ولم يكن القارب قد تحرك، أو حتى كان في نيتنا أن نتحرك، ومع ذلك كانت من في المقدمة لا تكف عن الصياح: إوع تمشي .. إوع تمشي يا خويا .. أهه .. أنا جيت.
وفي غمضة عين كانت قد وصلت وألقت بنفسها إلى القارب، ولولا أننا قمنا جميعا وتلقفناها بأيدينا لكانت قد هوت إلى الماء، ومددنا إليها أيادي كثيرة تساعدها، وأمسكت بأيدينا في قوة وتحفز، وعصبية، وكانت أصابعها حادة صلبة ذات تجاعيد، والقبضة قبضة أم.
وأفسحنا لها مكانا، ولكنها لم تجلس .. ظلت تتلفت في قلق ولهفة، ولا تستكين، وتود أن تقول أي شيء وتسأل عن كل شيء، وحين وصلت الكتلتان قالت بسرعة وحسم: روحوا انتم بقى.
قالتها كمن يود رفع الهلب الذي يربطه بالشاطئ لينطلق. وتكلمت المرأتان .. في وقت واحد .. وكلام كثير. واحدة طويلة وعجوز. وكلامها أيضا طويل وعجوز .. والثانية فتاة، لا بد أنها جميلة فصوتها كانت فيه رنة من اعتادت الثقة في نفسها وجمالها .. وكانتا لا بد «أخت وبنت أخت» وكان رد الخالة واحدا حاسما لا يتغير: روحوا انتم بقى.
ولم ندر لإصغائنا للحوار سببا. وعقولنا بدت لنا كالصفحة البيضاء التي لم يخط فيها حرف .. وما نسمعه كأنه أول كلام عربي نسمعه.
وأفاق واحد وغمز لجاره: مصيبة وجت لنا على الآخر.
وقال له جاره: ح تخاف دلوقت وتبهدل الدنيا.
وقالت الخالة مرة: روحوا انتم بقى.
وخرجت الجملة دون أن يسبقها أو يعقبها رد من الشاطئ.
كنا قد ابتعدنا.
صفحه نامشخص