بنو إسرائيل في ضوء الإسلام
بنو إسرائيل في ضوء الإسلام
ناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
شماره نسخه
السنة السابعة-العدد الثالث-محرم ١٣٩٥ هـ
سال انتشار
يناير ١٩٧٥ م
ژانرها
بنو إسرائيل في ضوء الإسلام
بقلم: الشيخ محمد أمين سليم
المدرس بمعهد إمام الدعوة بالرياض.
قال تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ًثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا
فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ (الإسراء:٤ - ٨)
الحديث عن بني إسرائيل حديث طويل، ويكاد يكون على وتيرة واحدة لا تشعب فيه ولا تعقيد كتعقيد نفوسهم، ويعجب فيه المؤرخ الباحث لتلك السجايا الغريبة التي وسمت اليهود من طبائع الشر والحقد على المجتمعات التي يعيشون فيها، والاستذلال والصغار والمهانة التي لازمت أفرادهم عبر القرون، ويمكن القول إن أبرز الصفات التي انطبعت فيهم الحسد، والأنانية والجبن والتردد وضعف الرأي واللؤم والوقاحة والشح والتعبد للمال وكنزه واتباع الهوى والمكابرة في الباطل.
1 / 70
على أنه لا يفوت الباحث النزيه أن يذكر أن بني إسرائيل برعوا في المهن اليدوية والفنية، كالطب والهندسة والصيدلة وصياغة المجوهرات منذ زمن بعيد، فكانوا هم عصب الحضارة النشيط أيام الفراعنة، ولذا فقد رفض فرعون أن يسمح بهجرتهم من بلاده مع موسى ﵇، لأن هجرتهم ستسبب شلل الحضارة في بلاده. ولست بهذا ألقي القول على عواهنه، فقد ذكر القرآن الكريم أن السامري قد صنع لبني إسرائيل عجلا من الذهب، إذا ضربته الريح صوت، وهذا فن عظيم بلا مراء، والسامري هو أحد أفاد بني إسرائيل.
سأعرض مقدمة تاريخية بين يدي البحث أبين فيها خلاصة تاريخهم المعتمد، وأعرض فيها ما وسعني المقام صورا من أخلاقهم التي ذكرتها آنفا، مستنيرا بما صوره الله لنا عنهم في كتابه القرآن الكريم، ثم أطوي الزمن حتى نقف معهم وقفة نناقش أوضاعهم وأحوالهم في المدينة المنورة بعد بعثة النبي ﷺ وهجرته إليها، وكيف كان موقفهم من الرسول ﷺ موقف العناد والتحدي، وما آل إليه أمرهم من القتل والطرد والإبعاد عن الجزيرة العربية.
يطلق المؤرخون أسماء "العبرانيين واليهود وبني إسرائيل" ويريدون بها طائفة واحدة معينة من الناس وهم: أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، بيد أن اليهود وإن تبجحوا بهذا النسب الكريم لا يستطيعون أن يقيموا الدليل على نقاوة الدم السامي في عروق المعاصرين منهم بعد هذه السنين الطويلة التي مرت عليهم حافلة بالأحداث والفتن والمذابح والتشريد والاضطهاد بسبب طبائعهم الشاذة التي مر ذكرها.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن اسم العبرانيين أطلق عليهم بعد أن عبروا نهر الأردن قادمين من سيناء والعقبة صوب مدينة أريحا، وهو النهر الذي ذكره الله في سورة البقرة ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ آية ٢٤٩.
أما كلمة "اليهود" فقد ذكر الله على لسان موسى ﵇ الدعاء المشهور...
1 / 71
﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أية١٥٦ من الأعراف وما حولها، أي تبنا ورجعنا. وقال تعالى في سورة الجمعة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الجمعة:٦)
فهم على هذا المعنى في أصل التسمية الطائفة التائبة الراجعة إلى الله زمن موسى ﵇، ولعلهم سموا باليهود كذلك نسبة إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب ﵇، ويعقوب ﵇ جدهم جميعا، وكان يسمى "إسرائيل" أيضا كما ورد ذلك في القرآن الكريم.
عند التأمل يجد الباحث أن أبا الأنبياء١ إبراهيم ﵇ الكلداني الأصل، وقد بعثه الله رسولا في قومه عبدة الكواكب والأصنام في العراق، فبعد يأسه من استجابة قومه له يمم وجهه مهاجرا تلقاء الأرض المقدسة "فلسطين"٢ وعاش عيشة البداوة متنقلا بين نابلس والخليل والقدس بقطعان الأبقار والماشية التي كان يمتلكها... (لاحظ حادثة الملائكة الذين زاروه فقدم لهم عجلا حنيذا وهو لا يعرفهم، راجع سورة الذاريات) . وقد أشار الله إلى حياة البادية هذه فقال على لسان يوسف ﵇ بن يعقوب ﵇ في سورة يوسف: ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الَْدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ (يوسف: من الآية١٠٠) .
وتقدمت السنون بإبراهيم ﵇ ولم يرزق البنين، وكان يكثر من الدعاء فوهبه الله إسماعيل ﵇ من زوجه المصرية هاجر، ثم هاجر بهما وإسماعيل رضيع إلى الحجاز بأمر من الله. ثم امتن الله كذلك على زوجه الأولى "سارة" التي آمنت به حين كذبه الناس، فرزقه الله منها إسحاق بعد أن بلغت الثمانين كما قيل، "راجع سورة الذارات وغيرها".
ولإسماعيل ﵇ وأحفاده في بوادي الحجاز قصة طويلة ممتعة تستهوي القارئ ليس هذا صددها
١ قال تعالى عنه: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ (العنكبوت: من الآية٢٧) . وكرر المعنى في سورة الحديد.
٢ قال تعالى عنه: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ (الانبياء:٧١) .
1 / 72
العربية، تتكامل أمجادها ببعثة محمد ﷺ، وهو أحد أحفاد إسماعيل ﵇ رسولا للبشرية جمعاء.
أما إسحاق ﵇ فقد رزقه الله البنين، ويهمنا منهم يعقوب ﵇، وكان يسمى إسرائيل أيضا، وقد أنعم الله على يعقوب باثني عشر ولدا من الذكور، وهم أجداد جميع بني إسرائيل، والذي يطالع قصة يوسف بن إسرائيل ﵉ كما وردت في القرآن الكريم يرى فيها عبرا بليغة ومواعظ جمة.
فإننا نرى عاطفة الحسد تتجسد في قلوب إخوته العشرة، وتكاثفت هذه العاطفة السوداء حتى جمعتهم في مؤتمر جمعوا فيه على قتل أخيهم يوسف لمنزلته في قلب أبيهم، ولم يشذ منهم إلا واحد، ثم ألقوه في غيابة الجب، وادعوا كذبا أن الذئب أكله، ثم يباع يوسف ﵇ عبدا في مصر، وبعد أحداث طويلة يرتقي يوسف إلى أن يعين وزيرا للمالية لدي ملك مصر، ويصيب القحط الأرض المقدسة، ويأتي إخوة يوسف إلى مصر ليمتاروا، وأخيرا يتم التعارف بينهم ويأمر بإحضارهم جميعا ووالده يعقوب معهم مهاجرين إلى مصر.
بهذا ينتهي الفصل الأول من سيرة أجداد بني إسرائيل "أعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب" أولئك الكرام من الأنبياء والرسل الذين عاشوا عيشة البداوة والفطرة والكرامة في شعاب الأرض المقدسة، وتبدأ صفحة جديدة من حياة بني إسرائيل في حضارة مصر ونعيمها وبذخها وترفها.
يختلف المؤرخون في تقدير المدة الزمنية التي انقضت ما بين هجرة إسرائيل ﵇ وجميع آل بيته إلى مصر وما بين خروج بني إسرائيل من مصر بقيادة الرسول الكريم موسى ﵇، وأغلبهم يقدرها بحوالي "٦٠٠" عام، وفي خلال هذه الفترة الطويلة التي مرت على المجتمع المصري، استطاع أن يسيطر فيها بنو إسرائيل على عناصر الحضارة في مصر كما سبق ذكره، ثم رأى الطاغية فرعون أن يستذل بني إسرائيل خوفا منهم لما رأى في منامه ما أزعجه، فقام باحتياطات لم يسبق إليها على ما أظن، فقد أمر بقتل كل ذكر يولد من بني إسرائيل واستحياء الإناث منهم.
1 / 73
طغى فرعون وتجبر، وأذاق بني إسرائيل أصناف الاضطهاد والعذاب، حتى أصبح الصغار والمسكنة والهوان لازمة لهم، وأورثهم الحسد الذي ورثوه من أجدادهم إخوة يوسف لؤما وحقدا على المجتمعات التي يعايشونها، فأصبحت الخيانة والزور والبهتان واستحلال أموال الآخرين من غير بني إسرائيل، فأصبحت مزاياهم اللاصقة بهم، قال الله تعالى حاكيا عنهم: ﴿قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ (آل عمران: من الآية٧٥) . وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن نساء بني إسرائيل استعارت حلي نساء الأقباط قبيل هجرتهم مع موسى ﵇ بأيام، وغادروا مصر وهي معهم، ومنها صنع السامري عجل الذهب الذي عبدوه.
بيد أن الله أراد - ولا راد لقضائه - أن يرسل رسولا منهم لينقذهم من ظلم فرعون وعتوه. وكأنه يبدو من سنن الله أن الذليل لا يكون رسولا ولا نبيا، فقضت حكمته تعالى أن يبعث لهم موسى، وأن يتربى موسى ﵇ في بلاط أعز الناس في مصر حينذاك – بلاط فرعون نفسه، حتى ينشأ عزيز النفس قوي القلب، رابط الجنان، مفتول العضلات، ونحن نستطيع أن نسرح بخيالنا ونتصور كيف كان ينشأ أبناء الملوك في قديم الزمان، وقصة وصول موسى ﵇ وهو طفل رضيع إلى بلاط فرعون في تابوت تدافعه مياه النيل مشهورة معروفة في القرآن الكريم.
نشأ إذن موسى ﵇ نشأة تخالف ما نشأ ﵇ أترابه ومن هم أكبر منه سنا من بني إسرائيل، فنشأ شجاعا لا يعرف الخوف، مفتول الذراعين قوي العضلات، وقد قص الله علينا من قوة عضلاته أنه بطش بالقبطي فقتله بلكمة واحدة. "راجع سورة القصص أوائلها" وسقى أغنام شيخ مدين وحده. وتظهر شجاعة موسى ﵇ كذلك حين فارق صهره شيخ مدين في ليلة باردة مظلمة ومعه أهله، وفي تلك الليلة نال أعظم حظوة في حياته حين كلمه الله وأرسله لإنقاذ قومه بني إسرائيل.
فرسول هذه صفاته هو الذي يمكن أن تنعقد ﵇ الآمال بعد الله لإنقاذ
1 / 74
هذا الشعب المسكين الذليل الخاوي النفس، الذي قاسى الأمرين في حياة العبودية تحت طغيان فرعون وملئه.
ويذهب موسى ﵇ إلى مصر قادما من مدين، ويذهب إلى فرعون ومعه أخوه هارون يحملان رسالة الله إلى فرعون، يطلبان منه أن يسمح بهجرة بني إسرائيل من مصر مع موسى، ولكن فرعون وهو يعلم أن بني إسرائيل هم عصب الحضارة في مملكته، وهم حمير هواه ورغباته رفض طلب موسى، وأخذته العزة بالإثم، ودأب موسى على الدعوة إلى الله، وكذبه فرعون وقومه. وانتصر موسى ﵇ على سحرة فرعون الذين آمنوا به مراغمة لفرعون، فراحوا شهداء بغيه وظلمه. وقال الله إخبار عن جبن بني إسرائيل: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ (يونس: من الآية٨٣) . وابتلى الله قوم فرعون بالمصائب المتنوعة علهم يتوبون ويؤمنون، ولكن بلا جدوى، وأخيرا أذن الله لموسى وقومه بني إسرائيل بالهجرة من دار الظل والذل والكفر والترف إلى الأرض المقدسة "فلسطين".
وخرجوا ليلا وشعر بهم فرعون وجنوده، فأتبعوهم مشرقين عند البحيرات المرة، فضرب موسى البحر بعصاه فاستحال بعضه طريقا ولجه موسى وقومه فنجوا، وغرق فيه فرعون وجنده وبنو إسرائيل ينظرون. وبهذا ينتهي الفصل الثاني من حياة بني إسرائيل في مصر، حياة الحضارة والترف، مقرونة بالذل والهوان، وتفتح صفحة جديدة في تاريخهم ومعهم نبيهم موسى ﵇، وهي مرحلة ما بين خروجهم من مصر وقبل دخولهم الأرض المقدسة.
وهنا تتفاعل عناصر الذل والهوان والعبودية التي مرنت عليها نفوسهم عشرات السنين في أرض الحضارات، وتأبى إلا أن تفرز ذلا وهوانا كما قيل: "وكل إناء بالذي فيه ينضح" فقد مروا في طريقهم يقودهم ﵇ على أقوام يعكفون على أصنام لهم يعبدونها، فقالوا: "يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة". فانظر إلى هذه العقلية التافهة كيف نسيت ربها وخالقها الذي أنعم عليها ونجاها من الذل والهوان.
1 / 75
وقد بقيت فكرة تجسيد الإله ووضع مثال له راسخة في عقول الكثير من بني إسرائيل حتى مع وجود موسى بينهم، قال تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ (البقرة: من الآية٩٣) . ولعل لفرط ما رأوا من عبادة الأقباط لفرعون ولخضوعهم له زمانا طويلا أثرا في ذلك؛ فلما غاب عنهم موسى أربعين ليلة تاركا أخاه هارون بينهم، استطاع السامري أن يصنع لهم عجلا من الذهب يصوت إذا ضربته الريح، وسرعان ما أقنعهم أنه إلههم وإله موسى، فعكفوا على عبادته، فإذا تذكرنا أن العجل كان من بين آلهة المصريين التي يقدسونها تبين لنا إلى أي مدى تفعل البيئة فعلها في الأمم والشعوب.
ويأتيهم موسى ﵇ بكتاب الله التوراة ويرفضونها ويقولون سمعنا وعصينا، ولا عجب في ذلك، فإن النفوس الذليلة التي تعبدت لفرعون والعجل يصعب عليها أن ترفع عنها نير الذل والخور دفعة واحدة وترفع رؤوسها إلى خالق السماوات والأرض لتناجيه في السراء والضراء.
أما جبنهم فإن الآيات القرآنية الآتية تسجله عليهم بأوضح بيان في نقاش معهم: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ (المائدة:٢١،٢٢) إلى أن قال: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة:٢٤) . وفي آخر آية ٢٦حرم الله دخولها عليهم أربعين سنة تاهوا في سيناء، وهيأ الله لهم الغمام يظلهم، والمن والسلوى طعامهم، فسئموها وطلبوا القثاء والفوم والعدس والبصل... فدخلوا العقبة "أيلة" ومات ﵇ في هذه الفترة ولم يدخل فلسطين. وما أصدق قول الشاعر العربي الأبي الحارث بن حلزة البشكري:
لا يقيم العزيز في البلد السهل
ولا ينفع الذليل النجاء
فهذه قصة أرض الميعاد أمرهم الله بدخولها ومعهم نبيهم موسى ﵇ فرفضوا الأوامر ولفظوها وتطاولوا بسوء أدبهم على الله، وسلكوا مسلك الأطفال
1 / 76
المدللين العاجزين. وأما ترددهم وضعف الرأي عندهم، وتفاهة تفكيرهم وسطحيته ووقاحتهم، فيبدو عند كل أمر إلهي أو تشريع سماوي، إذ يقابلونه بالإهمال وعدم الاكتراث وقلة المبالاة، بل يقولون ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ (البقرة: من الآية٩٣) .
حدثت جريمة قتل في عهد موسى وجهل القاتل، فأوحى الله إلى موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة ليضربوا الميت بها فيحييه الله ويفضح قاتله، فاستهان بنو إسرائيل بهذا الأمر، وطفقوا يسألون أسئلة عن البقرة لو صدرت من طفل دون الاحتلام لأتهم بالحماقة وضعف البصيرة والوقاحة وسوء الأدب: ما لون البقرة؟ وما نوعها؟ ما طبيعتها؟ ولولا أن بعضهم قال:
﴿وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: من الآية٧٠) لما اهتدوا إليها ولركبهم شيطان السخف والغرور وقادهم إلى الجحيم.
شاء الله ﷾ وبعد هذا كله أن يخرج من صلب إبراهيم وإسحاق ويعقوب أناسا طيبين، فبعد أن هلك الجيل الذي عاش الذل والهوان أيام فرعون في تيه صحراء سيناء والعقبة، نشأ جيل الصحراء من بني إسرائيل في بيئة الحرية القاسية، فطلبوا من نبي لهم من بعد موت موسى ﵇ في ساعة من ساعات النشاط وصفاء الذهن أن يبعث لهم ملكا للجهاد في سبيل الله؛ فانظر إلى التباين بين بيئة الحضارة التي تخرج نفوسا ذليلة وبيئة الحرية في الصحراء القاسية:
فقال لهم نبيهم والأرجح أنه يوشع بن نون: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ (البقرة: من الآية٢٤٧.
وهنا تبرز العقلية اليهودية الفاشلة، عقلية اتباع الهوى والأنانية والتعبد للمال، وناقشوا نبيهم برفض طالوت لفقره، وأنهم أفضل منه، فبين الله لهم أنه أفضلهم وأعظمهم جسما "البقرة ٢٤٧وما بعدها" ومع ذلك لم يقبلوه ملكا عليهم حتى أيده الله بمعجزة؛ إذ أرجعت الملائكة توراة موسى ﵇ في تابوت، وكانت كما قيل مسروقة.
ويمرون في طريقهم بنهر الأردن وينهاهم ملكهم العالم المجرب لأمور القتال، ينهاهم
1 / 77
أن يسرفوا في شرب الماء، لأن ذلك مدعاة إلى البطنة والكظة والترهل، ثم الفتور والتكاسل، فعصوا أوامر الملك ووقعوا في الماء شربا وعبا إلا قليلا منهم، ووقع ما حذرهم منه ملكهم، وقالوا لا طاقة لنا اليوم بحرب الأعداء "سورة البقرة ٢٤٨-٢٥٠" ولكن الله نصر الفئة القليلة المؤمنة الصابرة منهم، واستطاع داود ﵇ أن يقتل ملك الأعداء ويفتح البلاد، وأتاه الله الملك والنبوة والرسالة.
ويبدأ عهد جديد في تاريخ بني إسرائيل، عهد الملك المشفوع بالنبوة والرسالة، وهو العصر الذهبي لهم، حيث مَنَّ الله عليهم بأنبياء ملوك؛ كداود وسليمان، وأنبياء بلا ملك، وملوك بلا نبوة، وظهر فيهم المخلصون الربانيون الذين جاهدوا في الله حق جهاده مع أنبيائهم السابقين، حتى يكاد يخيل لقارئ قصصهم أنهم فارقوا تلك الصفات السوداء التي سودت صحائف نفوسهم فاستحقوا بذلك الأفضلية في عالم زمانهم؛ قال تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:٤٧) . وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (الدخان:٣٠-٣٢) .
وانتهى عصرهم الذهبي الذي لم يدم أكثر من حكم داود وسليمان ﵉، وتفسخت دولتهم بعدهما وانقسمت إلى دولتين.
وكانت الفترة ما بين سليمان ومبعث المسيح ﵉ فترة مليئة بالعبر والمحن والابتلاء، وقد حقق الله وعيده فيهم حين قال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ (لأعراف: من الآية١٦٧) فقد كذبوا فريقا من الأنبياء وقتلوا فريقا، فسلط الله على الدولة الأولى الأشورييين، فدمروا ملكهم وفتكوا بهم، وسلط الله على الدولة الأخرى بختنصر "نبوخذ نصر" البابلي، فحطم ملكهم وأعمل السيف فيهم، وسبى الألوف منهم إلى بابل، ثم أرجعهم كورش الفارسي وسمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية تابعين له، ثم سلط الله عليهم السلوقيين اليونان، وصار لهم شبه دولة تحت حكمهم، وكانت الفتن والثورات لا تنفك تحدث بينهم تسيل فيها الدماء، ولما دالت دولة اليونان السلوقيين خلفهم الرومان، فاستبدوا في البلاد كلها، وفي أوائل
1 / 78
عهد الرومان ولد المسيح وزكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام، وحكم الرومان فلسطين حوالي سبعة قرون، وكان حكما صارما مستبدا.
عادت غرائز الشر التي انطبعت في اليهود وسكتت إلى حين تحت سلطة الرومان القاهرة – عادت ترفع رأسها من جديد ومضت هذه المرة مضي المهاجم المتحدي لله وشرعه وأنبيائه، فتطاولوا على حرمات الله، فقتلوا الأنبياء وكذبوهم، وابتلاهم الله بالمحن ليتوبوا ويهتدوا فما ازدادوا إلا ضلالا وتمردا وعتوا، وأراد الله أن يعطيهم آخر فرصة للتوبة والرجوع إلى الهدى والحق كما فعلوا أيام موسى ﵇ بعد عبادة العجل، فأرسل إليهم آخر رسل منهم وهم: زكريا ويحيى وعيسى في عصر واحد، فقتلوا زكريا ويحيى، وحاولوا قتل عيسى ﵇ بتأليب الحاكم الروماني عليه وادعاء أنه أفسد الشباب بدينه الجديد، وأنه ساحر، واتهموا أمه بالفاحشة وقد برأها الله، فغضب الله عليهم ولعنهم وسلط عليهم الرومان فدمروا الهيكل، وهو مسجد سليمان ﵇ عام٧٠ للميلاد، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ونزح الباقون منهم إلى الجزيرة العربية ومصر والعراق وأوربا، ثم أخرج النبوة منهم إلى أبناء عمهم بني إسماعيل ﵇، فقد أرسل الله محمدا ﷺ من بني إسماعيل ﵇، فكان آخر رسل الله وأنبيائه إلى الناس، وجعله الله رسولا إلى عامة البشر ومعجزته الخالدة القرآن الكريم، وتكفل الله بحفظه من التغيير والتبديل والتحريف ليبقى صالحا لكل زمان ومكان.
وينتهي بذلك أكبر فصل في حياة بني إسرائيل، لأنه الفصل الذي انتهى بغضب الله عليهم ولعنهم وطردهم من رحمته، أعني أولئك الذين اشتركوا في تكذيب المسيح ومحاولة قتله واتهام أمه. وباع اليهود أنفسهم للشيطان وعملوا معه حلفا موثقا، وأجمع فلاسفتهم ودهاتهم على تحدي الله ومحاربة كل خير في الأرض.
وخلاصة القول أنه بموت داود وسليمان ﵉ تنتهي زعامة بني إسرائيل السياسية والدينية والعسكرية، ويصبح الشعب اليهودي أعزل كغيره من الشعوب البائسة يقطن الأرض المقدسة، يشاركه فيها غيره من الشعوب السامية والعربية المجاورة، تحكمهم جميعا سلطة وثنية قاهرة فوقهم بدأت بالأشوريين،
1 / 79
ثم البابليين، ثم دولة الفرس الأولى، ثم اليونان السلوقيين أحفاد قواد الاسكندر المقدوني، ثم الرومان الذين سلطهم الله على بني إسرائيل بعد إفسادهم الآنف الذكر، ويشردونهم من فلسطين، ثم يأتي العرب المسلمون ويفتحون البلاد كلها باسم الإسلام، فيهزمون الروم ويقيمون شرع الله منذ القرن الأول الهجري إلى نهاية الخلافة العثمانية المسلمة عام ١٣٣٧هـ الموافق ١٩١٨م، ومع ذلك يشهد التاريخ أن المسلمين عطفوا على اليهود وآووهم وأنصفوهم في الشام وإفريقيا والأندلس، وكان بيت المال يساعد العجزة والمقعدين منهم، وأوصى النبي المسلمين بهم خيرا ما داموا أهل ذمة؛ فأين فرية حق اليهود في فلسطين؟.
إن اليونان حكموا فلسطين حوالي ثلاثة قرون.
والرومان حكموا فلسطين حوالي سبعة قرون.
والصليبيين حكموا فلسطين أثناء ضعف المسلمين حوالي قرنين.
واليهود حكموا فلسطين حوالي دون قرنين من الزمان ثم شردوا منها.
والعرب ثم المسلمون حكموا فلسطين واستوطنوها أكثر من ٢٠ قرنا.
ولم نسمع أن أحدا من أحفاد هؤلاء الأقوام يطالب بالرجوع إلى فلسطين بحجة أن أجدادهم قد سكنوها وحكموها في الماضي. ولو اتبع عقلاء العالم منطق اليهود وحججهم لزم أن تعود أسبانيا إلى العرب المسلمين وقد حكموها ثمانية قرون، وأن يعود سكان الأمريكتين وأستراليا إلى أوروبا، وأن تحتل إيطاليا بريطانيا؛ لأن الرومان قد حكموا بريطانيا عدة قرون.
نزح كثير من اليهود بعد أن خرب الرومان هيكلهم عام ٧٠م إلى المدينة المنورة وخيبر، واختاروا الحجاز بالذات موطنا لعلمهم أن آخر رسل الله سيبعث منها كما نصت التوراة، فلعل الله يخرجه منهم ويتوب عليهم، واشتغلوا بالتجارة، وآثروا على عادتهم في سلوك طرق المكر والتحايل والربا الفاحش، وصار لهم قوة، وحالفوا الأوس والخزرج سكان المدينة المنورة.
ويبعث الله محمد القرشي ﷺ من بني إسماعيل رسولا
1 / 80
إلى البشرية، وهاديا لها ليخرجها من الظلمات إلى النور، وكان اليهود يبشرون به العرب قبل أن يولد ويستفتحون به عليهم، وتبدأ صفحة جديدة في حياة بني إسرائيل، ويأكل الحسد قلوبهم لخروج النبوة منهم.
ذكر ابن هشام في السيرة قال:
حدث عبد الله بن أبي بكر قال: "حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، ولم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين. قالت: فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس. قالت: فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله. قال: تعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك؟ قال: عداوته والله ما بقيت".
وصفية المذكورة هي زوج رسول الله ﷺ، وأبوها حيي المذكور كان من كبار زعماء اليهود، وبقي يعادي رسول الله ويحرض ضد المسلمين حتى قتل صبرا يوم الأحزاب "الخندق".
إسلام عبد الله بن سلام:
قال ابن إسحاق: "وكان من حديث عبد الله بن سلام كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حبرا عالما "من علماء اليهود" قال: "لما سمعت برسول الله ﷺ عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له "أي نترقب" فكنت مسرا لذلك صامتا عليه، حتى قدم رسول الله ﷺ المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله ﷺ كبرت، فقالت لي عمتي حين
1 / 81
سمعت تكبيري: "خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت". قال: فقلت لها: "أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به". قال: فقالت: "أي ابن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ " قال: فقلت لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجت إلى رسول الله ﷺ فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا. قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله ﷺ فقلت له: "يا رسول الله إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيبني عنهم "أي تسترني" ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا إسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني". قال: فأدخلني رسول الله ﷺ في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم" قالوا: "سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا". قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: "يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه"؛ فقالوا: كذبت، ثم وقعوا بي، فقلت لرسول الله ﷺ: "ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟ " قال: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحسن إسلامها، وكذلك أسلم مخيريق وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال، ودعا قومه للإسلام فأبوا، فلحق برسول الله ﷺ يوم أحد وقتل شهيدا، وأوصى بأمواله لرسول الله ﷺ، وكان رسول الله ﷺ يقول: "مخيريق خير يهود".
هذه الروايات تصور نفسية بني إسرائيل بأجلى بيان وأوضح تبيان على أن رسول الله ﷺ حين وصوله المدينة مهاجرا أراد أن يبدأ اليهود بالخير والمسالمة والتآلف واللين، فعقد معهم معاهدة صلح ليأمن شرهم ويغريهم بالدين الجديد، ولكن أنى لحلفاء الشيطان أن يعيشوا عيشة الكرامة والمسالمة، إذ ما لبث شيطان الحسد أن ثار في نفوسهم وهاج هيجانا عظيما بعد موقعة بدر، فخان بنو
1 / 82
قينقاع، ونقضوا العهد، فطردوا من المدينة ونزحوا إلى خيبر، ثم تأسى بهم بنو النضير في الخيانة، وحاولوا قتل الرسول ﷺ بإلقاء صخرة عظيمة عليه من أعلى السور، فأعلمه الله بخيانتهم وحاصرهم المسلمون وطردوهم، وفيهم نزلت سورة الحشر.
أما بنو قريظة فكانت خيانتهم أعظم وأشد وقعا على نفوس المسلمين، ذلك أنها حدث في أحرج الأوقات على المسلمين، وجيوش قريش ومشركي العرب تحاصر المدينة من وراء الخندق بقيادة أبي سفيان. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وانتهت خيانة بني قريظة بذبح كل قادر على حمل السلاح وكل محتلم.
بعد أن عقد اليهود العزم على معارضة رسول الله ﷺ والكفر به وتحديه وصرف الناس عن دينه بكل وسيلة، سلكوا في ذلك مسالك شتى:
أولا: وسيلة الكذب؛ فقد سأل مسلموا المدينة اليهود لِمَ لَمْ يؤمنوا برسول الله ﷺ وقد كانوا يبشرون به قبل مبعثه ويستفتحون به عليهم؟ فكان جوابهم كذبا وزورا أنه ليس النبي الذي يعرفون. وقد كذبهم في ذلك أحبار اليهود الذين آمنوا برسول الله ﷺ. قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران:٧١)
ثانيا: في مؤتمر يهودي خبيث اتفق شياطينهم أن يؤمن بعض اليهود برسول الله ﷺ أول النهار ويرتدوا عن دينه آخر النهار، وإذا سئلوا عن ذلك قالوا: "قد اتضح لنا أنه ليس النبي المبعوث آخر الرسل الذي نجد صفته عندنا في التوراة، وقد فضحهم الله في هذا"، وكذلك علماؤهم الذين آمنوا برسول الله، قال الله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (آل عمران:٧٢)
الخ.
ثالثا: سألت قريش زعماء اليهود عن دين محمد وأيهم أهدى سبيلا وأحب إلى الله، أملة قريش وهم يطعمون الطعام ويكرمون الجار ويغيثون الصريخ؛ أم ملة
1 / 83
محمد ﷺ؟ فقالت يهود: "بل ملة قريش أهدى وأولى بالاتباع من ملة محمد"، وهم كاذبون في ذلك ويعلمون أنهم كاذبون. قال لله تعالى يدمغهم في ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾
(النساء ٥١-٥٢) .
رابعا: الاستهزاء بالرسول ﷺ وتعاليمه:
لما نزل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ (الحديد:١١)
قالت اليهود: "إن الله فقير ومحتاج إلى أموالنا"، فنزل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (آل عمران:١٨١) .
وقالوا كذلك: "إن الله لما فرغ من الخلق يوم الجمعة استراح على العرش يوم السبت من الإعياء"؛ فأنزل الله قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ (سورة ق ٣٨-٣٩) .
وكانوا يقولون "راعنا" وهي كلمة استهزاء، ولعلها من الرعونة، فنهى الله المسلمين عن قولها، وكانوا يسلمون على الرسول ﷺ قائلين: "السام عليك" أي الموت استهزاء وحقدا؛ فنزل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (المجادلة:٨) . ومن استهزائهم قولهم يد الله مغلولة، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان﴾ (المائدة: من الآية٦٤) .
خامسا: إعداد الألغاز والأسئلة المعقدة وعرضها على رسول الله ليعجزوه ويشغلوه بها عن الدعوة ويحرجوه أمام المؤمنين في ظنهم:
فقد سألوه عن الروح وعن ذي القرنين وأهل الكهف.
1 / 84
سادسا: حاولوا قتله مرارا وآخرها يوم دست له السم إحدى نساء اليهود في ذراع الشاة المطبوخة، فمضغ مضغة ثم لفظها لتغير طعمها في فيه، أو لأن الله أخبره.
سابعا: وأخيرا حملوا السلاح في وجهه وخانوا عهدهم معه كما فعل بنو قريظة وسكان خيبر، ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم ثم طردوا من الجزيرة.
والعقد النفسية التي سيطرت على عقليات اليهود عبر الأجيال أنهم "شعب الله المختار" وأنهم "أبناء الله وأحباؤه" وأنه "لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا": ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَة﴾ (البقرة: من الآية٨٠) "عدد أيام عبادتهم العجل" على أن بعض هذه العقد يرجع إلى أصل صحيح، فالله سبحانه قد فضل بني إسرائيل على عالم زمانهم حين كانوا يعملون بشريعته ويتحاكمون إليها أيام يوسف ﵇، وموسى وداود وسليمان ﵈ وغيرهم من الأنبياء والرسل. ولكنهم نسوا أو تناسوا أن هذه الأفضلية جاءتهم من تحكيمهم كتاب الله وطاعتهم لأنبيائهم، فلما تمردوا على أوامر الله وقتلوا أنبياءه واستهزءوا بشريعته انفصمت عنهم هذه الأفضلية، وسقطت بالبداهة، ثم غضب الله عليهم ولعنهم. بيد أن شياطينهم وطواغيتهم موهوا على شعوبهم الحقائق وزيفوها، وأوحوا إليهم أنهم لا يزالون شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه ولا يمكن أن يتخلى الله عن إسرائيل ولا عن أبنائه، ولا يزالون يجترون هذه الأوهام في نفوسهم حتى يجيئهم عذاب الاستئصال. وقد وصف الرسول ﷺ عذاب استئصالهم في صحيح البخاري قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم ها هو يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد...الخ".
وقد اتبعت الآلاف المؤلفة من جماهير المسلمين في العصور الأخيرة سنن اليهود في هذه الفكرة، وصرنا نسمع بالمسلم الشيوعي والبعثي والقومي والاشتراكي وغيرهم، وكلهم يقول بلسان القرآن: "نحن خير أمة أخرجت للناس" أو بقول الرسول ﷺ: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" وهم لا يعلمون شيئا عن حقائق الدين وأصوله إلا أماني، فقد استدبروا الثقافة الإسلامية المشرفة، واستقبلوا ثقافات الأمم الأخرى الملحدة الماجنة، فجهلوا الأمور المخرجة من الملة وإن صلى
1 / 85
الواحد وصام وزعم أنه مسلم. ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف:١٠٣،١٠٤)
وقال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف:١٠٦)
يتعرض القرآن الكريم إلى نقاش وجدال طويل هادئ مع اليهود، ويبين أخطاءهم الفكرية، ويفضح عنادهم ومكرهم ودخائل نفوسهم وتصديهم لمعارضة الدعوة، ويعتب عليهم أن لم يستجيبوا للدعوة مع أنها مصدقة لما معهم من التوراة، قال تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِه﴾ (البقرة: من الآية٤١) لعلهم يرجعون ويهودون، وهو يسلك سبيل الترغيب والترهيب، ويذكرهم بنعم الله السابقة عليهم وبجرائم أجدادهم ومكرهم وعقاب الله لهم كما فعل بأهل السبت، إذ مسخهم قردة وخنازير.
ولو ذهبت أعدد الآيات التي وردت في بني إسرائيل في القرآن الكريم لطال الأمر كثيرا، ولخرج البحث من مقال موجزا إلى بحث مستفيض يستوعب الصفحات الكثيرة الطويلة، ولكن أذكر على سبيل المثال أن الآيات من رقم " ٤٠- ١٣٣" من سورة البقرة كلها في بني إسرائيل بدون استثناء، ٨صفحات كاملة ثم يعود الحديث إليهم متقطعا حسب المناسبات، بحيث يشمل الحديث عنهم ما يقارب ثلث سورة البقرة، ولا تكاد تخلو سورة طويلة من الإشارة إليهم وإلى أنبيائهم.
بقيت شبهة يثيرها الشيطان على ألسنة المتحذلقين ممن يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة:
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:٦٢) .
فهل يكون اليهودي الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا، ولا يؤمن بمحمد ﷺ هل يكون ناجيا من عذاب الله يوم القيامة، وممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما تنص الآية السابقة؟
1 / 86
﴾ (النساء ١٥٠-١٥١) .
في دعاء موسى لله ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف ١٥٦-١٥٧) .
وقد ختم الآية باسم الإشارة البعيد لتضخيم شأنهم، ثم أتبعه بضمير الفصل ليدل على تأكيد الخبر واختصاصهم بالفلاح والنجاة من النار، وأن غير أولئك الذين سبقت صفاتهم لا يفلح ولا ينجو من النار.
فمن لم يؤمن بجميع رسل الله، أولهم نوح وآخرهم محمد ﷺ يكون كافرا مخلدا في النار كما تنص آيات النساء والأعراف الآنفة الذكر.
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر﴾ (البقرة: من الآية٦٢) الخ أي آمن بالله الإيمان الكامل الذي بينه الله في الآيات السابقة؛ فآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعهم بدون استثناء.
ولعلها تعني أيضا من آمن منهم بالله واهتدى على أيدي رسلهم الذين جاءوهم
1 / 87
في أزمانهم الماضية قبل مجيء محمد ﷺ، وقبل حصول التحريف في كتبهم والله أعلم.
وبعد يا معشر المسلمين!
لقد حذرنا رسول الله ﷺ من تقليد اليهود والنصارى واتباع سننهم والركون إليهم، وخوفنا عاقبة ذلك؛ ومما قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" وقد ورد هذا الخبر مورد الذم والنهي والتقبيح، فكأن الرسول ﷺ يقول لنا: "يا معشر المسلمين هذا تاريخ بني إسرائيل أمامكم، وهذه عقوبات الله عليهم تتوالى إلى يوم القيامة، وقد كانوا يوما ما أفضل العالمين، فلا تكونوا مثلهم فيعاقبكم كما عاقبهم، ولا تقولوا إن الله قال عنا: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية١١٠) فليست الأفضلية ملكا ثابتا يتوارثه الأحفاد عن الأجداد كما يزعم اليهود أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وإن الأفضلية توحيد الله وطاعته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشهادة الحق القيام بالدعوة، وبالاختصار تطبيق شرع الله كاملا.
والواقع المؤلم يشهد أن المسلمين استدبروا كتاب الله وسنة رسوله إلا القليل منهم، واتبعوا السبل التي سنها وخططها لهم شياطين اليهود وطواغيتهم فاستحقوا هذه العقوبات المتوالية عليهم في أكثر أرجاء العالم، ولن يغير الله عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وتغيير ما بالنفوس لا يكون إلا باقتلاع جذور مفاهيم مغلوطة عن الذين وزرع بدلها جذور الفطرة الإسلامية الصافية التي أشرقت على الرعيل الأول وفتحوا العالم بها. تغيير ما بالنفوس أن ننتقل من مرحلة سرد المعلومات الدينية الصحيحة واختزانها في الذاكرة واستظهارها على اللسان إلى مرحلة تطبيقها على أنفسنا وأطفالنا، وبذا نخالف اليهود الذين قال الله فيهم: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:٤٤)
وقد وعظ الواعظون وذكر المذكرون بهذا طويلا، فهل آن أن نذَّكَّر؟.
والآن ماذا يبغي بنو إسرائيل من هذه العاصفة التي حشدوا لها كل طاقاتهم وآثروا على قلب العالم العربي، ومن ورائه العالم الإسلامي؟.
ويبدو لمن يذهب بعيدا ويتوغل وراء أخبار السياسة والاجتماع أن دعاة
1 / 88
النصارى في أوروبا وأمريكا أحسوا بأخطبوط الصهيونية اليهودية، وأفعى الماسونية العالمية قد استشرى شرها في مجتمعاتهم تنفث سموم الإباحية والإلحاد، مع سيطرتها الرهيبة على معظم موارد الاقتصاد ورأس المال، حتى أضحت أوروبا وأمريكا أسرى لأثرياء اليهود القليلين، فضاقوا ذرعا بهم، وأيقنوا بفناء مجتمعاتهم على أيديهم إن عاجلا أو آجلا.
كما رأوا في نفس الوقت النهضة الإسلامية المباركة يتراقص شعاعها الضعيف في الآفاق، فخشوا أن يستحيل هذا الشعاع الضعيف إلى إشراقة يعم نورها العالم ثم يحرق وهجها أباطيلهم.
لهذا خطط دعاة النصارى أن يصطادوا العصفورين برمية واحدة، إذ يتخلصون من شرور اليهودية والصهيونية والماسونية، وينقذون مجتمعاتهم منها، وفي ذات الوقت يقضون على نهضة العالم الإسلامي المباركة التي تلوح أشعتها في الأفق البعيد، لذا فقد عطفوا على الجريمة اليهودية، وتهافتوا على تشجيع الحركة الصهيونية، فأغدقوا عليها الأموال والسلاح ووجهوها ضد العالم العربي الذي هو قلب العالم الإسلامي، ولكن الله لهم بالمرصاد، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ (لأنفال: من الآية٣٦) الخ.
ولْيَصْحُ قادة العالم الإسلامي قبل فوات الأوان، وليعلموا كيف المسير وأين المصير، وليكن أبرز شعار ينصبونه ماثلا أمام أعينهم قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ (لأنفال:٦٠)
1 / 89