والريف بنضرته وسذاجته، وحيواناته وأشجاره، وقناعة سكانه، هو أقرب الحقائق إلى الأحلام، وريفنا في مصر يحفل بالبؤس والقذر والمرض وسائر مخلفات الإقطاعين المستكرشين، ومع ذلك نجد بيننا من الشيوخ المتعبين من يحلم ويبني أمانيه على تمضية سني العمر الأخيرة فيه، أما ريف أوربا فمن أجمل الأرياف في العالم؛ ولذلك يصح أن يكون من الأماني وأن يحلم به الحالمون، ولعل أعظم ما يفصل بين الريف الأوربي والريف المصري أن الأول عرضة لأن تغسله الأمطار ثلاث أو أربع مرات في الشهر؛ ولذلك تبنى قراه بالحجر ويبقى نظيفا، بل ناصعا، كما يخلو من الغبار، أما ريفنا الذي تبنى منازله بالطوب الأخضر، والذي يجف فيه الهواء، فيمتلئ بالغبار ويحفل بالقذر، ومع كل ذلك ما يزال موضع الأماني لما فيه من سذاجة العيش واسترخاء الحياة عند الذين تعبوا وتوتروا من حضارة المدن.
ولكن الحالمين الذين يمعنون في أحلامهم لا يقنعون أحيانا بالريف، فيتجاوزونه إلى البكر من الأقاليم النائية عند البدائيين أو المتوحشين، وهم ينزعون إليه بخيالهم بحسبان أنه يخلو تماما من تلك المركبات الحضارية التي تربك المتحضرين وتعقد حياتهم وترهقهم بالتكاليف والنظم.
وعندما تفسد الحضارة وتحفل بالمظالم يهفو الخيال إلى هذا الحلم.
وكانت الحضارة على أفسدها في فرنسا قبيل الثورة الفرنسية؛ ولذلك رأينا اثنين من أعظم الأدباء يدعوان إلى السذاجة والفرار من الحضارة، أولهما «جان جاك روسو» الذي عزا إلى الحضارة جميع الكوارث حتى كارثة زلزال لشبونة ودعا إلى العيش الساذج، وثانيهما «برناردان سان بيير» الذي نقلنا في «الكوخ الهندي» إلى مكان ناء في أقصى أفريقيا حيث يعيش المحبان في كوخ لا يزعجهما حسد من المجتمع أو ضرائب من الحكومة، أو ترف مزعج من اللباس والطعام، أو مواعيد مؤقتة بالساعة والدقيقة للعمل والكسب.
وقد قرأ نابليون هذه القصة ودعا المؤلف وطلب إليه أن يؤلف كوخا هنديا «آخر»، والعبرة هنا أن نابليون على الرغم من أنه كان على قمة الحضارة، يسعد بكل ما فيها من وسائل الإسعاد، كان ما يزال مثلنا جميعا يهفو إلى حياة السذاجة والقناعة التي رسمها المؤلف في «كوخ».
غاندي مع عنزته وفي شملته، وتولستوي في ريفه، وطعام النبات بدلا من طعام اللحم، والحياة الجديدة الخالصة من شوائب المجتمع، كل هذه أحلام حلم بها بعضنا، وهو وإن لم يستطع النزول على شروطها والعمل بقواعدها، قد انتفع بها؛ لأنها حفزته إلى التفكير والمراجعة، وما أسميه «يقظة الوعي » لأنه صحا وسأل وحاول.
والشاب الذي يستسلم للقواعد الاجتماعية، ولا يكابد قط مثل هذه الارتباكات، ولا يفكر في المشكلات التي يخلقها لنفسه، مثل هذا الشاب لن يصل إلى يقظة الوعي ولن يفلسف ولن يبتكر، وهو عجوز في سن الثلاثين يحيا بإيمان العجائز في سن الثمانين. •••
في سنة 1881 ظهر رجل أمريكي في لندن به لوثة أو هوسة (كما ذكرنا في أول هذا المقال) يدعى «دافيدسون» دعا إلى ما يسمى «الحياة الجديدة».
وكان لهاتين الكلمتين إغراء له قوة السحر في نفوس الشبان والفتيان والكهول والشيوخ، فما هو أن كان يعلن عن اجتماع يلقي فيه خطبة عن هذا الموضوع حتى كانت المئات تهرع إليه، وكل منهم في شوق لأن يسمع شيئا جديدا في وسط هذه الحياة اللندنية التي كانت تحفل وقتئذ بالمظالم الاجتماعية والتفاوت في الكسب وقلة الطمأنينة على العيش، بل كانت الحكومة البريطانية نفسها تعد العدوان تلو العدوان لضرب الشعوب وخطف أرزاقها كما فعلت بنا في السنة التالية (1882).
وكان الناس يسمعون من هذا الخطيب أننا يجب أن نحيا حياة جديدة، لها قيم جديدة، تلغي التقاليد والعادات القديمة، فلا ننشد الثراء بل نكتفي بقناعة العيش الرخيص الساذج الذي لا يكلفنا الثمن الباهظ، بل لا يرهقنا الحصول عليه، وعلينا أن نلبس اللباس الساذج، ولا نتزوج إلا عن حب، ولا نعامل إلا بالعدل، ولا نسكن إلا الأكواخ، ويجب ألا يستأثر حب الكسب بوقتنا؛ لأننا يجب أن نقنع من الكسب بما يكفينا، وأن نرصد معظم وقتنا للدرس الجاد والاستمتاع الناضج والتفكير الفلسفي.
صفحه نامشخص