بلاغة الغرب: أحسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره
بلاغة الغرب: أحسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره
ژانرها
مقدمة المعرب
فيكتور هوجو1
ألفونس دو لا مارتين1
ألفريد دوموسيه1
أندريه شينييه1
الكونت ألفريد دوفيني1
فرنسوا كوبيه1
إيدمون روستان1
ألفونس دوديه1
تييوفيل جوتييه1
صفحه نامشخص
بيير كورنيي1
جان راسين1
مقدمة المعرب
فيكتور هوجو1
ألفونس دو لا مارتين1
ألفريد دوموسيه1
أندريه شينييه1
الكونت ألفريد دوفيني1
فرنسوا كوبيه1
إيدمون روستان1
صفحه نامشخص
ألفونس دوديه1
تييوفيل جوتييه1
بيير كورنيي1
جان راسين1
بلاغة الغرب
بلاغة الغرب
أحسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره
تعريب
محمد كامل حجاج
مقدمة المعرب
صفحه نامشخص
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن أنشأ الإنسان، وميزه بفضيلتي النطق والبيان؛ ليترجم عما يوحيه إليه الشعور الشريف والوجدان، وصلاة وسلاما على نبراس العلم والعرفان، من خص بالحكمة وفصل الخطاب، وأوتي من جوامع الكلم ما سحر الألباب؛ حتى ساد قومه مجدا وفخرا، وإن من البيان لسحرا.
وبعد، فهذه نخب أقتطفها من معجز بلاغة الغرب؛ لنرى - معشر العرب - ما أحرزه الغربيون من قصبات السبق في مضمار التحرير والإنشاء، وما لهم من سلامة الذوق وحسن التعبير في الوصف والإعراب عن الشعور والعواطف بما يحس به الوجدان دون كلفة.
يقع شعرهم ونثرهم على الآذان كنغمات الموسيقى بما يشجي السامع من: رقة الوصف، وسلاسة التركيب، وأوانس الألفاظ، وغرر البيان، وبعد الكلام عما تعقد من المعاني، وخلوه من الخياليات المتشعبة والتنقل فيها بما يذهب بالسامع كل مذهب، فيركب متن الشطط، ويصعب عليه الفهم؛ فلذلك يعقله الفكر لأول وهلة دون إمعان وإجهاد قريحة.
وقد سلكت في تعريب هذه المقتطفات مسلك الأمين حرصا على المعاني لإبرازها بمشرب الكاتب؛ لنعرف أسلوبه وروحه في الإنشاء، وصغتها في قالب عربي سهل العبارة قريب التناول؛ لأزف إلى الناطقين بالضاد عرائس نظم الغرب ونثره رافلة في الحلل العربية، وعساني أكون أديت بعض الواجب الاجتماعي، وخدمت الناشئة بعمل نموذج لهم للترجمة والإنشاء؛ ليجمعوا بين الأصل والتعريب، ويعلموا كيف يسيرون فيه ويصوغون المعاني في القالب العربي اللائق بها والذوق السليم الملائم لها. وإن ساعدني الحظ وصادف عملي نجاحا وإقبالا من معشر قراء العربية، شمرت عن ساعد الجد، واستمررت في عملي هذا ناشرا أجزاء تباعا كلما سنحت الفرص وسمحت أويقات الفراغ والسلام.
فيكتور هوجو1
كان القرن التاسع عشر طفلا في حوله الثاني حينما تمخضت الأيام بمولود «بيزانسون»، وهو ابن الكونت «سيجيسبير هوجو» من مشاهير القواد والكتاب الحربيين، ثم طوحت به في كل شرق وغرب كحبة تذروها الرياح حيث تشاء.
نشأ من دم بريطاني ولوريني؛ فأصبح هذا الصبي واسطة عقد شعراء القرن الماضي، بل إمام شعراء الغرب على الإطلاق.
2
ولما ولد في عام 1802 كان القريض الفرنسي منحطا تغلب عليه الضعف؛ حتى كاد يودي به، وقد مضى وقتئذ على قتل «أندريه شينييه
صفحه نامشخص
André Chenier » الشاعر النابغة ثماني سنين، فلم يبق من خيرة الأدباء إلا «شاتوبرييان
Chateaubriand »، فإنه أتى بنثر رقيق متين تزينه روح الشعر.
وإذا استثنينا بعض الكتاب مثل: «أندريو
Andrieux »، و«كولين دارلوفيل
Colin d’Aarleville » اللذين مهرا في الروايات التمثيلية من نوع «الكوميدي»، والشعر البسيط المألوف؛ فإن الباقي من الأدباء لا يصلحون إلا لنظم الروايات المحزنة «التراجيدي»، التي كان يضرب الكل فيها على نغمة واحدة، والملاحم
3
الساذجة والأدوار المنظومة وغيرها مما تجرد جميعها من سحر البيان وغرر الإبداع، فكان نصيبها من القصاص أن طرحت في زوايا النسيان.
وكان من بين الأدباء في هذا العصر من يحسن الوزن، وتأتيه القوافي طوعا، ولكن نظمه خال من روح القريض ك «ديليل
Délille ». ويقال: إنه كان يفتخر في أواخر أيامه بأنه نظم في الإبل اثنتي عشرة قصيدة، وأربعا في الكلاب، وثلاثا في الخيل، وستا في النمور، واثنتين في القطط، وواحدة لكل من الشطرنج والنرد والضامة والبليار، وعددا عظيما في الشتاء والصيف والربيع وغروب الشمس والفجر؛ حتى ضل في عددها، ولما ظهر الجزء الأول من ديوان فيكتور هوجو المسمى «أود وبلاد
Odes et Ballades »
صفحه نامشخص
4
الذي بدأ به وهو في السادسة عشرة من عمره سنة 1818 سنة 1828، كان بردا قشيبا للبلاغة بعدما بلي ثوبها، وبدرا تما في سماء البيان غاب لظهوره كل نجم، ولم يكد يبلغ العشرين حتى أدهش الناس بحميته وحماسته وقوة خياله وغزارة مادته وطلاوة إنشائه وانتظام وزنه وسلاسة تركيبه.
وقد قويت وعظمت هذه الصفات في الأجزاء التالية من ديوانه، وفيها: «الشرقيات» سنة 1829، و«أوراق الخريف» سنة 1831، و«أناشيد الشفق» سنة 1835، و«أصوات الضمير» سنة 1837، «والأشعة والظلم» سنة 1840.
وكما أنه مهد للشعر سبلا جديدة، وحل أصفاده
5
التي رسف فيها حينا من الدهر، فإنه أتى بمعجزات المنثور وعنوان البيان وآية البراعة في كتابه «نوتردام دو باري
Notre-Dame de Paris » سنة 1831، الذي جمع فأوعى من شتات اللغة، فكان له القدح المعلى
6
في دولة النثير كالنظيم.
نظر إلى فن التمثيل، وقد هوى إلى الدرك الأسفل من الحطة والعوز، فصال عليه واستطال؛ حتى هذبه ورفع شأنه وبعثه بعثا جديدا.
صفحه نامشخص
ومن مشاهير رواياته التمثيلية التي سارت بذكرها الركبان، وسحبت على غيرها ذيل النسيان، ولم تفارق للآن أعظم المراسح ما وضعها شعرا مثل: «إيرناني»، و«ماريون دولورم» سنة 1830، و«الملك في لهوه» سنة 1832، و«روي بلاس» سنة 1838، و«ليبورجراف» سنة 1843 وغيرها، وما كتبه نثرا مثل «لوكريس بورجيا» و«ماري تودور» سنة 1833، و«أنجيلو» سنة 1835 وغيرها، وقد كتبها بنظم محكم السبك ونثر متين الحبك.
وقد انتخب في المجمع العلمي الفرنسي سنة 1841، ومنح رتبة «بيردو فرانس» سنة 1845، ثم خاض غمار السياسة إلى أن صار رئيسا لحزب الشمال الديمقراطي وخطيبه الأعظم، ثم حارب ضد لويس بونابرت، فحملته يد الاستبداد سنة 1851 إلى بروكسيل، حيث نفته هناك، ثم انتقل إلى جيرسيي، ومنها إلى جيرنزيي - وهما جزيرتان إنكليزيتان في بحر المانش - ولبث في منفاه ثماني عشرة سنة، ولم يرجع إلى وطنه إلا في سنة 1870، حيث بر بقسمه بأن لا يطأ أرضه ما قامت لعرش الملك قائمة.
ولقد أسعده النفي بنفحات مدهشات البيان، فراق له جو الخيال، وأوحت إليه الموجودة ببدائع البدائه وأحاسن المحاسن؛ فزف إلى القراء من بنات أفكار النظم والنثر ما خلب العقول وسحر الألباب، فنظم كتابه الذي وسمه ب «نابليون الصغير»، وكتاب «العقوبات» سنة 1853؛ فكان كأفعى تنفث سما زعافا فاغرة فاها نحو نابليون الثالث، ولم يجر يراع كاتب في الحقد والضغن بمثل ما أتى به قلمه في هذا الكتاب، ثم وضع كتاب «المشاهدات» سنة 1856، و«سير القرون» سنة 1859، وهو من أبلغ ما خطه بنان الشاعر. حشر فيها سير القرون الخوالي من أغلب الأمم؛ مما يدل على سعة اطلاعه في التاريخ، وأظهر فيها رقي الأمم من طور إلى طور، وتدرجهم في الكمال، ثم كتاب «البؤساء» سنة 1862، وهو نثر وخير ما كتب في درس الإنسانية والحياة الاجتماعية، مما تذوب له القلوب حنانا ورحمة وتذرف لهول بؤسه العيون الجامدة دما، وما لم يستطع كاتب أن يأتي بمثاله أو ينسج على منواله، و«عملة البحر» سنة 1866، و«الرجل الضاحك» سنة 1869، و«ثلاث وتسعون» وغيرها.
ولما آب إلى وطنه بعد سقوط المملكة وضع كتاب «العام الأسود» سنة 1872، ثم الحلقة الثانية من «سير القرون» سنة 1877، والحلقة الثالثة منها في سنة 1883، و«تاريخ جناية»، وقد ذكر فيه حوادث الهيئة الاستبدادية وغيرها من كتب: تاريخية، وفلسفية، وقصصية، ورسائل، وأفكار، وخواطر. وصار من رؤساء الحزب الجمهوري، وكان يطربهم بخطبه الشائقة في العدل والإنسانية والتقدم الأدبي والاجتماعي إلى أن توفي بباريس سنة 1885، وهو في الثالثة والثمانين من عمره، ومشى في جنازته ألوف مؤلفة؛ مما دل على عظم مكانته في قلوب قومه وتمجيدهم له.
نابليون الثاني
Napoléon II
7
سنة 1811: عام وما أدراك ما العام؟! ماجت فيه أمم لا يدركها الحصر، وقد أضجرهم الانتظار وفني منهم الصبر. يظلهم غمام مكفهر. مبتهلين إلى الله أن يستجيب دعوتهم وينيلهم أمنيتهم.
وكانوا يشعرون أن هذا الملك الواسع الأكناف المترامي الأطراف، يمتد تحت أرجلهم رعبا، ويرتعد خشية ورهبا، محدقين بأبصارهم إلى قصر اللوفر، وقد زمجر فوقه الرعد حتى كاد يدكه كطور سيناء، مطرقين كجواد بصر بصاحبه يقول بعضهم لبعض: ستتمخض الأيام بمولود ذي شأن ينتظره هذا الملك العظيم ليليه ويأخذ بزمامه.
ليت شعري! ما الذي أعده الجد لهذا الرجل الذي يفوق قيصر ورومية؟ ومن سيضيف حظوظ البشر إلى حظه فيسعدون بسعده ويشقون بشقائه؟!
صفحه نامشخص
وبينما هم يتحدثون إذ انقشع الغيم المربد،
8
وأشرقت السماء رافلة في حلتها اللازوردية. يتلألأ في كبدها بدر هذا المولود الذي اختاره القادر؛ ليقبض على صولجان هذا الملك الفخم، فما كان لهذا الشعب الصاخب
9
إلا أن صمت واستكان لظهور هذا المولود في عالم الوجود.
نفخت ريح هذا الرضيع في قبة دار العجزة،
10
فخفقت فيها الأعلام المسجونة، واهتزت كالسنابل حركتها الرياح، وكان صياحه الرخيم هو الذي أطلق من المدافع المتربعة ببابه أصواتها المزعجة.
نفخت الكبرياء بعرنين والده الأشم،
11
صفحه نامشخص
وكان مطبقا بذراعيه على صدره ثم فتحهما، تحوط يده ابنه الذي تنبعث من عينيه أنوار أضاءت ما حوله، وارتد عنها كل طرف كليلا. •••
ولما عرض الأب وارث عرشه على رءوس الأشهاد من أمم تابعة وملوك خاضعة، هاجت به شجونه
12
ونظر شزرا وازدراء لمن حوله من الملوك؛ إذ لم ير غير ابنه كفؤا لهذه المملكة الشاسعة، كنسر حط من عل
13
فوق قلة
14
صائحا مستبشرا بصوت ملؤه الكبرياء والعظمة: المستقبل لي وحدي وطوع بناني! كلا ثم كلا، فالمستقبل ليس لأحد بل لله الواحد القهار، ولا تمر ساعة إلا وتودعنا الكائنات. المستقبل سر مكنون، والأرض وما عليها من مجد وسعادة وقوة وتيجان ونصر متنازع لطمع أشعبي حقيق، وهذه المنح كلها عواري
15
كطير حط على دورنا فما هو إلا لمحة ويطير.
صفحه نامشخص
مهما بلغ المرء من الحول والقوة، ومهما ضحك وقهقه، أو بكى وأعول لا يستطيع أن يطلع على الضمائر والسرائر، ولا أن يقضي على أحد قبل أجله وساعته. •••
أيها الخيال الأخرس والطيف الملثم! يا من هو أتبع لنا من ظلنا! يا من يدعونك الغد.
إنما الغد حارت فيه الأفهام، وضلت في مفاوزه الظنون والأحلام. يبذر الإنسان السبب، فينضجه القادر غدا؛ فيستحيل من عالم الذر إلى عالم الظهور والقوة. غدا برق محتجب، ونجم مستتر في السحب، وخائن يزيح اللثام، ومنجنيق يدك الحصون والمعاقل، وكوكب ينتقل من منطقته وباريس تتبع بابل. غدا تنوب
16
العرش واليوم مخمله، غدا جواد يخوض المعامع مرغيا مزبدا. غدا - أيها الفاتح - تلتهب موسكو في الليل الحالك كالمصباح في يد المدلج. غدا تغطي جثث حرسك القديم السهول والبطاح. غدا واترلو. غدا القديسة هيلانة. غدا الرمس!
إنك لتستطيع أن تطأ المدن بسنابك خيل فرسانك، وتحل مشكلات الحروب بصمصامك، وتسد نهر التاميز والنصر حليفك بحولك وقوتك ، وتحطم الأبواب المغلقة بسطوتك وقدرتك، ثملا بنشوة الظفر، يرنح عطفيك صوت نفيرك، ساحبا ذيل النسيان على كل صيت طائر.
أمد الله في أيامك ! إنك لقادر أن لا تترك من الأرض ذراعا، وأن تنزع أوروبا من شارلمان، وآسيا من آل سام، ولكن هيهات أن يخضع لك الغد إلى الأبد. •••
يا للنائبات الواعظات! لما أخذ شبل هذا الأسد تاج رومية بدل اللعب حتى ذاع شأنه، ولما أظهره أبوه للملأ وجبينه الملوكي يهتز، دهشوا لعظمة هذا الصغير وهيبته.
وقد ظفر والده لأجله بوقائع عديدة وفتوحات عظيمة، فجلس بجانب سرير طفله مبتسما بادي البشر، وقد كان كبان يعرف كيف يؤسس بناءه؛ إذ أجهز على الدنيا بضربة معول فأقبلت خاضعة طائعة حسب أمانيه.
ولما أتم الوالد ما أعده ليمهر الطفل الحقير بالعظمة الدائمة. هيأ له قصرا وطيد الأساس متين الدعائم؛ ليحفظ حياة ابنه من العوادي والغوائل.
صفحه نامشخص
ولما ظمئ النسر وجد أمام فرنسا كأسا مفعمة
17
بخندريس
18
الأمل، وقبل أن يدني هذا السم المموه من شفتيه ويذوقه انقض فارس من القوزاق على الطفل انقضاض العقاب على الظبي، وأردفه خلفه على الجواد، وفر كالسهم قذفته القوس.
وفي ذات ليلة كان المضرحي
19
صافا
20
في القبة الزرقاء إذ اكتنفته ريح صرصر عاتية كسرت جناحيه، فهوى إلى الغبراء هوي الصواعق، وانقضت عليه الذئاب الضارية عند وكنه تتقاسمه وتنهشه بأنياب حداد، فكان من نصيب إنكلترا القشعم
صفحه نامشخص
21
والنمسا الهيثم.
22
لم يغب عنك ما فعل بهذا العظيم الهائل، فقد زج به في أعماق السجون ست سنين وراء أفريقية والبحار.
النفي ممقوت كافر! كان هذا البطل العظيم متربعا في قفصه، منحنيا تلعب أسنانه بركبتيه، ولو كان قلب هذا الطريد خلوا لكان أنعم بالا، ولكن قلوب الآباء لهي قلوب الآساد؛ إذ كان ابنه آخذا بشغاف قلبه، ولم تبق له الدنيا إلا ذخيرتين في عرينه: صورة ابنه وخريطة الدنيا، وبعبارة أخرى مرمى فكره ولبه وجميع قلبه.
وفي المساء كان يسرح الطرف في مخدعه؛ إذ كانت تدور في رأسه الصلعاء أعماله وفتوحاته الماضية، وكان السجانون والديادبة له بالمرصاد ليل نهار ليقرءوا ما يرتسم على جبهته من الفكر والآمال.
ما كان يفكر ساعتئذ في ملحمة كتبها بظبة حسامه؛ إذ يصف أركول وأوسترلنز ومونميراي.
23
لا ولا الأهرام وباشا القاهرة وصافناته الجياد التي عضضن صدور خيله. لا ولا الجلل والمدافع التي لبثت تحت قدميه عشرين سنة وأذكت الوغى بقتامها وسحبها السود، ولما هبت ريحها على هذا اليم الهائج كانت الأعلام الخافقة مائلة في الملحمة الشعواء.
لا ولا مجريط
صفحه نامشخص
24
أو قصر الكرملين
25
أو الفنار، لا ولا موسيقاه تعزف في الصباح لإيقاظ الجند. لا ولا جنوده المعسكرة في السهول من خيل ورجل بملابسهم الحمراء كزهور أرجوانية نابتة في حقل من الحنطة.
بل كان شغله الشاغل عسجد شعر طفله الجميل، وورد خدوده وهو نائم مطمئن بفم يكاد ينطبق وهو كالشرق في بهائه وحسنه، وقد انحنت عليه مرضعة متهللة تلقمه ثديها ضاحكة.
رزح الوالد تحت أثقال همومه وشجونه، وقد تيمه حب ابنه، فأسند بمرفقيه إلى كرسيه، وهاجت بقلبه تأوهات مستعرة؛ فتفجر الدمع من آماقه واسترسل على خدوده.
بوركت
26
من طفل مسكين أثلجت شعوب رأسه، وإنك وحدك القادر على تسلية أبيه وعزائه لملك ضاع وأفلت من بين يديه. •••
أناخ الدهر بكلكله على النسر وفرخه فألحقهما بخبر كان، فيا له من زمان قاس ابتدأ بقهار الجبابرة، وغلاب القياصرة! ثم ختمه بعظام رفات نخرة، وقد كفت عشر سنين لنسج أكفان الأسد وشبله.
صفحه نامشخص
احتوى اللحد مجدا وصبا وكبرياء، والمرء يود لو يترك له الموت خلفا، ولكنه لا يسمع له نداء، وكل عنصر يرجع لأصله: فالهواء يأخذ الدخان، والأرض الرماد، والنسيان الاسم. •••
يا للهياج والاضطراب الذي أجهله، وأنا أحقر الملاحين إذ لا أدرك كنه ما يعمله القادر في الغياهب تحت اللجج
27
الهائجة الحاقدة عليك الهازئة بك. وأسرار الخالق غامضة يضل فيها النهى. ليت شعري أهذه الأمواج الثائرة، وأصوات هذه الحفر المرة المزمجرة، وهذا التيار الدوار بمخالبه الهائلة، والبرق ولألاؤه، والرعد وقصفه ودويه، أليست اللهم صالحة لدرر البحار؟!
وهذه الأنواء والعواصف المخوفة لترتعد أمامها الخلائق من أمير وحقير. يا لليم من أعمى أصم أضل من شعب ثائر هائج، وماذا ينفعك نشيدك يا شاعري وأغانيك التي يمليها عليك الخيال ويرددها الصدى في هذه اللجج الحائرة المضطربة، وقد صمت آذانها؛ فلا تسمع لك نداء ولا غناء، ويذهب صوتك صرخة في واد.
وأنت أيها الطير المسكين الذي تتقاسم ريشك الرياح، وأنت تغني فوق زبد ذلك الجبار العتيد على سارية جارية
28
ضلت سبيل النجاة! ليل طويل. وعذاب مستمر، وسماء مكفهرة لا يرى بها ركن رائق، وقد اختلطت الأشياء بالناس اختلاط الحابل بالنابل،
29
وهووا في مهاوي الفناء، وابتلعهم الخضم الغشمشم فكانوا من المغرقين.
صفحه نامشخص
كل من عليها من ملوك وأمراء ونابليون العظيم والصغير طوتهم الأرض في جوفها طي السجل للكتب، ومحتهم كما تمحو اللجة اللجة، و
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
الغريق
Le Naufragé
واأسفا للمرء المسكين تلعب به الكائنات والعوالم لعب الشمأل بالشجر، ثم تفترسه كالسنور يلاعب الفأرة ريثما تنبه منه شهوة الطعام، ثم يمزقها كل ممزق بأنياب حداد وأظافر كالأسنة. تصعقه الزرقاء
30
وتبتلعه الغبراء
31
ضعيف تعس منكود، ولد محاطا بنحس يثقل كاهله، ويحني عاتقه، يسترشد عقله فيضله ويغره، وإن أبرق له الإلهام ببعض أشعة ضئيلة ليهتدي بها في حنادس ضلاله، أدركها القضاء الغامض فطفق يجالدها وتجالده حتى تنطفئ وتنعدم.
أنعم النظر في البحر، واعطف على رابية من الصفا ناتئة من الماء فوقها كوخ حقير لصائدي الأسماك. عرشه من بقايا السفن التي حطمتها الأمواج الثائرة، يحيط به الماء إحاطة السوار بالمعصم، وتضمه اللجج ضما عنيفا كالأفعوان
صفحه نامشخص
32
يلتوي على فريسته ببأس حتى يكاد يهشم منها الأضلاع، تود لو تزعزع الصخر من مكانه لتفترس الصائد.
انكمش هذا البائس الضعيف في كوخه، فاصطلحت عليه الأنواء والأعاصير؛ فلم يستطع أن يبرح مكانه ليكدح لرزقه. عظم واتسع أمامه المحيط لينصب له شراكه. اكفهرت السحب فخاف منها كل نسر قشعم، واسود من الفضاء الإهاب، ثم أومض البرق، وقصف الرعد، وصفرت العواصف، وهاجت الأمواج، وطفقت تحطم في جدار هذا المنكود، وما وراء هذا الفضاء وعظمته والليل وظلمته إلا الحتف المميت .
ماذا تفكر أيها الشقي البائس لتنجو من مطاردة هذه العوالم الحاقدة عليك وأنت عدوها الألد؟ أتتخذ لك نفقا في الأرض أم سلما في السماء؟! أتراك تستطيع الصعود وقد حالت دونه العواصف والأنواء، وأنى لك وأنت ترتعد مكانك من هول المنظر؟! وإني لا أخالك إلا مقبورا ضليلا طريدا. ليت شعري كيف تنازل هذه القوى العظيمة التي ما لها من نفاد وأنت أسير حفرتك؟!
حسبك دفاعا مع العظمة التي أقبرتك في كوخك، وأهاجت عليك السماء وما حوت والأرض وما وعت حتى اغبر وجه الكون عليك أسفا، وأظلمت الدنيا حدادا؛ فاخضع أيها الغريق للقضاء واستسلم لهذا اليم الجبار العتيد.
وهذه الشمأل
33
العاتية التي أوشكت أن تقوض أركان مأوالك، وهذا الوابل الذي كاد يجرف ذراك.
34
وتلك الغياهب التي تهلع لها القلوب تبذل الوسع لمحوك وفنائك، وهذا الليل المقبل بالويل الذي ترتعد منه رعبا سيصب فوق رأسك الأعاصير الهوج
صفحه نامشخص
35
مع الظلمات؛ فاجمع أعضاءك والتصق بالأرض، وطأطئ رأسك لما يهب فوقها من العلا دون أن تسأل السماء المعتمة عن السبب، ودع الهلاك يسيل فوق أعضائك التي تثلجت من الهول؛ إذ لا قوة لك ولا حول.
إن للرمال للينا خائنا كلين النساء
يشاهد في بعض المواطن من شواطئ بريطانيا الفرنسية واسكتلندا أن المسافر أو الصائد يأخذ طريقه في مستنقع بعيد عن الشاطئ، لا يكاد يظهر ماؤه على الصعيد
36
فيلاحظ بغتة أنه منذ هنيهة يحس بثقل قدميه، وأن العراء
37
تحتهما كالفار
38
تلتصق به نعلاه، بيد أنه لم يصادف بللا في طريقه ينذره بما يضمر له من السوء هذا الرمل الناعم الذي يفوق في الفتك خضراء الدمن،
صفحه نامشخص
39
وكلما خطا خطوة غارت قدمه قليلا وتركت أثرا لا يلبث أن يمتلئ ماء.
نبع هذا الماء لينذره بسوء المنقلب، ولكن أسبل القضاء على عينيه سترا فلم يبصره. أمامه الشاطئ الرحب سهل ساكن لا يفرق بين صلبه ورخوه، فأخذ يواصل سيره ليبلغ الشاطئ، كاد يعتريه القلق، ولأي أمر يقلق؟ غاية ما هنالك أنه أخذ يشعر أن قدميه تزدادان ثقلا كلما خطا خطوة، وعلى حين غفلة يجدهما غائرتين في الرمل أصبعين أو ثلاثة.
أوشك أن يشعر الآن بضلاله؛ فألقى عصا الترحال ليبحث عن الطريق الأمين، ثم نظر فجأة إلى قدميه فوجدهما غائصتين في الرمل. نزعهما راجعا القهقرى، ولكنهما غابتا ثانية إلى الكعبين. تخلص وارتمى يسرة فأخذه الرمل إلى نصف ساقه. انتشلهما وانطرح يمنة، فغاص إلى ركبتيه. تحقق الآن من ضلاله فسقط في يده، وكاد يقطع سبابته من شدة الندم. عرف أن قد غره السراب، وتقطعت به الأسباب، فوقع في حبالة هذا الوسط الهائل الذي لا تثبت عليه الأقدام، بل لا تستطيع أن تسبح فيه الأسماك.
يحار الكاتب في تسميته، ليس ببر ولا ببحر، أخذ يفكر في سبيل للنجاة، فرأى أن يطرح حقيبته كالسفين، أخذها الموج من كل مكان، فقذف الركب عرض البحر ما تحمله من كل مرتخص وغال لينجوا بأنفسهم. جعل يعالج النجاة وقد أعيته الحيل، فابتلعه الرمل إلى ركبتيه. طفق يصيح مستغيثا مشيرا بمنديله، ولكن الرمل مستمر في اختطافه. فإن كان الشاطئ مقفرا، والديار بعيدة، وعدم النصير؛ فقد حم القضاء، وذهب صرخة في واد فريسة لهذا القبر السحيق، مستمرا في هويه البطيء في جوف الأرض، التي لم تمهله وابتلعته واقفا حرا في عنفوان صبوته وشرخ شبابه، كلما عالج وقاوم واشتد في صياحه وصراخه أسرعت الأرض في ابتلاعه.
بخل الثرى بالتعجيل بالتقامه ليترك له من الوقت ما يكفيه لوداع هذا العالم ليزداد حسرة على حسرة ومصابا فوق مصاب. أخذ يسرح الطرف، فرأى أمامه الأفق والأشجار والرياض الزاهرة ودخان القرى يتصاعد كالسحب وشرع السفن الماخرة في عباب البحر والطير الصادح والشمس المشرقة والسماء اللازوردية. •••
وهذه الرمال لهي القبر خرج من بطن الثرى على شكل مستنقع خفي ليختطف الأحياء الأصحاء.
يحاول هذا التعس الوقوف والقعود والاستلقاء بغير طائل. بل كل حركة يفعلها تزيد في غرسه، فيزأر كالأسود وينهب الأرض بذراعيه من اليأس، حتى إذا التقمه الرمل إلى صدره رفع ذراعيه وزاد زئيره. ينشب أظافره في الرمل، ويتكئ على مرفقيه لينسل من هذه الهاوية، ولا يزال الرمل حتى يصل إلى كتفيه ثم إلى عنقه، فلا يرى منه إلا الرأس، لم يبق منه إلا فم يصيح ويستغيث، ولكن حنق عليه الرمل فألجمه وسده؛ فلا تسمع له همسا ولا لمسا. بقيت عيناه تتوسلان بذرف العبرات، ولكن سئم منهما الرمل فأقفلهما، وصار يتخبط في ليل أليل، بقي منه شعر يلعب به الهواء، ثم خرجت من الرمل يده، واختلج بعض خلجات فاضت بعدها روحه فكان من الهالكين، وإن هي إلا هنيهة التأم فيها الرمل، وعاد كما كان سويا، وطوت الأرض في جوفها بائسا كأنه لم يك شيئا.
طرفة من الموسيقي
Un Peu de Musique
صفحه نامشخص
أرعني سمعك، وانظر هذا الغاب، وأصخ
40
لتغريد الطيور في أوكارها المحجوبة عن الأبصار، وهذه الجلبة تقترب منا، من ضحك، وأصوات، ووقع أقدام منبعثة من أعماق هذه الأدغال السحيقة، وقد رمى البدر لألاءه الفضي على سوادها، وفيها يسمع رخيم نغمات مزاهر جبال «انسبروك»، التي تمتاز بجلجل مقبضها التي ترن فيه حبة من الرمل، فيختلط هناك صوت الإنسان بهذه النغمات مما يحدث أشبه بلحن مبهم.
هيا إن أردت أن نتيه في عالم الأحلام، فنركب جوادين من حسان الخيل المطهمة، وإنك لتجذبين إليك قلبي إذ أريد أن أنتشلك من بين أسرتك.
نحن سائران يطربنا شجي شدو العنادل
41
في هذا الغاب إذ أنا سيدك وفريستك، فلنسافر فقد اقترب النهار من الرحيل، وسيكون جوادي الفرح وجوادك الحب، وسيسيران جنبا لجنب ورأسا لرأس، وسنطعمهما في رحلتنا هذه الشائقة قبلا بدل الشعير، وإنهما يترافسان إذ يضرب فرسي برجله في أحلامي، ومهرك يرفس في كبد السماء، ونحن في سفرتنا هذه في حاجة لرحل يتركب من دعواتنا وسعادتنا وبؤسنا والزهرة التي في شعرك الجميل.
خيم الظلام واسودت أشجار البلوط، وقد ضحك منا الشحرور ساخرا من وسواس
42
السلاسل التي ربطت بها قلبي، وليس الذنب ذنبي إن لم تهمس إلينا الأدغال
صفحه نامشخص
43
والأطواد، ونحن سائران متكاتفين قائلة: فلنحب.
كوني لينة حنونة. فما أبهج الغاب المبلل وقد نجيت
44
أغصانه على أجمل شكل!
أرى الفراش يتبع أنفاسك الشذية، وطيور الليل الحواسد يفتحن عيونها المستديرة وقد أكمدها الحزن والحور،
45
وقد أملن آنيتهن مبتسمات في المغاور متسائلات: «هل أصبنا في عقولنا؟» فهذان «لياندر
46
وهيرو» إذ انسكب ما حملناه من الماء ، ونحن منصتات لحديثهما الشجي.
صفحه نامشخص