عندما أتأمل التفكير الفلسفي عند المفكرين الملهمين الذين أخصبوا الثقافة البشرية وبعثوا النمو في براعمها وولدوا فيها، أجد أنهم - أي هؤلاء المفكرين - أطفال يفكرون تفكير الأطفال ولكن على مستوى عال.
ذلك أن تفكير الأطفال يتسم بحرية مطلقة لا تعرف القيود الاجتماعية أو التحفظات العرفية، حتى ليسألك الطفل حين تقول له «إن الله خلق العالم»: أين الله؟ أين مسكنه؟ ماذا يلبس؟ ونحو ذلك مما نتأفف منه ونمنعه عن المضي في السؤال عنه.
والرجل المفكر يسأل مثل هذه الأسئلة ولكن على مستوى عال: كيف نشأ الكون؟ ما هو أصل المادة؟ ما هي نهاية الكون؟ ماذا بعد الموت؟ ما هو مستقبل الإنسان بعد مليون سنة؟ ونحو ذلك.
والرابطة بين الطفل الساذج والمفكر الناضج هي أن الاثنين يفكران في حرية مطلقة؛ فالطفل حر لأنه لا يعرف القيود الاجتماعية، والمفكر حر لأنه يجد نفسه مضطرا إلى التخلص من هذه القيود كي يحسن التفكير.
وهذا هو ما نجد في برنارد شو، طفل كبير يسأل أسئلة الأطفال ويجيب عليها إجابة الفلاسفة، ومن قبله فعل مثل ذلك «نيتشه».
كلاهما سأل عن السبرمان؛ أي الإنسان العالي.
والفكرة في الإنسان العالي نشأت في ألمانيا منذ انتشى الألمان بحياة أديبهم وعالمهم وفيلسوفهم «جوتيه»، فقد عاش هذا العظيم نحو ثمانين سنة وهو يمارس أنواعا من النشاط العالي في مختلف الثقافات، يجمع بين الفن والعلم، والشعر والسياسة، والأدب والدين ، ويستنبط من كل هذه الأشياء حكمة للعيش وبصيرة لماضي الإنسان ومستقبله.
فلما مات أصبحت حياته أسطورة يقرأها الشباب ويتأملها الشيوخ، ويعكسون تفاصيلها على ما يلابسهم من ظروف وما يستجيبون له من أحداث، ويسألون عن ارتقائهم في ضوء شخصيته، وأصبح جوتيه الرجل المثالي.
وكان جوتيه السحر الذي سحر «نيتشه»، ولم يعد عنده الرجل المثالي فقط بل صار السبرمان (فوق الإنسان).
ودعا نيتشه خاصة المثقفين إلى أن يكون كل منهم سبرمان يترفع عن الأخلاق العامة ويسن لنفسه أخلاقه الخاصة، فكان بذلك وجوديا يقول باستقلال الشخصية، وبأن المجتمع يجب ألا يغرقنا في عاداته وتقاليده وأخلاقه.
صفحه نامشخص