البراهين
على ألا بدعة حسنة في الدين
والرد على شبه المخالفين
جمع وإعداد/أبي معاذ السلفي
المقدمة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فإنه لا يخفى على متمسك بالسنة أن من أهم ما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد التوحيد التمسك بالسنة ومحاربة البدعة، ومن الأدلة على ذلك تحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم - من البدع في خطبة الحاجة التي كان يبدأ بها خطبه عليه الصلاة والسلام، وهي التي بدأت بها مقدمتي لهذه الرسالة والحمد لله.
ورغم ذلك كله فإن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن البدع قد انتشرت فيها وللأسف في مجال العقيدة والعبادات والمعاملات المختلفة، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار تلك البدع اعتقاد الكثير أن البدع تنقسم إلى قسمين!! بدع سيئة وبدع حسنة!!
وقد واجه كثير من أهل العلم جزاهم الله خيرا تلك البدع فحذروا منها في خطبهم وكتبهم بل ألفوا كتب خاصة في التحذير من البدع عموما، ومن بعض البدع خصوصا.
وقد وفقني الله وله الحمد والمنة بجمع بعض الفوائد من بعض تلك الكتب في هذه الرسالة والتي رأيت من المفيد أن أجمعها حتى يسهل مراجعتها، وحرصت قدر الإمكان أن تكون سهلة العبارة، وسميت هذه الرسالة ب "البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين والرد على شبه المخالفين".
وفي ختام هذه المقدمة أسأل الله أن ينفعني بهذه الرسالة؛ ومن يطلع عليها، كما أسأله أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم؛ موافقة لهدي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
صفحه ۱
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملاحظة : قد عزوت بعض الأحاديث والآثار إلى مصادرها الأساسية بواسطة بعض المراجع، وذلك بسبب عدم توفر تلك المراجع الأصلية عندي أثناء جمع مادة هذه الرسالة،ورأيت أنه من الأمانة العلمية أن أبقيها كما هي.
مدخل:
معنى البدعة
(قال الإمام الطرطوشي - رحمه الله - في "الحوادث والبدع" (ص40):
" اصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احتذي، ولا ألف مثله.
ومنه قوله تعالى: { بديع السماوات والأرض } ]البقرة:117[، وقوله: { قل ما كنت بدعا من الرسل } ]الأحقاف:9[ ؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض".
أما تعريف البدعة شرعا فهي:
"طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".
كذا اختاره الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/51)، وهو من أجمع تعاريف "البدعة" وأشملها) (¬1) .
وبهذا التعريف خرجت البدع الدنيوية كالسيارات، والطائرات، وأشباه ذلك، وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة الوجوب - التحريم - الاستحباب - الكراهة- الإباحة" لا البدعة الدينية، وسيأتي زيادة بيان لذلك فيما بعد إن شاء الله.
الفصل الأول:
البراهين على أن كل بدعة ضلالة وليس فيها شيء حسن
(إن تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة، تقسيم لا مستند له في الشرع، وكيف يكون له أصل وهو ينافي صريح القرآن وصحيح الأحاديث؟!
وهاك البيان على وجه التفصيل:
(أولا: إن من أصول الدين الواجب اعتقادها، ولا يصح إيمان المرء دونها، أن الإسلام دين أتقن الله بناءه وأكمله، فمجال الناس التطبيق والتنفيذ "السمع والطاعة" وهذا أمر أدلته ظاهرة) (¬2) .
صفحه ۲
( يقول الله تعالى ممتنا على عباده: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ]المائدة: 3[.
فهذه الآية الكريمة تدل على تمام الشريعة وكمالها، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق الذين أنزل الله قوله فيهم: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ]الذاريات: 56[.
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (2/19):
"هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين
إلا ما شرعه".
فأي إحداث أو ابتداع إنما هو استدراك على الشريعة، وجرأة قبيحة ينادي بها صاحبها أن الشريعة لم تكف، ولم تكتمل!، فاحتاجت إلى إحداثه وابتداعه!!
وهذا ما فهمه تماما أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة من بعدهم؛ فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة" (¬1) .
وروى البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه انه قال:"يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا".
وخلاصة القول: "إن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد،
فلا يكون لقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } معنى يعتبر به عندهم" (¬2) .
صفحه ۳
"فإذا كان كذلك؛ فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه؛ لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال الإمام الشوكاني في "القول المفيد" (ص38) مناقشا بعض المبتدعين في شيء من آرائهم:"فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه - صلى الله عليه وسلم - فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟!
إن كان من الدين في اعتقادهم؛ فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم (!) وهذا فيه رد للقرآن! وإن لم يكن من الدين؛ فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين ؟!
وهذه حجة قاهرة، ودليل عظيم، لا يمكن لصاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدا، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي،وترغم به آنافهم،وتدحض به حججهم".
إذ " كل ما أحدث بعد نزول هذه الآية؛ فهو فضلة، وزيادة، وبدعة" (¬1) (¬2) .
ثانيا: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لزاما عليه أن يقوم بحق الرسالة، فيبلغ الإسلام غير منقوص قال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } ]النحل: 44[ ولقد فعل - صلى الله عليه وسلم - وإلا فما بلغ رسالته - وحاشاه - فما أنتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا إلا والدين كامل لا يحتاج إلى زيادة) (¬3) .
وقد أشار إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: { إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم } رواه مسلم.
صفحه ۴
وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير" (1647) بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار؛ إلا وقد بين لكم } .
وقال أيضا - صلى الله عليه وسلم - : { قد تركتكم على البيضاء،ليلها كنهارها،لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } رواه ابن ماجة (¬1) .
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "من حدثك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: { يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } ]المائدة: 67[" رواه البخاري مسلم .
ولهذا لما قال بعض المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه: "إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة؟
قال: أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، وأن لا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع ولا عظم" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
وقال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: { اليوم أكملت لكم دينكم } فما لم يكن يومئذ دينا؛ فلا يكون اليوم دينا" (¬2) .
ثالثا: إن التشريع حق لرب العالمين، وليس من حق البشر، (لأن الله الذي وضع الشرائع، ألزم الخلق الجري على سنتها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون.
صفحه ۵
ولو كان التشريع من مدركات الخلق لم تتنزل الشرائع، ولم تبعث الرسل، وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه ندا لله، حيث شرع مع الله، وفتح للاختلاف بابا ورد قصد الله في الانفراد بالتشريع) (¬1) قال الله عز وجل: { اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون } ]الأعراف:3[.
وقال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } ]الشورى:21[.
وقال عز وجل: { وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } ]الأنعام:153[.
قال الإمام مجاهد- رحمه الله - وهو من كبار التابعين في تفسير قول الله تعالى: { ولا تتبعوا السبل } : "البدع والشبهات" (¬2) .
وقال: { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } متفق عليه.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } رواه مسلم.
(والرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو من هو معرفة وحكمة وعلما لم يكن يحكم باستحسانه ويشرع بنفسه؛ قال الله تعالى: { إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله } ]النساء:105[،
وقال الله عز وجل: { وأنزلنآ إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } ]النحل:44[؛ وقال:
{ وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } ]النجم:3- 4[) (¬3) .
وقال الله تعالى: { قل إنمآ أتبع ما يوحى إلى من ربي... } ]الأعراف:203[.
وقال تعالى: { اتبع مآ أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } ]الأنعام: 106[.
صفحه ۶
وقد ذم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوما يفعلون أمورا لم يأمرهم بها الله ولم يحثهم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي "صحيح مسلم" عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
{ ما من نبي بعثه الله في أمة قبل، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته
ويقتدون بأمره.ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن،ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل } .
(فمن ابتدع عبادة من عنده - كائنا من كان -؛ فهي ضلالة ترد عليه؛ لأن الله وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
لذا؛ فإن صحة الاستدلال بالقواعد العلمية تقتضي أن نقول كما قال العلامة ابن القيم في كتابه العجاب "إعلام الموقعين" (1/344):
"ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة (¬1) حتى يقوم دليل على النهي".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى " (31/35):
"باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئا عبادة أو قربة ؛ إلا بدليل شرعي".
صفحه ۷
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (4/401) مناقشا مسألة إهداء ثواب القراءة للموتى، حيث جزم بعدم وصولها، معللا سبب المنع:"إنه ليس من عملهم،ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرا؛ لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء" وعلى هذا جرى السلف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين) (¬1) :
(فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه"رواه أبو داود (¬2) .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك؛ ما قبلتك" رواه البخاري ومسلم.
وقالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: أتقضي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟
فقالت رضي الله عنها: "أحرورية أنت؟ كنا نحيض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به،
أو قالت: فلا نفعله" رواه البخاري ومسلم.
وروى الترمذي ( 2738)، والحاكم (4/265-266) وغيرهما بسند حسن عن نافع أن رجلا عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله!
قال ابن عمر:"وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال" .
فهذه أحاديث نبوية وآثار سلفية من صحابة كرام، تبين المنهج الصحيح في تلقي الشرع، وأنه لا مجال لتحسين العقل فيه، أو لتزيين الرأي به، وأن مورد ذلك كله النصوص الشرعية.
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله في كلمته المشهورة التي نقلها عنه أئمة مذهبه وعلماؤه كالغزالي في "المنخول" (ص374)، والمحلي في "جمع الجوامع-2/395 بحاشيته":"من استحسن فقد شرع ") (¬3) .
صفحه ۸
رابعا: إن الابتداع (اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في أتباع الهوى وأنه ضلال مبين.
ألا ترى قول الله تعالى: { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد
بما نسوا يوم الحساب } ]ص: 26[.
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجردا إذ
لا يمكن في العادة إلا ذلك.
وقال: { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } ]الكهف:28[ فجعل الأمر محصورا بين أمرين ، اتباع الذكر؛ واتباع الهوى، وقال: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } ]القصص:50[) (¬1) .
وقال الله عز وجل: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين
لا يعلمون } ]الجاثية:18[.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا خطا، ثم قال:
{ هذا سبيل الله } ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: { هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه } وقرأ: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } " رواه احمد والحاكم (¬2) .
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:"إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأمر" أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/96).
صفحه ۹
خامسا: إن الإخلاص لا يكفي في العمل حتى يكون متقبلا لأن (دين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل) (¬1) .
فشروط العمل الصالح المتقبل هي: أولا: الإخلاص.
وثانيا: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -:"إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا؛ لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة" (¬2) .
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره"(1/572) عند تفسير قوله تعالى:
{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } ]النساء:125[: ( { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله } أي أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيمانا واحتسابا { وهو محسن } أي اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد... الخ).
والأدلة على هذين الشرطين كثيرة: فمن أدلة وجوب إخلاص العبادة لله قوله تعالى:
{ ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء } ]البينة:5[.
وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ما له؟.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { لا شيء له } فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
صفحه ۱۰
{ لا شيء له } ثم قال: { إن الله لا يقبل من العمل؛ إلا ما كان له خالصا،وابتغي به وجهه } رواه النسائي (¬1) .
ومن أدلة وجوب متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } ]آل عمران:31[.
وقال تعالى: { واتبعوه لعلكم تهتدون } ]الأعراف:158[.
وروى البخاري ومسلم عن انس رضي الله عنه انه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: { أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني } .
وقد صح عن معاوية رضي الله عنه أنه كان يستلم أركان الكعبة الأربعة، فقال له ابن عباس رضي الله عنه "إنه لا يستلم هذان الركنان"، فقال معاوية: "ليس شيء من البيت مهجورا" رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
وزاد أحمد:فقال ابن عباس رضي الله عنهما: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } فقال معاوية رضي الله عنه:"صدقت".
صفحه ۱۱
( ولا أدل على ذلك من قصة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى، يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم رضي الله عنه: "فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته
لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة".
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير.
قال: " وكم من مريد للخير لن يصيبه" رواه الدارمي في "سننه" (1/68-69) وأبو نعيم وغيرهما، وسنده صحيح.
قلت: فهذه قصة جليلة، ترى فيها بجلاء كيف كان علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتعاملون مع العبادات بوسائلها ومقاصدها ونيات أصحابها، وبيان ذلك فيما يلي:
أ- قوم يذكرون الله تعالى، تكبيرا، وتهليلا، وتسبيحا.
ب - استعملوا في ذكرهم حصى ك (وسيلة) لعد هذا التكبير والتسبيح.
ج - نياتهم في عملهم هذا حسنة، يريدون به، عبادة الله، وذكره، وتعظيمه.
د - ومع ذلك؛ أنكر عليهم ابن مسعود هذا العمل ضمن هذه الوسيلة؛ لأنه لم يعهد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ رغم وجود المقتضي له في عصره.
ه - رتب على عملهم المحدث هذا الإثم لمخالفتهم السنة، ومواقعتهم البدعة.
و- لم يجعل - رضي الله عنه - حسن نياتهم سبيلا للتغاضي عن عملهم، أو دليلا على صحة فعلهم، إذ النية الحسنة لا تجعل البدعة سنة، ولا القبيح حسنا، بل لا بد أن يكون مع النية الحسنة والإخلاص: موافقة للسنة، ومتابعة للسلف) (¬1) .
صفحه ۱۲
وعن سعيد ابن المسيب - رحمه الله -: أنه رأى رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه! فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟
قال:"لا ولكن يعذبك على خلاف السنة" (¬1) .
قال الألباني- رحمه الله- في"الإرواء"(2/236):"وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحسنون كثيرا من البدع باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك" اه.
وقال (¬2) رجل للإمام مالك: يا أبا عبدالله من أين أحرم؟
قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر.
قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة.
فقال: وأي فتنة في هذه ؟! إنما هي أميال أزيدها!!
قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
قال تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
]النور:63[.
فهذه الأدلة تدل على أن إخلاص أولئك في نيتهم لم يمنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة
ولا التابعين ومن تبعهم من الإنكار عليهم بسبب عدم متابعتهم في أعمالهم تلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
صفحه ۱۳
سادسا: إن الأدلة الصحيحة جاءت بذم البدع مطلقا، ولم تقسم البدع إلى بدع حسنة مستحبة وإلى بدع سيئة مكروهة:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة؛ "وكل ضلالة في النار" } أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي والزيادة له.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : { فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ،وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة } أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم (¬1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } رواه مسلم.
(فهذه الأحاديث لم تفرق في الحكم بين بدعة وبين بدعة أخرى، فالنكرة إذا أضيفت؛ أفادت العموم، والعموم لا يخص إلا باستثناء، وأين الاستثناء هنا؟! - وما قد يظنه البعض دليل على الاستثناء سيأتي الجواب عنه فيما بعد إن شاء الله - وهذا ما فهمه السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:" كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة " (¬2) .
صفحه ۱۴
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة؛ فعليكم بالأمر الأول" (¬1) .
فكلاهما أخذ معنى (البدعة) على عمومه، دون تفريق بين ما يسمى بدعة حسنة
أو بدعة سيئة! وهو الذي لا ينبغي سواه) (¬2) .
(وقد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي؛ إذا تكررت في مواضع كثيرة وأوقات متفرقة وأحوال مختلفة، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها العام المطلق.
وأحاديث ذم البدع والتحذير منها من هذا القبيل، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يردد من فوق المنبر على ملأ من المسلمين في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة أن { كل بدعة ضلالة } ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية من العموم فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
وقد اجمع السلف الصالح على ذمها وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها،
ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا استثناء، فهو - بحسب الاستقراء - إجماع ثابت يدل دلالة واضحة على أن البدع كلها سيئة ليس فيها شيء حسن) (¬3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى" (10/370): (إن المحافظة على عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : { كل بدعة ضلالة } متعين وأنه يجب العمل بعمومه).
صفحه ۱۵
سابعا: (إن معرفة البدعة المدعى حسنها متعذرة، لأن الأمر قد يكون ظاهره طاعة وهو معصية وقد يكون الأمر بالعكس وقد يحسن كثير من العقول بمجر دها أن تصلي الظهر خمسا عند النشاط والرغبة في مناجاة الله ويحسن أن تصلي ركعة عند التعب والإعياء وتراكم الأشغال وهكذا يقال في سائر الفروض.
فيقال لمحسني البدع أنتم في حاجة شديدة أن تميزوا البدعة الحسنة من القبيحة، ونحن على اتفاق أنه ليس كل ما ظاهره طاعة يكون في الواقع طاعة، ولا كل ما ظاهره معصية يكون في الواقع معصية، وغاية الأمر أن يكون هذا المحدث المبتدع دائرا بين أن يكون حسنا مثابا عليه، وأن يكون قبيحا معاقبا عليه، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تدعوا أنه من القسم الأول إلا بدليل خارج، والدليل إذا كان من الكتاب؛ أو السنة الصحيحة؛ أو الإجماع؛ فما هو من البدعة، فظهر أن القول بالبدعة الحسنة باطل لتعذر معرفتها.
وسر البرهان أننا نقول لمن أشار إلى عمل محدث وقال هذه بدعة حسنة: من أين عرفت أنها حسنة ولعلها قبيحة؟
وكم نشاهد من الأعمال ما نظنه حسنا وهو قبيح، فمثلا ما يدريك لولا ما جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال:"ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب" أن الصلاة بعد صلاة الفجر وقبل غروب الشمس وفي وقت الظهيرة غير جائزة؟
وما يدريك لولا ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أول
ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر" أن إتمام الصلاة في السفر غير جائز، وأن الفاعل لذلك معذب؟
وقد قال بتعذيبه كثير من العلماء.
صفحه ۱۶
وما يدريك لولا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن توضأ ثلاثا ثلاثا: { هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم } (¬1) أن الزيادة في الوضوء كأن يغسل المتوضئ خمسا لا تجوز، وما يدريك لولا ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا } أن قراءة القرآن في الركوع والسجود غير جائزة بل مكروهة؛ والإمام أبو حنيفة قائل بذلك؟ وكثير في الشريعة ما نظنه طاعة يثاب عليه وهو معصية يعاقب عليه وكذلك العكس) (¬2) .
قال عبدالله القصيمي في كتابه "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" (20- 21):
(خاطبت يوما شيخا من شيوخ الأزهر الذين يقولون: إن في الدين بدعة حسنة؛ قلت له:
ما الفاصل بين البدعة الحسنة والبدعة القبيحة الذي يعتمد عليه المسلم فيأخذ الحسن ويترك القبيح؟
فامتقع لونه وقال (وليته ما قال): البدعة الحسنة هي الجائزة دينا، والقبيحة هي الممنوعة دينا!
قلت له: ما صنعت شيئا، بأي شيء نعرف الجائزة والممنوعة؟ وهو سؤالي.
فامتقع أكثر وقال: الجائزة هي الحسنة، والممنوعة هي السيئة!!
قلت له: هذا هو الدور الممنوع لدى المعممين كافة، إذ لا نعرف الحسن إلا بكونه حلالا، ولا الحلال إلا بكونه حسنا، ولا القبيح إلا بكونه حراما، ولا الحرام إلا بكونه قبيحا.
ثم نشط عقله من عقاله وقال: البدعة الحسنة التي لا ضرر فيها، والقبيحة هي ذات الضرر.
قلت له: ما تقصد بالضرر؟
أتقصد ضرر الدنيا أم ضرر الدنيا والأخرى، أم ضرر الأخرى فحسب؟
صفحه ۱۷
إن قصدت الأول: فأي ضرر في أن نصلي الظهر خمسا والمغرب أربعا والفجر ستا وأن نجعل السجود في الصلاة قبل الركوع، والركوع قبل القيام، والقيام قبل الجلوس، والتشهد قبل الاستفتاح، وأن نصوم شعبان بدل رمضان إذا خفنا أن لا يدركنا رمضان أو يشغلنا شاغل، وأن نصوم في الليل؟
هل في واحدة من هؤلاء ضرر دنيوي تراه؟ لا ضرر سوى مخالفة الشرع.
وإن قصدت الثاني والثالث فما العلامة أن هذه الحادثة فيها ضرر علينا في الدار الآخرة وعقاب لفاعليها؟ هذا وأنت من الذين ينفون التقبيح والتحسين العقليين، فانتهى هنا.
والنهاية أن من لم يأخذ بظواهر هذه الأخبار تحير وقال أقوالا باطلة) اه.
والدليل على هذا أن كثيرا من الذين قالوا بالبدع الحسنة قد أنكروا أعمالا في ظاهرها الحسن، بل إنك لتجد أحد العلماء يقول في بدعة ما أنها حسنة تجد عالما آخر وهو ممن يقول بالبدع الحسنة ينكرها أشد الإنكار وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
1- العز بن عبد السلام وهو من أشهر من قال بتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة يقول في كتابه "الفتاوى" (ص392): (ولا يستحب رفع اليد في القنوت كما لا ترفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث، وكذلك لا ترفع اليدان في دعاء التشهد؛ ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولم تصح الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القنوت، ولا ينبغي أن يزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء ولا ينقص) اه.
وقال في"الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة"(ص7- 8): (فإن الشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها.
صفحه ۱۸
فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه؛فكذلك لا يتقرب إليه بسجدة منفردة، وإن كانت قربة، إذا لم يكن لها سبب صحيح.
وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقت وأوان، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون) اه.
وهذا الكلام صدر من العز بن عبد السلام - رحمه الله - أثناء إنكاره لصلاة الرغائب المبتدعة؛ وقد أنكر هذه الصلاة بالإضافة إلى العز بن عبد السلام كثير من العلماء القائلين بالبدعة الحسنة مثل الإمام النووي في "فتاوى الإمام النووي" (ص57) وعبد الله الغماري في "حسن البيان في ليلة النصف من شعبان" ؛ مع العلم أن بعض العلماء قال باستحبابها مثل ابن الصلاح وأبو حامد الغزالي في "الإحياء" وأبو طالب المكي في "قوت القلوب" وعدوها من البدع الحسنة.
وقال أيضا العز بن عبد السلام كما في "فتاوى العز بن عبد السلام" (ص289): (ومن فعل طاعة لله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي؛ أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه إذ { ليس للإنسان إلا ما سعى } ]النجم:39[ فإن شرع في الطاعة ناويا أن يقع عن ميت لم يقع عنه إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة: والصوم، والحج) انتهى كلامه، ومعروف أن كثيرا من العلماء قالوا بجواز إهداء كثير من الطاعات للأموات وإن لم يرد دليل على ذلك وإنما قياسا على ما ورد!.
صفحه ۱۹
وقال أيضا في (ص197- 199): (أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: { قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة } وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به تنبيها على علو درجته ومرتبته) انتهى كلامه رحمه الله وكثير ممن قلده في تقسيم البدع تجده يخالفه في هذه المسألة! فيقول بجواز الإقسام على الله بغير النبي - صلى الله عليه وسلم - مع العلم أن الراجح عدم جواز ذلك مطلقا (¬1) .
2- الإمام أبو شامة - رحمه الله - أنكر في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" كثيرا من بدع الجنائز مثل قول القائل أثناء حمل الجنازة: استغفروا له غفر الله لكم، كما أنكر أن يكون للجمعة سنة قبلية (ص258- 304)، وأنكر كذلك صلاة الرغائب (ص138- 196)، وأنكر كذلك صلاة ليلة النصف من شعبان (ص134- 138)، ومع كل ذلك قال (ص95) بأن الاحتفال بالمولد النبوي يعتبر بدعة حسنة!!.
3- وأما الإمام النووي - رحمه الله - وهو من القائلين بتقسيم البدع، فقد قال في "المجموع" (8/102): (قال الشيخ أبو محمد الجويني: رأيت الناس إذا فرغوا من السعي؛ صلوا ركعتين على المروة.
قال: وذلك حسن، وزيادة طاعة، ولكن لم يثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
هذا كلام أبي محمد!!
صفحه ۲۰