وكان كبير التقدير لرجل العلم حتى لقد قال ذات مرة - كما ذكرنا - إن رجل الأدب لا قيمة له. وهو هنا يختلف مع شو الذي يحترم الأدب كما يقدر العلم، ولكن الواقع أن عقليهما أقرب إلى العلم منهما إلى الأدب.
وقد استنار الشعب بل الشعوب الإنجليزية من هذين الكاتبين، وارتفع مقام التأليف والصحافة بهما؛ فإنهما صحفيان قبل أن يكونا مؤلفين، بمعنى أن اهتمامهما بالأحداث الجارية كان كبيرا بحيث لم تكن هناك صحيفة كبرى تهمل رأيهما بشأنها، وكان اتفاقهما في الوسائل والأهداف أقل من اختلافهما، أما الموضوعات التي عالجاها فلم تخرج قط عن التطور، الإنسان في المستقبل، الاشتراكية، الثقافة ، الزواج، الحكومة، قيمة العلم ... إلخ.
وإذا شئنا أن نفضل ونميز بين شو وويلز جاز لنا أن نقول إن عقلية شو انتقادية في الأكثر بنائية في الأقل، أما ويلز فيبني ولا يكاد ينتقد إلا قليلا؛ أي إنه إيجابي، يشرع المشروعات للبناء في السياسة والاقتصاد والأخلاق. والإصلاحات الاجتماعية العديدة التي سارت فيها الحكومة الإنجليزية في النصف الأول من هذا القرن هي من إيحاء مؤلفات شو وويلز أكثر من أي كاتب آخر.
ولقد كان من سعادة حياتي أني جاريت هذين الاثنين من السنين العشر الأولى من هذا القرن إلى يوم وفاتهما، ولم أكن أهمل حرفا مما كتباه، وإليهما أعزو نشأتي العلمية واتجاهي الاشتراكي الإنساني.
شو وتولستوي وشكسبير
كان الأدب الروسي - في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين - قدوة ومثالا لجميع طلبة الأدب والأدباء في أوربا، وأيما أديب كان يجهل تولستوي أو دستوفسكي أو جوركي، أو يستصغر شأنهم في الأدب، كان - بهذا العمل - يعرض نفسه للسخرية والاحتقار.
ولم يكن غريبا على برنارد شو أن يصف الأدب الروسي بأنه أدب «العمالقة»، والمعنى هنا أن الأدباء الروس يعلون على غيرهم من أدباء أوربا علوا عظيما.
وعرف شو تولستوي، واتصلت المكاتبات بينهما في شئون الفن والدين، وأكاد أقول إنه لم يهز أوربا ويثير ضميرها بعد فولتير مثل تولستوي وشو، وهناك من الحوادث الصغيرة ما له قيمة رمزية كبيرة؛ فإن المتهتكين من الكهنة الروس (الذين ينتسب إليهم راسبوتين) كانوا قد رأوا فيما يكتبه تولستوي هرطقة أي زندقة، فحرموه أي أخرجوه من حظيرة الكنيسة، ومع أن هذا الحادث تافه فإنه فتح العيون والعقول في أوربا على مقدار الهوة التي كانت تتردى فيها روسيا أيام القياصرة.
وكانت خطيئة تولستوي التي استوجبت هذا الحرم أنه وصف المسيح بالحكمة والعقل لا أكثر، حتى إنه قال إن الحكمة المسيحية التي تقول: «لا تقاوموا الشر بالشر» لا تحتاج إلى إيحاء إلهي «وكان يمكنني أنا أن أقولها لو لم يقلها الإنجيل.»
وأحب شو روسيا، وأحبها أكثر عقب ثورة 1917، ولما مات وجدت صورة «لنين» معلقة فوق فراشه، وزار الاتحاد السوفيتي وقرأ وصحح كتاب سيدني وبياتريس ويب «حضارة جديدة» عن الاشتراكية كما تمارس هناك حوالي 1941، ولم يكن هذا غريبا فيه؛ فإنه عاش حياته يدعو إلى الاشتراكية، فكان طبيعيا أن يعجب بالنظام الاشتراكي الجديد في الاتحاد السوفيتي.
صفحه نامشخص