ومن صمويل بتلر أخذ مقاييسه في نقده للفن، ونقده لمذهب النشوء والارتقاء، وأسلوبه اللاذع في كلماته الموجزة، وقد تدل كلمة أو كلمتان من مفكرات بتلر على أثره الواضح في كلمات شو، فمن ذاك أنه يقول: «خير للإنسان أن يخطئ مع الروح القدس من أن يخطئ مع المال، فقد يبالي الروح القدس بآحاد الناس أو لا يبالي بهم، ولكنه يحسب حساب المال ولا جدال؛ فمن كان له مال أغناه وكفاه.»
ومن ذاك قوله: «إن أبانا الذي في السماوات يعطينا خبزنا، ولكنه لا يجري على طريقة المخابز في أوقات التوزيع.»
وكلمات شو في مفكرات الثائر أو في حوار مسرحياته تطبيقات مختلفة لهذا الأسلوب، وإن كان توقير التلميذ للعقيدة الإلهية أظهر وأكرم من توقير الأستاذ. •••
هذه عجالة موجزة غاية الإيجاز، قد تغني - في مثل هذه الرسالة الصغيرة - في الإلمام بالخطوط البارزة من هذه السيرة الحافلة، ولكنها لا تغني عن سؤال يتردد لا محالة على لسان من يسمع ببرنارد شو أو يقرأ عنه، وهو: كيف يعيش هذا الرجل في حياته الخاصة؟ كيف تكون المعيشة البيتية للرجل الذي يجهر بازدراء التقاليد، ويتنقل بين عشرات من النساء في جو الفن أو جو الثورة على النظم الاجتماعية، وكلهن أو أكثرهن يتحدثن عن الحب الحر و«حقوق المرأة الشخصية»، ويباهين بالانطلاق من أسر العرف وفرائض الدين؟
إن أعاجيب برنارد شو كثيرة، وأعجبها فيما نظن هذا التناقض التام بين الصورة التي يستوحيها قارئه عن حياته الخاصة من كتبه وآرائه، وبين الصورة الحقيقية التي يعرفها كل من عاشروه واختبروه.
فالقارئ يستوحي من كتبه وآرائه صورة رجل غارق في الإباحة والشذوذ عن العرف، والمتعة بما تمهده له وسائل الشهرة والثروة.
ولكنها أكذب صورة للرجل كما عرفه صحابته ومعاشروه، ولعلها تصدق على كل إنسان في البلاد الإنجليزية، وفي العالم كله، قبل أن تصدق عليه.
إنه ليس بالإباحي ولا بالشهوان الغارق في المتع والملذات، بل هو على نقيض ذلك أقرب إلى النسك والتقشف، يقصر طعامه على النبات ولا يقرب الخمر ولا يحتفل بالمائدة في طعامها ولا زينتها، ولا يقتني من الأثاث غير السهل البسيط الذي يلزم كل اللزوم في الاستعمال؛ كأنه يقيم في معسكر على أهبة الرحيل.
عاش مع أمه إلى أن توفيت (سنة 1913) وهو يعلم أنها لا تقرأ كلمة من مؤلفاته، ولا تحفل بعمل من أعماله، ولم يقع بينه وبينها خلاف أو جفاء حتى ودعها الوداع الأخير، فاحتفل بإحراق جثتها على حسب وصيتها، وظل وفيا لذكراها إلى هذه الأيام.
في شبابه.
صفحه نامشخص