ولما كان الغد وجاء وقت الطعام صباحا واجتمع آل البيت على المائدة أنبأهم «ڤكتور» بعزمه على السفر إلى مدينة بواتيه، فقالت «ماري» بانكسار واحتشام: لعلك تروم السفر لشأن يدعوك إليه؟!
فقال: نعم. ثم حول وجهه عن زوجته لكيلا يقع نظرها عليه، فتلمح علامة الارتباك فيه؛ فقال له والده: ومتى تعود يا بني؟ - بعد ثلاثة أيام!
فشق ذلك على «ماري»، ولم تتمالك أن صاحت مستفهمة منكرة : ثلاثة أيام؟! - نعم، وما موجب العجب والاستنكار؟
فأثر هذا الجواب في نفس «ماري» تأثيرا شديدا، فبكت وقالت: آه يا «ڤكتور»! إنا لم نمتحن بعد بمثل هذا الفراق، ثم ضجت بالبكاء وألقت بنفسها على زوجها، فتلقاها وضمها متأثرا مما ألم بها من الغم، ثم رام تطييب خاطرها، فقال: إن كنت لا تصبرين على فراقي، فلست براحل عنك يا شقيقة الروح. - أحق ما تقول؟! - حق لا ريب فيه ... فقال الكونت «ديلار»: إن كان في سفرك مصلحة، فلا ينبغي العدول عنه يا بني. - نعم، فقد أنبأني وكيلنا بالمدينة أن بعض الناس طلب منه مقدارا من المال قرضا، فرأيت من المصلحة أن أسير إلى المدينة بنفسي لأنظر في الأمر وأفعل ما يقتضيه. - إن كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن تمنعي زوجك من السفر وتعارضيه في قضاء ما يجب عليه، فأنت أم ولد صغار مسئولة عنهم في الحال والمآل، فلا تذهلي عن ذلك، ولا تميلي مع هوى النفس. - فأجابت وهي آسفة كاسفة البال: صدق والدك يا «ڤكتور» فلا بد من ذهابك إلى المدينة. - وهل تغالبين الأسى وتجلدين؟! - نعم، أتجلد ما استطعت. - إذن أسافر بعد الطعام شاكرا لكم هذا القبول، وستعلمون أني لست بأقلكم رغبة في قرب اللقاء.
وسار «ڤكتور» بعد ذلك مخلفا عند زوجته وحشة الفراق، وكان قد حدث منذ الأمس في ذلك البيت ما غير حالة أهله تغييرا سيئا، إذ وجد في نفس كل منهم شيء يخفيه، وسر يكتمه على الباقين. نعم، إن ذلك السر كان خفيفا غير ذي بال، ولكن أول خاطر يكتمه المرء عن ذويه يكون كالحبة تدفن في الأرض، فتنبت وتنمو فتصير شجرة ذات فروع وجراثيم، فلو كشف أهل هذا البيت أسرارهم، وأزالوا حجب الكتمان عن أنفسهم أول الأمر لأمكن رجوع الهناء والأنس إليهم، ولكنهم كتموا خواطرهم وحجبوا سرائرهم؛ فتفرقوا مبتئسين متفكرين، فلم يعاودهم الصفاء، ووقفت «ماري» تنظر إلى العربة وهي سائرة بزوجها على عجل حتى غابت عن نظرها، فرجعت إلى غرفة أطفالها ينشد لسان حالها:
مستجير الهوى بغير مجير
ومضيم النوى بغير نصير
فهو ما بين عمر يوم طويل
يلتظي وعمر يوم قصير
لا أقول المسير أرق عيني
صفحه نامشخص