بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا
بطل النهضة المصرية الكبرى سعد زغلول باشا
ژانرها
تجتمع جلدة هذا الكتاب على أبحاث نشرت بضعة منها على أثر انتخاب هذه الأمة صاحب الترجمة وكيلا عنها في الجمعية التشريعية، وخصصت بتلك الأبحاث المجلة المعروفة في هذا البلد، مجلة البيان الشهرية، التي لا أزال أكتب لها، وأسوق لقراء العربية فيها ما ينفع الناس، وهذه الأبحاث التي نشرت في البيان كانت على أثر كراسات استمدها البيان من المترجم به ودفع بها إلي صديقي الأستاذ الأديب المكين في الأدب الشيخ عبد الرحمن البرقوقي، فصغت منها بحثي، وجعلتها سناد التاريخ الذي توفرت عليه، واستعنت فيها بطائفة من المعلومات والآراء الخاصة التي هداني إليها صديقي صاحب البيان.
ولو كان لهذا الكتاب فضل، فما أنا واجد له فضلا إلا لروح المترجم به، وما كان يشع علي من الوحي من ناحيته، فلقد كنت أكتب وكأنما أحس شبحا ساميا يتراءى لي من وراء الأفق، يملي علي فأكتب، ويجري يدي على الصفحات فإذا هي صحف مكتوبة، وقد كنت أتسمع إلى صوت أجش يملأ المكان الذي مللته ويناديني إلى خواطر ما كنت مهتديا إليها لولا أن هداني ذلك المثل الأعلى الذي تجلى لعيني من المترجم به.
وقد قصرت من وجوه، وأفضت من أخرى، على أنني كنت أرسم للناس صورة من الصور الآلية التي لا تراها ا لأبصار، وإنما تكشف الحجب عنها القلوب، وكنت حسن النية، وإنما الأعمال بالنيات.
تاريخ صاحب المعالي سعد زغلول باشا
صفحات ناصعات في تاريخ مصر الحديثة
نحن الآن إزاء تاريخ مصر الحديثة كله مجتمعا في تاريخ رجل، بل نحن الآن حيال ترجمة الأمة مجتمعة في ترجمة واحد، وكأني بالقوة الأزلية تراعي وجوه الاقتصاد في خلق الناس وتوزيع ثروة العقول عليهم، فهي إذا شاءت أن تخلق عظيما، أو أرادت أن تجود بعقل جبار جمعت إليها آلافا من العقول الإنسانية فدمجتها في عقل جبار عظيم، ولقد يمر الجيل فيعدو إلى القرن، والأقدار لا تزال تهيئ للأمة عقلا مفردا هائلا يغنيها عن نصف عقولها، ويكون بمثابة الغذاء التاريخي لها، هذا ونساء الأمة في كل ساعة يحملن وحبالاها في كل يوم يلدن، ومرضعاتها في كل لحظة يرضعن، وإنك لتقرأ إحصائية المواليد في الأسبوع الواحد فترى العشرات والمئات قد خرجوا للعالم من منابت مختلفة، وأصلاب وترائب متباينة، فما يخطر ببالك أن سيكون من هذه الأدمغة الصغيرة عقل للأمة كبير، ثم انثن فاطلع إلى إحصائية الوفيات تجدها لا تزيد ولا تنقص عن تلك إلا شيئا يسيرا، فمن ذلك تعلم أن الطبيعة تزيد على عدد الأمة في صبحها ما تنقصه منها في مغربها لكي يطرد بها بقاء التوازن الحيوي في الأمة، ثم هل جاءك نبأ أمة الصين وهل سمعت بتعدادها، وهل علمت أن قد مضى ما يربى على ألفي عام، والأقدار لم تصغ بعد من هذه الملايين العديدة رجلا آخر على مثال كونفوشيوس، فكأنها لم تطبع من كونفوشيوس إلا نسخة واحدة.
فإذا ما أخرجت الأمة عظيما، فكأنما لم تتسع في عهده إلا له وحده، وكأن روحه وعقله وأخلاقه ومميزاته عدسات تبصر منها أمته عقلها وأخلاقها ومميزاتها، وكأنه يجلو بصر كل منا، ويزيل عن عينيه حجاب الأنانية فلا ننظر إلا له ولعظائم فعاله، ولا تكون الأمة منه إلا كما يكون من الصبية إزاء معلمهم، إذ كانت الحياة تجري على قاعدة مدرسية بحتة، والناس يحترمون عظيمهم لأنه أبدع قالب يحاولون أن يصوغوا أنفسهم على نحوه ومثاله.
ونحن بني الدنيا نعيش ونتغذى من العظمة، ونحس في وجود العظيم بيننا أنا جميعا عظماء، ونشعر في حضرة العقل الكبير أنا بجملتنا جمع عقلاء؛ لأنه ينبه منا خامد عقولنا، ويثير في قلوبنا هاجع حميتنا، ويوقد بين أضالعنا فاتر أرواحنا ويكرهنا على أن نتناول كل عمل يعمله بحثا وتفكيرا، ويريدنا على أن نتناول كل كلمة يقولها شرحا وتفسيرا، ويطالبنا بأن ننهض لحسناته تحبيذا وتكبيرا؛ لأن الناس يستحبون الحمية، وإن لم يكونوا هم مادتها، ويتطلبون الحرارة النفسية، وإن لم يكونوا هم أنفسهم نشأتها، ولا تقوى أعصاب الأمة إلا بالمصل الذي يحقنها به قادتها، ولا تشتد عضلاتها إلا بالحركات الرياضية التي يمرنها عليها رجالاتها، وكان خليقا بقادة الشعوب أن يكونوا أعلم بطب النفوس، وأخبر بالأدوية النواجع التي توافق أمزجة شعوبهم.
هذا ولو لم تكن الجمعية التشريعية تضم بين أعضائها صفوة رجال الأمة، وخلاصة مجموعها، لما رأيت من عرض الأمة فردا واحدا متنبها متيقظا، ولأسدل السبات ستره على الأمة والجمعية معا، فلا تكون محاضر الجمعية إلا مواعيد نوم تبتدئ وتنتهي بدقات أجراس أول من ينام وأول من يصحو من أعضائها، وإذن لما سمعت في النوادي والمجتمعات والأسمار هذه الشروح القيمة والتأويلات الجليلة، والاستنباطات الدقيقة والاستنتاجات الثمينة، والاقتراحات السديدة، والآراء الوجيهة، التي يلقاك بها القوم على اختلاف طبقاتهم، وتباين أقدارهم، وتعدد أوساطهم، ولما رأيت نبض السياسة على ما شهدت من قوة، وعاينت من ضربان وانتظام.
وهذه الروح السياسية القويمة: وهذا التطور الفلسفي الذي وثبت إليه الأمة: هما فيض من روح رجل عظيم: كان أكبر ثمرة جادت بها الأقدار على هذا البلد المجدب رجالا: الخصيب زرعا، المريع نباتا؛ بل هو المادة الواسعة التي يتغذى منها تاريخ مصر الحديث: وهو الكوكب الإنساني الذي في كل قلب مصري منه وميض: وفي كل عقل مصري من سناه قبس وضياء، وفي كل نفس مصرية من وهجه شعاع ولألاء، ولا أحسب القارئ يعوزه بعد ذلك التفهيم، ولا أظنه بحاجة إلى زيادة الإيضاح والتبيين، بلى: هو سعد زغلول باشا قائد الأمة اليوم: ووزيرها بالأمس: وقاضيها من قبل ذلك ومحاميها، بل هو أول محام راح في الأمة قاضيا: وأول قاض كان وزيرا: وأول وزيرا أضحى في هذا الجيل نائبا!
صفحه نامشخص