وقاطعه سعدون: وبعد لك يا عبد المجيد بك! ما معنى هذا الكلام؟ - اسمعني إلى آخر حديثي. - تحت أمرك. - بعد النكبة التي أنزلها بي هارون ظللت قرابة سنتين وأنا لا مورد لي إلا ما آخذه منك. - وبعد معك؟ - اسمعني. كانت سنوات مظلمة، وكان الأولاد بالمدارس وبغير ما كانت آخذة منك الله وحده يعلم إلى أي مصير كنت سأرمى. في السنة الثالثة لاحت لي فرصة تجارية بدت في أول أمرها ضئيلة الموارد، فقلت في نفسي أبلغك وأتوقف عن أخذ المبلغ الشهري منك، ولكنني راجعت نفسي. ماذا أفعل إذا لم ينجح المشروع؟ ورأيت أن أنتظر قليلا. كان المشروع تجارة أخشاب، وكبر المشروع وأصبح المال الذي أناله منك غير ذي موضوع. لكنني فكرت قليلا، فوجدت أن المبالغ التي تعطيها لي أنت لست في حاجة إليها؛ فقد كنت أعرف أن إيجار أرضك يزيد دائما، وأنك بعت أرض عابدين فكان همي الوحيد كيف أرد لك فضلك؟ وجدت أن أحسن ما أستطيع أن أصنعه أن أستمر في أخذ المبلغ منك وأستثمره في مشروعي وكأنك شريك معي بما تقدمه لي كل شهر. واعتبرت نفسي كأني أدخر لك. - ماذا؟! - اسمع. - لا أسمع شيئا! وهل هذا معقول؟ - بل هو المعقول. في هذه الحقيبة نصف مليون جنيه، هي أرباحك التي كسبتها مما قدمته إلي في هذه السنوات.
ووقف سعدون ذاهلا وهو يصيح: ماذا تقول يا رجل؟ هذا المال نتيجة جهدك وعملك. - ولكنه مالك أنت، وكل ما فعلته أنني أشركتك معي. - وجهدك؟ - كنت سأقوم به على أية حال، سواء كان مالك أو لم يكن مالك. إنه كان يدخل ضمن إيرادي، أليس كذلك؟ - كيف أقبل هذا؟ - هذا ربح حلال، وأنت تعرف أنني الآن أؤدي الفروض جميعا، وهذا المال زكاته مدفوعة وعلم الله ليس فيه مليم من حرام. - لا يمكن أن أقبل هذا. - لقد كنت كريما وأنت تعطي، فاسمح لمن أخذ أن يكون على درجتك من الكرامة. - أترضاها لي؟ - أوترضى أنت لي أن أستحل مالك في أسود أيام عمري، ولا أرد لك الفضل بعد أن أكرمني الله هذا الإكرام؟ - ولكن أنا لم أقدم إليك ما قدمت لتتاجر لي فيه، بل لم أكن أتوهم هذا. - ولكنني أخذت منك ما أخذت في السنوات الأخيرة كلها، على نية التجارة بها باسمك. - فلو كنت خسرت ماذا كنت تصنع؟ - لو كنت خسرت لظللت أتقاضى منك ما خصصته لي، وتكون أنت قد خسرت مالا كنت تتبرع به. - والله ... - يا سعدون بك من الكرامة أن تعين الآخرين على حفظ كرامتهم. - هذا معنى جميل. - إنه حق. - إذن فاسمح لي أن أشعر أنني أسمو إلى المكان الذي وضعتني فيه.
ألم تستر فقري، وأتحت لي العيش كريما على نفسي وأولادي وعلى الناس في سنوات ما كنت أدري فيها كيف أواجه الحياة؟ أستأذن أنا، سلام عليكم.
وقام الرجل من مجلسه وسعدون ما يزال في حالة ذهول، وقف هو يقول: انتظر. - لم يبق عندي ما أقوله. - هذا المال ليس حقي. - بل إنه أقل من حقك.
واتجه إلى الباب وهو يقول: سلام عليكم.
وخرج وسعدون في ذهوله لا يزال.
ثم جلس وهو يقول في صوت مرتفع: أيمكن هذا؟ هل هناك ناس مثل هذا الرجل؟ اللهم أحمدك يا رب. إنك أرحم بعبادك من أن تتركهم وليس فيهم مثل هؤلاء العظماء.
الفصل التاسع
انتهى اليوم الدراسي في كلية الهندسة، وخرج شهاب من الكلية وبرفقته صديقه حلمي فؤاد واتجها إلى سيارة شهاب. - إلى أين يا شهاب؟ - إلى البيت. - ماذا تصنع في البيت؟ - ما يصنعه خلق الله في بيوتهم. - يا أخي لقد تعبنا اليوم، لماذا لا نتغدى في أحد المطاعم ونقضي يوما ممتعا. - لا مانع. انتظرني في السيارة حتى أكلمهم في البيت. - أترى ذلك مهما؟ - حتى لا أشغل والدتي. - على كيفك، ولو أنني في بيتنا أعود حينما أريد، ولا يسألني أحد أين كنت. - المسألة ديتها تليفون. - على كيفك.
وحين عاد شهاب سأل حلمي: أتعرف مطعما معينا؟ - اطلع.
صفحه نامشخص