 نوفمبر، ووصل إبراهيم باشا قائد الحملة إلى حيفا في 13 نوفمبر، وضرب الجيش المصري نطاق الحصار حول عكا في 8 ديسمبر، وهكذا بدأ فتح الشام والأناضول.
ولم تلق طلائع الحملة المصرية من العريش إلى عكا مقاومة تستحق الذكر، بل لقيت في بعض الأماكن كل المساعدة والتسهيلات.
الفصل الأول
عدد الجيش المصري.
الأسطول.
حامية عكا.
الحصار. ***
كانت الحملة المصرية التي وجهت إلى عكا وسوريا مؤلفة من ستة آلايات من المشاة، وأربعة من الفرسان، وسلاحها أربعون مدفع ميدان، وأكثر منها من مدافع الحصار، وكان هذا الجيش المصري أول جيش شرقي سار على النظام الحديث، حتى إن إبراهيم باشا ذاته تعلم في المدرسة النظامات العسكرية كأحد الجنود. وقد بلغ عدد الجيش المصري الذي نظم يومئذ على الطراز الحديث نحو مائة ألف مقاتل، وكان مع هذا الجيش عدد كبير من الفرسان العرب ورجال القبائل المصرية.
صفحه نامشخص
أما الأسطول الذي جدده المهندس الفرنساوي «سيرزي» ونظمه «بيسون» بعد احتراق الأسطول في فرضة نافارين، فقد ركبه إبراهيم باشا من الإسكندرية إلى يافا، وكان أركان حرب الحملة مؤلفا من عباس باشا حفيد محمد علي، ومن إبراهيم باشا ابن أخيه، ومن سليمان بك - الكولونيل سيف - ومن أحمد بك المنيكلي.
وكان هذا الأسطول مؤلفا من خمس سفن كبيرة تبعتها السفن الصغيرة في مدى أربعة أيام، فلما رسا الأسطول قبالة يافا نزل وجهاؤها وعرضوا على إبراهيم تسليم المدينة، وكانت حاميتها 250 جنديا، فأنزل بلوكا لاستلامها وأبقى المتسلم حاكما عليها. وجاءته حامية غزة مسلمة، واستولى على مدافع قلعة يافا، وكانت 47 مدفعا مع الذخائر، وأخذ بعض رجال البحر من أهل يافا لإرشاد الأسطول في مياه عكا، ووصل إليه وهو في يافا أن أهل الشام قتلوا رجال الحكم من الترك، واختاروا خمسة منهم لإدارة الأعمال، إلى أن يصل إليهم إبراهيم «سر عسكر» الجيش العربي - كما كان يلقب نفسه - ويوقع أوامره ورسائله إلى أهل تلك البلاد.
ولما ضرب الجيش البري النطاق حول عكا قام الأسطول بحصرها بحرا وقوامه خمس سفن كبيرة وعدة فرقاطات كانت صغيرة، وكانت جملة الجيش ومجموعه 24 ألف مقاتل.
إبراهيم باشا.
أما حامية عكا فكان عددها ستة آلاف مقاتل من الرجال الأشداء، يقودهم بعض الضباط المهندسين من الأوروبيين. وكان سور المدينة منيعا وسلاحها من أقوى الأسلحة. وبعد أن أحكم إبراهيم باشا النطاق حول المدينة برا وبحرا أخذ في 9 و10 ديسمبر يرميها بالقنابل من كل جهة. ولم تكن تلك القنابل يومئذ سوى قنابل من كتل الحديد والفولاذ المستديرة، لا تنفجر بل تدك وتهدم، وكثير منها لا يزال موجودا إلى الآن في ميادين القتال التي قاتل فيها إبراهيم باشا، وقد استخدمه الأهالي لرص الطرقات. واستمر ضرب المدينة برا وبحرا من الفجر إلى المساء، فألقي عليها في يوم واحد عشرة آلاف كرة وثلاثة آلاف قنبلة، وقد رووا أن فرقاطة واحدة مصرية ألقت 3700 قنبلة. أما حامية عكا فإنها كانت تقتصد بالذخائر كل الاقتصاد لعلمها بأن المدد قد لا يصل إليها سريعا من البر أو من البحر، لا كما كان أمرها يوم حاصرها نابليون قبل حصار إبراهيم بنحو اثنين وثلاثين سنة؛ لأن الإنكليز كانوا يومئذ يمدونها بالذخائر من البحر.
سيرزي بك مؤسس البحرية المصرية.
وأصيب بعض سفن الأسطول المصري، فعاد إلى الإسكندرية لإصلاح ما حل به من التلف. وفي 19 ديسمبر نصب جيش إبراهيم مدافع الحصار وأخذ بإطلاقها على المدينة التي ظلت على المقاومة حتى آخر يناير، وحينئذ تبين لإبراهيم باشا أن الحصار طويل، فأرسل إلى الأمير بشير الثاني الشهابي - الذي قلنا إنه جاء مصر ونزل في ضيافة محمد علي - ليوافيه إلى عكا، فتأخر قليلا؛ لأن والي حلب - وكان وزيرا كبيرا - طلب منه مقاومة إبراهيم باشا ورده عن سوريا، «فإن لم يفعل يدك لبنان دكا ويبيد سكانه.» ولما تأخر الأمير بشير عن المجيء إلى عكا كتب إبراهيم إلى والده عن تأخره، فكتب محمد علي إلى الأمير كتابا يلومه فيه عن تأخره ويهدده بأنه «إذا خالف عهده معه ووعده له يخرب مساكنه ويزرع في أرضها تينا.»
وقبل وصول كتاب محمد علي إلى الأمير بشير، كان هذا قد ركب من مركزه بلبنان بمائة فارس إلى عكا، وقبل أن يصل إليها التقى برسول محمد علي ومعه ذلك الكتاب، فواصل سيره حتى وصل إلى سهل عكا، فخرج إبراهيم باشا بأركان حربه وبشرذمة من جيشه لمقابلته وأمر بإطلاق المدافع تحية له، فدخل معسكر إبراهيم بموكب عظيم. وكتب إبراهيم باشا إلى والده خبر وصول الأمير قبل أن يتلقى كتابه، فكتب إليه محمد علي يمتدح صدقه وإخلاصه. وحدث إبان ذلك أن عبد الله باشا رفع الأعلام البيضاء فوق أسوار عكا دلالة على التسليم، فأرسل إليه إبراهيم باشا رسله، وبينما كانوا يتفاوضون بشروط الصلح قطع عبد الله باشا المفاوضة وعاد إلى القتال؛ لأنه تلقى من السلطان كتابا بأن المدد واصل إليه على جناح السرعة، لأن الأوامر كانت قد صدرت إلى الولاة بجمع الجنود لقتال إبراهيم باشا ورده عن عكا. فبعد قطع المفاوضة عاد إبراهيم إلى ضرب القلعة، وحينئذ أرسل الأمير بشير إلى ولده الأمير خليل بأن يحضر إلى عكا، فحضر وتلقى منه الأمر بجمع الرجال اللبنانيين. وأرسل محمد علي إلى إبراهيم بأن يعطي الأمير بشيرا إيالة صيدا، وأن يجعل في يده تصريف أمور المتسلمين وأصحاب المقاطعات. وأرسل إبراهيم باشا الأمير خليلا بألف مقاتل لبناني إلى طرابلس ليقطع الطريق على محمد علي باشا سر عسكر السلطان الذي كان قد وصل إلى حمص، وفي الوقت ذاته وصل القائد التركي عثمان باشا إلى اللاذقية معينا على طرابلس ومعه خمسة آلاف مقاتل، فقبض الأمير خليل على بعض مراسلاته مع مشايخ البلاد وأرسلها إلى والده في عكا، فأمر الأمير بشير ولده أمينا بجمع الرجال، وأرسل إلى «زحلة» الأمير قاسما لجمع المؤن لجيش إبراهيم باشا ومعه ألفا لبناني. وفي أثناء ذلك أرسل إبراهيم باشا أربعة آلاف رجل إلى طرابلس مددا للأمير خليل، ولكن عثمان كان قد وصل من اللاذقية قبل وصول المدد، فقاتله الأمير خليل حتى كسره، وقبض على القاضي والمفتي اللذين كانا يراسلانه ليسلماه المدينة، وقصد إبراهيم باشا ذاته إلى طرابلس، فعند وصوله إلى البترون - وهي على مسيرة ساعتين من طرابلس - فر عثمان باشا ومن معه إلى جهة حمص، فصمم إبراهيم باشا على اقتفاء أثره إلى هناك، والتقى جيشه برجال والي الدين ووالي قيسارية وعثمان باشا فدحرهم وغنم ما معهم.
الأمير بشير الشهابي أمير لبنان.
أما عكا فإنها ظلت ثابتة على المقاومة، وأضر المطر والبرد بالجيش المصري إضرارا شديدا، ورأى إبراهيم باشا أن يكتفي بالحصار، فاستدعى إليه من الإسكندرية الكولونيل «روماي» الطلياني؛ لأنه اشتهر في حصار قلعة موسوليغي في بلاد اليونان، فوصل مع رفيقه كارتو - وهو كورسيكي - وألبرتيني - وهو إيطالي - إلى معسكر عكا في 2 فبراير، فغيروا شكل الحصار والضرب.
صفحه نامشخص
وفي 3 مارس بدءوا بضرب القلاع على الطريقة الجديدة، واستمروا على ذلك عشرة أيام كاملة إلى أن دكوا البرج الذي يحمي باب المدينة، واندك معه جانب من السور، فردم الخندق وهجم المصريون من تلك الفتحة التي فتحتها المدافع، ولكنهم اصطدموا بجيش عبد الله باشا، ولم تكن الفتحة تتسع لأكثر من ثلاثين رجلا، وكان عبد الله باشا قد نصب في تلك الفتحة ذاتها مدفعين، فاستولى عليهما المصريون برءوس الحراب.
ولما دخل الجنود المصريون المدينة أخذ جنود عبد الله باشا يلهبون ألغام البارود المبثوثة في الأرض وتتناولهم نيران البنادق من المنازل، فخشي القواد سوء العاقبة، فأمروا الجنود بالارتداد، وهكذا حبط هجوم 9 مارس 1832.
ولكن هذا الهجوم دل على أن المدينة باتت في حالة الاحتضار؛ لأن الحامية نقصت ولم يبق منها للقتال سوى 900 مقاتل، ولأن الأمراض تفشت فيها وقلت اللحوم والبقول.
أما الباب العالي فإنه لم يفعل شيئا لإمداد عكا؛ لأن رجاله كانوا منصرفين إلى التحاسد أكثر من انصرافهم إلى التعاون، ولأن صدمتهم في طرابلس وحمص أوهنت قواهم وفرقت شملهم.
ولما اجتمع قناصل الدول عند محمد علي لتهنئته بعيد الفطر في 4 مارس حدثهم وحدثوه بأمر الحملة على عكا، فقال لهم محمد علي:
أين هي جيوش جلالة السلطان؟ وأين هم قواده العظام؟ أهو باشا حلب الذي كان منذ عهد قريب باش قواص؟ لا ... إنه يحسن بالباب العالي أن يعمل حسابه قبل أن يهجم على جيشي.
وكان من عادة الباب العالي أن يصدر في كل سنة يوم عيد الفطر التوجيهات أو جدول باشاوات السلطنة وأصحاب الرتب والولايات، فصدرت التوجيهات في تلك السنة وليس فيها اسم محمد علي وابنه إبراهيم، فلم يدل ذلك لا على غضب السلطان فقط، بل على عزمه على تأديبها - كما كان يفهم دائما من هذا العمل ...
وإليك ما جاء في مقدمة التوجيهات: «رأينا ألا نقطع بتوجيه ولايات مصر وجدة وكريد حتى يصل إلى بابنا العالي جواب محمد علي باشا على ما أرسلنا إليه من الرسائل والفرمانات بشأن ما ارتكبه من الخروج على خليفته وسلطانه، ولزوم عدوله عن خطة الخسة والدناءة التي سار عليها هو وإبراهيم ولده، أو رجوعه إلى حد التأديب وقهره بقدر ما تصل إليه القدرة إن شاء الله.»
أما من الوجهة العسكرية، فالذي يصح قوله أن إبراهيم أدرك عند ظهور عثمان باشا أمام طرابلس وظهور قواد آخرين بين حلب وحمص، أن القواد الأتراك يجمعون قواتهم ليهاجموه، وبدلا من أن يكون حاصرا عدوه يصير محصورا، فأبقى أمام عكا آلايين وصار بعشرة آلاف جندي لمقاتلة قواد السلطان، ووكل إلى الأمير بشير وابنه أمين حراسة خطوط المواصلات وجمع المؤن في زحلة وبعلبك والرياق. ولما وصل إبراهيم باشا إلى القصير خرج أعيان حمص لمقابلته وتهنئته، ثم عاد إبراهيم باشا إلى بعلبك وزحلة، فظن عثمان باشا ورفاقه أنه تقهقر، فقصدوا إلى جيشه ومعهم 12 ألف جندي، فارتد عليهم وفرقهم، فاتجهوا نحو حماه على ما قلنا، واتجهت أنظاره إلى عكا للخلاص من حصارها، فترك قوته في بعلبك بقيادة أخيه عباس باشا ليرقب حركة الجيش التركي.
وهكذا اتبع إبراهيم خطة نابليون قبل ذلك باثنين وثلاثين سنة، فاستولى وهو سائر إلى سوريا على غزة ويافا وحيفا والقدس ونابلس.
صفحه نامشخص
الفصل الثاني
فتح عكا بعد حصار ستة أشهر.
قرار الباب العالي بخلع محمد علي باشا.
تعيين حسين باشا.
حاكما على مصر.
الجيش المصري في سوريا. ***
خريطة تبين مواقع القوات البرية والبحرية أثناء حصار عكا.
في 27 مايو بدأ هجوم المصريين عند الفجر على قلعة عكا من ثلاث جهات، وظل هذا الهجوم متواليا حتى الظهر ثم أوقف خوفا من الألغام؛ لأن أرض المدينة كانت ملغمة كما أنبأ الأسرى. وكان إبراهيم مصلتا سيفه في مقدمة جيشه، فبعد الكر والفر والتقدم والتقهقر توصل إبراهيم بآلايه لاحتلال أحد خانات المدينة وامتنع فيه، وأخذت جنوده وما تلقته تلك الجنود من الإمداد تتسرب إلى جوف المدينة من جهاتها الأربع، وظهر العجز والملل على الحامية، وظهر الضجر والسآمة والقنوط على السكان، فأرسلوا إلى عبد الله باشا بأن أوان التسليم قد حل، وأرسلوا إلى عبد الله باشا وفدا يطلبون منه العفو، فأجابهم إبراهيم باشا أنه لا يمس أحدا بسوء إذا ألقى عبد الله باشا والحامية والأهالي سلاحهم في الحال. وخشي عبد الله باشا أن تفتك الحامية والأهالي به إذا حاول الفرار، فمكث في داره حتى صباح اليوم التالي إلى أن أرسل إبراهيم باشا حرسا يحرسه في مجيئه إليه، فربط عبد الله باشا وربط الكخيا منديلا في عنقه دلالة على الاستسلام والخضوع.
ولما دخل عبد الله باشا على إبراهيم انحنى إلى الأرض، فتناوله إبراهيم باشا في الحال بكلتا يديه وقال له: «أنا وأنت متساويان؛ فذنبك إلي لا يغتفر ولكنك تجرأت على محمد علي وهو أكبر حلما!» فرد عبد الله باشا بقوله: «هذا حكم القدر.» وجامل إبراهيم خصمه كثيرا حتى أزال وحشته، وبعد تناول العشاء معه هم عبد الله باشا بالانصراف إلى غرفة النوم التي أعدت له في منزل إبراهيم، فقال إبراهيم: «إنك يا عبد الله باشا ستنام الليلة مرتاحا.» فأجابه عبد الله: «كراحتي في كل ليلة مضت.» ثم التفت إلى إبراهيم وقال له: «لا تعاملني يا باشا معاملة الحريم؛ فإن دفاعي يبرهن لك على الضد، وكل أخطائي أني اعتمدت على الباب العالي الذي لا يزيد شرفه في نظري على شرف المومس، ولو أني عرفت ذلك لاتخذت الحيطة ولما كنت اليوم ملقى بين يديك.»
وفي رسالة قنصل فرنسا بكريد إلى حكومته أن عبد الله قال له وهو مار بتلك الجزيرة في شهر يناير بعد إطلاق سراحه: «كان لدي للدفاع عن عكا جدرانها وأسوارها والرجال والمال، ولما استولى عليها إبراهيم باشا كانت أسوارها قد تهدمت ورجالها قد بادت، وقد قتل 5600 من ستة آلاف، ولم يبق معي من المال سوى بعض الحلي.»
صفحه نامشخص
محمود بك الأرناءوطي ناظر الجهادية وجد عزيز عزت باشا.
وأحصى ما ألقته المدافع على عكا من القنابل الكروية والأسطوانية، فإذا هو 50 ألف قنبلة كبيرة و180 ألف قنبلة من القنابل الصغيرة. ولما سلم عبد الله وأقبل الناس على إبراهيم باشا يهنئونه قال في جمع عظيم: «إني سأذهب في فتوحاتي إلى حيث تنتهي البلاد التي يتكلم أهلها العربية.» لذلك كان يلقب جيشه بالجيش العربي.
أما عبد الله باشا، فإنه من الولاة الأشداء الممتازين، طمع في سنة 1822 بأن يضم دمشق إلى البلاد التي يتولى أمرها، فاتفق الولاة على مقاتلته خوفا من امتداد سلطانه، واضطر أن يرجع إلى عكا للدفاع عنها؛ لأن أعداءه حصروها، وكان يخشى أن يحصرها الباب العالي بحرا، فوسط محمد علي باشا لدى الباب العالي فنال ما طلب على شرط أن يدفع 60 ألف كيس - الكيس 500 قرش - فأقرضه محمد علي قسما من هذا المال، ولكنه لم يشأ دفع القرض وجعل عكا ملجأ للفارين من مصر.
وفي 30 مايو سافر عبد الله باشا والكخيا إلى مصر على سفينة حربية مصرية، فوصلت بهما إلى الإسكندرية في 2 يونيو، وعند وصولهما أطلقت المدافع، فأرسل محمد علي قواصا إلى عبد الله باشا ليبلغه أن محمد علي في انتظاره في الديوان.
فلما دخل مر بين صفين من القواصة بقيادة أحد الضباط، ودخل الديوان فإذا بمحمد علي واقف ينتظره، فانحنى أمامه طالبا العفو والغفران، فصافحه محمد علي وطمنه ثم جلس وأجلسه إلى جانبه، وأمر بأن تقدم له القهوة والشبق. وكان الجمهور حاشدا لرؤية عبد الله باشا، فأمر محمد علي ذلك الجمهور بالانصراف، واختلى بأسيره ثم صرفه إلى دار الضيافة التي مكث فيها إلى أن أطلق سراحه وسافر إلى الآستانة في أوائل شهر يناير.
ولما وصل البريد بخبر فتح عكا أمر محمد علي باشا بأن تطلق المدافع من جميع القلاع والحصون بالمدن والبنادر ثلاث دفعات في اليوم مدة ثلاثة أيام؛ إعلانا للفرح والسرور ولإعلان البشرى في أنحاء البلاد.
ثم صدر العفو عن المسجونين والمنفيين ما عدا القاتل وقاطع الطريق إجابة لإبراهيم باشا، وكان السجن والمنفى في مدينة رشيد.
وأمر محمد علي باشا بعمل وسام مكتوب عليه اسم «محمد علي» بحجر البرلنتي لإرساله إلى إبراهيم باشا تذكارا لانتصاره.
وبلغت خسارة المصريين 1429 جريحا و512 قتيلا.
ونظم الشيخ شهاب الدين تاريخ فتح عكا في البيتين الآتيين، وقد نشرا في ختام تقرير إبراهيم باشا في الوقائع المصرية؛ وهما:
صفحه نامشخص
عباس باشا حفيد محمد علي وقومندان القوات المصرية في زحلة والبقاع وبعلبك.
لقد نصر المليك عزيز مصر
وبلغه المنى عزا وملكا
فنادته العلا أن طب وأرخ
بمجد العز تفتح ألف عكا
وبعد سقوط عكا وصل عباس باشا ابن طوسون باشا بأمداد كبيرة من العسكر والعربان، فأرسله إبراهيم باشا لضبط الثغور كصيدا وبيروت، وأرسل الرسائل إلى أهالي البلاد ليطردوا العساكر العثمانية من بلادهم، ووجه إلى متسلم القدس والمفتي وقاضي القضاة الرسالة الآتية:
تعلمون أن في بيت المقدس كثيرا من الديارات والكنائس والآثار الدينية التي تحج إليها في كل عام طوائف النصرانية واليهود، وقد شكا إلينا هؤلاء مما يلاقونه منكم من العنت والقسوة والغلظة عليهم والتحقير لدينهم، فضلا عما أنتم فارضوه عليهم من التكاليف والمغارم الفادحة، غير ناظرين إلا إلى إرضاء أنفسكم والعمل بهواكم، على أن هذه الغايات الدنيئة والأفعال الرديئة لا ترضاها النفوس الأبية، ولا يصح السكوت عليها؛ ولذلك أنهاكم وأحذركم من عاقبة التعرض لأولئك القوم، وأسألكم أن تفسحوا لجماعة القسيسين والرهبان والشمامسة أهل ذلك البيت المقدس من جميع المذاهب قبطا كانوا أو روما أو أرمنا في دينهم ودنياهم، ولا تمنعوهم من إقامة شعائر دينهم، ولا تأخذوا ممن يذهبون زائرين لبحر الشريعة شيئا من الكلف والمغارم، ولا تضيقوا على زائري كنيسة القيامة، ولا تلزموا الصغار بدفع المال؛ فإن أطعتم أحسنتم لأنفسكم، وإن خالفتم أسأتم إليها، والسلام عليكم ورحمة الله.
تقرير إبراهيم باشا
نشرت الوقائع المصرية في 11 محرم سنة 1248 ملخص التقرير الوارد من إبراهيم باشا عن معارك عكا وفتحها، قال فيه «إنه كلف أحمد بك أمير اللواء ومعه مختار أغا البكباشي من الآلاي الثاني، بالهجوم على الباب بطرف القلعة، وأن يذهب إسماعيل بك أميرالاي اللواء الثاني ومعه الأورطة الثانية إلى باب البرج الذي يصير عليه الهجوم، وأن يذهب إلى الزاوية اللواء عمر بك ومعه الأورطة الثالثة، وإلى برج الكريم عسكر الأورطة الأولى، وأن يكونوا مستعدين لتسلق الأسوار ومعهم السلالم، فيبدأ الهجوم بعد مرور تسع ساعات وربع من الليل بمجرد سماع إطلاق ثلاث قنابل. وجعلنا أحمد يكن باشا مأمورا على محل الهجوم، وتوجهت إلى طابية المدافع خلف عسكر المحاربين على رأس الزاوية ووقفت الأورطة الرابعة مع يكن باشا قبالة البرج ووراءها الأمداد؛ لأن في البرج مستودع عبد الله باشا. وكان التصميم أن نرسل عسكرا إلى الوكالة الواقعة على البحر، ولكن قبل الهجوم بليلة واحدة قرر الذين فروا من القلعة أن تحت تلك الوكالة أربعة ألغام، فعدلنا عن إرسال القوة.»
وبعد أن وصف الهجوم قال: «إن الكلام لا يتسع لوصف الشجاعة الفائقة التي أبداها الجنود، وإذا أخذنا بالأصول الحربية حكمنا بأن استبسالهم كان فوق ما يمكن تقديره، ولكن الأورطة التي تسلقت برج الكريم كانت خسارتها كبيرة لجهل قائدها؛ لأنه لم يدعهم يهجمون على جميع أنحاء المكان عند إعطاء الإشارة. والهاجمون على الزاوية تسلقوا السور بكل سرعة، وعند وصولهم إلى الخندق أطلقوا البنادق ثم صعدوا منه إلى الجهات الأخرى، ولحق بهم بقية العسكر حتى برج الخزينة الذي انقطع سوره. ولما وصلوا إلى باب البرج استل عبد الله باشا سيفه وهجم على عسكرنا فردوه إلى طرف الخندق. ولما رأينا هذا الارتداد هجمت القوة التي معي على طابية المدافع، ثم ارتدوا ثلاثين أو أربعين خطوة، فسللت سيفي أنا وأحمد بك أميرالاي الفرسان ومشيت نحوهم لنردهم إلى الأمام، ولكنهم كانوا يمشون تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال، وحينئذ أمرت أحد الجاويشية بأن يأخذ العلم من حامله، فأبى البيرقدار تسليم العلم، فتقدم جاويش آخر لأخذه منه، فامتنع عن تسليمه، ثم تقدم وفي دقيقة واحدة فعل عسكرنا العجب، وتوارى عسكر العدو وأخذوا يتراشقون بالحجارة، ولم يستطع العدو أن يرجع إلى مكانه الأول، وقل الذين نجوا منه، وحينئذ رفع عسكرنا بيرقهم وهجموا على البرج الصغير، وصعد الأنفار بسرعة وأخذوا يقاتلون دون ضباطهم، فشتتوا العدو وارتمت بقاياه في الخندق. ولحماية الرجال أمرت ببناء متراس، واستل ثلاثة من الجاويشية سيوفهم، ثم رأيتهم يرمون الرصاص أمامي وسيوفهم مكسرة، وفي الساعة الحادية عشرة وقف إطلاق الرصاص، وأرسلت ضابطا إلى الباب فوجده مفتوحا، فوقف لضبط الوكالة وحصرها. وأمرت بجمع الجرحى من الفرسان؛ إذ رأيتهم مرتمين في الأرض مستلين سيوفهم عند صعودهم القلعة، وبعد ذلك حضر أناس لطلب الأمن والأمان.»
صفحه نامشخص
خلاصة تقرير يكن باشا «كان الهجوم يوم الأحد قبل طلوع الشمس على قلعة عكا، فصعد المرحوم إسماعيل بك قائد الآلاي الثاني مع أورطته الثانية، وأحمد بك قائد اللواء مع الأورطة الأولى، إلى برج الباب من الطرف الأيمن، ونصبوا بيارقهم على البرج، فهجم عليهم العدو فردوه إلى الخندق، ورددت أنا الأورطة الرابعة إلى الوراء حذرا من الألغام في البرج. وقد رأيت أن أفندينا السر عسكر مضايق للأعداء كل المضايقة من طرف الزاوية، وأن العدو موجه كل قوته إلى تلك الجهة، فأمرت الجنود بالهجوم على العدو للتخفيف عن قوة السر عسكر، فاستولى رجاله على البرج، ثم اتجهوا إلى اليمين لإقامة المتراس، وضبطوا من البرج مدفعا وأخذوا يلقون ناره على داخل القلعة، وتوفي الميرالاي إسماعيل بك بعد ساعة من إقامة المتراس، وهجم علينا الأعداء ثلاث مرات ولم يظفروا بطائل. وفي الساعة العاشرة دخلت الأورطة الأولى التي أرسلها سر عسكر بين البرج الذي بيدي والبرج المسمى ببرج الإنكليز، ثم دخلت الوكالة واستوليت عليها، فنشر فوق الوكالة بيرق طلب الأمان. وبعد أن استمد الأعداء الأمن والأمان انقطع إطلاق البنادق، وحضر للتسليم والاستسلام جماعة من معلمي الطوبجية ومفتي البلدة وإمام عبد الله باشا، طالبين من مراحم السر عسكر الأمان، فتفضل عليهم به وعفا عن جميع ما يملكون، وأمر برفع السلاح عنهم. وبما أنه أعطى عبد الله باشا الأمان أيضا، فإنه أرسل إليه بعد الغروب اللواء سليم بك، وفي الساعة الخامسة وصل الباشا المشار إليه مع كتخداه إلى محل حضرة السر عسكر، فقوبل مقابلة الوزير ونال الالتفات والعطف. وفي الساعة السادسة توجه سعادة السر عسكر مع عبد الله باشا ومعهما كتخدا باشا إلى القصر خارج القلعة وأقاموا تلك الليلة. وبما أن العساكر دخلوا القلعة بالحرب، فقد امتدت أيدي بعضهم إلى بعض الأشياء، وإنما صدر إليهم الأمر في اليوم الثاني بأن يردوا كل شيء إلى صاحبه، فردت تلك الأشياء جميعا. وطلب عبد الله باشا التوجه إلى مصر في يوم الثلاثاء 28 ذي الحجة، فأرسله سعادة السر عسكر إلى حيفا مع اللواء سليم بك، ومن هناك توجه بحرا في السفينه المسماة بشيري جهاد من سفن الأسطول المصري.»
إبراهيم باشا داخلا عكا راجلا على رأس جيشه.
بعد وصول عبد الله باشا والي عكا إلى الإسكندرية ونزوله في ضيافة محمد علي بدار الضيافة، وصل أتباعه - وهم جمهور كبير - فأمر محمد علي بإكرامهم وبإنزالهم في ضيافة حكومته المصرية.
وكانت خزانة عبد الله باشا قد وصلت على السفينة التي ركبها من حيفا إلى الإسكندرية، فأمر محمد علي بألا تمس وبألا تدخل دارا من دوره، وأن ترسل مقفلة إلى عبد الله باشا، وكان في تلك الخزانة حليه وجواهره، والحلي والجواهر هي كنوز العظماء في ذاك الحين.
وكان بيد عبد الله باشا وصل على أحد اليونان؛ قسطنطين أنجلو من مدينة صور، بمبلغ مائتي ألف فرنك ليقدم له به المؤن والذخائر، فأرسله إلى محمد علي باشا باعتبار أنه ملك الدولة الفاتحة، فأمر بأن تدفع له قيمته. أما برج الخزانة - الذي أشرنا إليه - فإنهم وجدوا فيه نصف مليون قرش تركت أيضا لعبد الله باشا. •••
قبل أن يفتح إبراهيم باشا عكا أعد للنصر معداته، لا بتأليف جيش ضخم على أحدث الطرق الحربية والأنظمة العسكرية، ولا بإنشاء أسطول قوي؛ بل بمحالفة زعماء سوريا وأمير لبنان، فعاهده مشايخ نابلس على المال والروح، وجمع الأمير بشير الثاني 35 ألف رجل ضبطوا أنحاء البلاد وانصرفوا لجمع المؤن. وكانت الفتن قائمة يومئذ في الأناضول وألبانيا والبلقان فاتهم بها الباب العالي محمد علي. ولما لم يلق رسل السلطان إلى محمد علي - كصارم أفندي ونجيب أفندي - ما يشفي غلة الباب العالي، توسط قنصل إنكلترا في بيروت لدى إبراهيم باشا، ولكن بلا جدوى. ولما كان 23 أبريل 1832 أمر السلطان محمود بعقد المجلس الشرعي؛ لأنه لم يبق أمامه سوى السلاح الديني الذي أجاب عليه محمد علي في جمع من قناصل الدول بقوله: «هل يسمح السلطان لنفسه أن يحاربني باسم الدين، وأنا أحق منه بمهبط الدين والوحي؛ لأني أنقذت الحرمين الشريفين وأعدت للدين سلطانه، وأنا الآن أحكم مكة المكرمة والمدينة المنورة؟»
انعقد المجلس الشرعي في إستامبول، وهو مؤلف من: ثلاثة مفتين، وأربعة عشر من قضاة العسكر، واثني عشر قاضيا من قضاة المحاكم، وتسعة من أئمة السراي السلطانية والمدارس الشاهانية ومن إمامي جامع أيا صوفيا وجامع السلطان أحمد، فلما اجتمعوا وجه إليهم السؤال الآتي للإجابة عليه:
س:
ما الذي جاء به الشرع الشريف من الأمر بطاعة أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين؟
ج:
صفحه نامشخص
قد فرضت له الطاعة والوقوف عند حد أوامره جهد الاستطاعة.
س:
ما الذي جاء به الشرع الشريف في عقاب العامل المارق عن طاعة خليفته وسلطانه الذي أحسن إليه وأتم نعمته عليه، فطغى وتجبر ودس الدسائس وأقام الأحقاد وأيقظ الفتنة الراقدة وعمل على تمزيق ملك سلطانه، فركب متن الجور والعسف وأراق الدماء هدرا وخرب ديار المسلمين، ولم يرض بالطاعة للدين ولا عمل بسنة سيد المرسلين؟
ج:
يجرد من سائر رتبه ووظائفه، ولا يعهد إليه بأمر من أمور المسلمين، ثم يحل به القصاص ويلقى لوحوش البرية أو إلى طيور الفلا، وهذا جزاؤه في الدنيا، وفي الآخرة الخزي والنار الآكلة.
س:
هل يكون الخليفة مسئولا أم ذلك المارق أمام الله والناس؟
ج:
لا جناح على الخليفة ولا تثريب؛ فإنه قام بما فرضه الشرع الشريف وجاءت به أحكام الدين الحنيف.
ثم أصدر أولئك المشايخ الحكم الآتي:
صفحه نامشخص