وقد نشأ برنارد شو في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وهو عهد كثير المعالم كثير الأطوار في ميادين الحياة العامة، ولكنه يتسم في كل ميدان منها بسمة ظاهرة تحيط بما حولها أو تدل عليه، وفي هذه السمات الظاهرة ما يكفي لتصوير «البطانة الثقافية» التي ارتبطت بها نشأة شو، وارتبطت بها - من ثم - مصادر أدبه وقواعد تفكيره.
في ميدان العلم الطبيعي غلبت فكرة التطور بمذاهبها المتعددة، وأهمها مذهب لامارك ومذهب داروين.
وفي ميدان الأخلاق غلبت مباحث الدراسات النفسية، وتطبيقها على المسائل الاجتماعية كالجريمة وروح الاجتماع، وعلى المسائل الجنسية كطبيعة المرأة وتفسير الأخلاق عامة بغرائز الجنس الظاهرة والخفية.
وفي ميدان السياسة والاجتماع غلبت الدعوة إلى الحرية عامة وإلى الحرية الفردية على الخصوص. •••
نشأ برنارد شو والعالم الأوروبي كله يجادل ويساجل في مذاهب التطور والارتقاء، وأهمها كما تقدم مذهب لامارك الذي يقول بدفعة الحياة، ومذهب داروين الذي يقول بالانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.
والفرق بينهما أن الأول أقرب إلى الإيجاب والثاني أقرب إلى السلب، فمذهب لامارك يفسر طول عنق الزرافة بأنها جمعت قواها كلها في عنقها؛ فطال وتمكنت به من بلوغ الأوراق الطرية في ذؤابات الشجر، ولولا ذلك لحل بها الفناء.
ومذهب دارون يفسر طول عنقها بالتفاوت بين الزرافات في طول العنق، فما كان منها طويل العنق أدرك الورق العالي فعاش وبقيت ذريته، وما كان منها قصير العنق فاته الطعام فانقرض ولم تبق له ذرية.
وقد كان لفكرة التطور على اختلاف مذاهبه أثر قوي واضح في دعوات المفكرين والفلاسفة، وأخطأ بعضهم فهمه - كما أخطأ نيتشه - فظن أن القرد ترقى إلى الإنسان، وأن الإنسان سيترقى على هذا النحو إلى السوبرمان، ومعناه الإنسان الأعلى! وأن النسبة بين هذا السوبرمان والإنسان الحاضر ستزيد على النسبة بين الناس والقردة في تركيب الأجسام أو تركيب العقول.
وتطرقت فكرة التطور إلى أشهر المذاهب الفلسفية في فرنسا خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وهو مذهب برجسون الذي يتلخص في كلمتين، هما: التطور الخلاق، وخلاصته أن قوة الحياة تتطور في علاقتها بالأجسام المادية حتى يأتي زمن لا يستبعد فيه استقلال «الفكر الحي» عن المادة وأجسادها وأعضائها، فامتزجت نظرية التطور بالفلسفة المثالية الفكرية في مذهب برجسون على هذا المنوال.
ولم يبق في إنجلترا والولايات المتحدة عالم ولا أديب ولا فيلسوف لم تدخل نظرية التطور في تقديره، ولا يزال أثرها كبيرا ظاهرا في فلسفة مورجان، وفلسفة صمويل إسكندر، وفلسفة هوايتهد، وغيرهم من أصحاب مذاهب التطور والانبثاق، عدا ما كان لها من الشأن الشامل في تفسير جميع العلل الكونية على طريقة هربرت سبنسر على الخصوص.
صفحه نامشخص