فقال حلمي: حد عارف.
وأعادت السؤال وابتهلت، فقال الريس: يا أمي ربنا يعدلها.
واستمرت: يعني بعد ساعة؟ .. إلهي يخليك لشبابك .. بعد ساعة؟
ولما لم يجب الريس، التفتت إلى حلمي وسألته: بعد ساعة يا بني .. إلهي يخليك .. بعد ساعة والا أكتر؟
وهنا زعق الريس وقال: دا شيء بتاع ربنا يا ستي. واللي منه لا بد عنه. هو مافيش صبر؟
والصبر هي الكلمة التي كان يبحث عنها كل منا ليسمي الرائحة التي أشاعتها الخالة من لحظة أن جاءت. كانت ترتدي كمعظم الخالات ثوبا أسود وطرحة سوداء . ولا يظهر من جسدها غير وجهها فقط، وثيابها كانت تبدو وكأنها لم تخلعها منذ أيام كما لو كانت أردية ميدان. وأشاع قدومها تلك الرائحة .. رائحة العواجيز التي لا يعرف أحد إن كان سببها هو رائحة الصناديق التي تحفظ فيها الثياب، أو هي رائحة نسيج الملابس نفسه. المهم أنها تذكرك لا بد بجدتك، وبالماضي، ومع أنها ليست عطرة، إلا أنك لا بد تحس بالألفة تجاهها، ولا تتأفف.
ولم تكف الخالة عن الكلام منذ أن جاءت، ولم نكن نتكلم والريس هو الآخر ساكت. كانت قد مضت ساعات ونحن نترقب، كل ما يهمنا هو اللحظة التالية وما يحدث فيها. والكلام لا يدور في جو الترقب. ولا يدور ساعة الضيق. وكل شيء قد حدث على حين بغتة، كنا في بيوتنا وأعمالنا وقال كل منا للآخر: تروح؟ وقال كل منا للآخر: ياللا. وإذا بنا في الطريق وكأن لا ينقصنا سوى الاحتكاك لنشتعل. وأصبح أهم شيء لدينا أن نرى ونسمع ونجهز أنفسنا للمشهد القادم والكلمة التالية .. ووصلنا المطرية في الضحى، وانتظرنا إلى أن يحل المساء لنعبر البحيرة إلى هناك، وقضينا اليوم بطوله نعيش في بلدة الإنسان والسمك .. والحياة تمضي من حولنا، كما اعتادت أن تمضي طوال آلاف من الأعوام .. الرجال ذوو الشعر الأصفر والبشرة الفاتحة والأفواه المفتوحة على الدوام كأفواه البلطي، يتزوجون البنات والبنات شقراوات، أجسادهن لها تناسق (المز) ورشاقة الطوبار، وطعمهن أشهى من السمك الطازج إذا شوي في الفرن وأضيف إليه الفلفل والملح والتوم وعصير الليمون، ولهذا فكل يوم زواج. والأطفال كل يوم يولدون. والأسماك هي الأخرى تتوالد، وتتكفل البحيرة بصغار الأطفال وصغار السمك. صغار الأطفال طول النهار في الماء يألفون الماء المالح ويألف الماء المالح أجسادهم، ولا أحد ينهرهم، ولا يخاف عليهم أب؛ فالبحيرة للصيادين غول مستأنس.
ويكبر الطفل فيكبر حب استطلاعه ويترك الشاطئ ويتعلم العوم، وصغار السمك أيضا تتعلم العوم. ويصبح طول الطفل مترا وطول السمك قراريط .. ويذوق الطفل طعم السمك، ويذوق السمك طعم الطعم، فلا ينسى الطفل حلاوة السمك، ولا ينسى السمك حلاوة الطعم. ويمسك الطفل بصنارة ويخرج سمكة، وتهزه الفرحة فقد هزم العالم المجهول الكائن وراء السطح البراق. ويهزمه مرة ذلك العالم المجهول. ويعود خاوي الوفاض. ويفهم الطفل أن الصنارة نصفها في يده يخضع لإرادته، ونصفها الآخر يعتمد على رغبات مجهولة في العالم المجهول.
ويسمع أباه يقول: الحظ. ويردد الكلمة لا يعرفها. ثم يرددها وهو يعرفها ويؤمن بها. يؤمن بقانون آخر يحكم العالم المجهول. قانون لا يخضع لقانون .. ولا يستسلم الإنسان حتى لو كان خصمه قانونا لا يخضع لقانون. ويبدأ الصراع الرهيب بين الصياد الصغير والبحر المجهول. ولا بد من أشياء تؤنس وحشة الإنسان في ذلك الصراع. لا بد من علامات تشاؤم وتفاؤل، لا بد من موال؛ لا بد من حدوتة؛ لا بد من أمل طويل لا ينقطع؛ لا بد من الصبر.
الصبر.
صفحه نامشخص