بلاغت عصری و زبان عربی
البلاغة العصرية واللغة العربية
ژانرها
أليس من المستطاع أن نختار نحو ألف كلمة من اللغة العربية تمتاز بالوضوح والدقة والألفة، فنؤلف بها كتبا للصبيان في المدارس الإلزامية والابتدائية في الجغرافية والتاريخ والحيوان والنبات ومبادئ العلوم، بحيث يدخل الصبي في هذه الميادين فيمرح فيها ويطلب المزيد، وبذلك نبعث فيه الاستطلاع والتشوف ونغنيه عن الدمع الغزير والعرق الوفير؟ بل أليس من المستطاع أن تكتب بعض المجلات والجرائد بما نسميه «العربية الأساسية» لأفراد الشعب الذين لا يعرفون من لغتنا غير ألف أو ألفي كلمة؟
الفصل السادس والعشرون
التفسير الاقتصادي للغة والأدب العربيين
كثير مما سنقول في هذا الفصل قد مر بالقارئ متفرقا، ولكنا سنجمعه هنا لإبراز المعاني في ترسيم هذا الكتاب وإيضاح غايته، فالتفسير الاقتصادي هو الذي يعلل جميع الظواهر الاجتماعية في الأمة بالنظام الاقتصادي الذي يعيش أفرادها وفق مبادئه واجتماعهم يتغير بتغيره أو يركد بركوده، واللغة والأدب كلاهما ظاهرة اجتماعية لا تختلف عن الأخلاق والعقائد.
ففي أمة صناعية مثل: بريطانيا أو الولايات المتحدة؛ نجد اللغة عصرية والأدب مستقبليا والتفكير علميا، وفي أمة زراعية مثل مصر نجد اللغة والأدب تليديين والتفكير عقديا أو سنيا.
ولننظر النظرة التحليلية في ضوء «التفسير الاقتصادي للتاريخ» للغة والأدب العربيين. (1)
المجتمع العربي الذي ورثنا منه أدبنا ولغتنا الكتابية كان مجتمعا إقطاعيا زراعيا؛ أي كان يعيش أفراده بامتلاك الأرض، وكان في أقله الذي لا يؤبه به تجاريا صناعيا؛ أي أن 90 في المائة من العرب في مصر والعراق وسوريا وأقطار أفريقيا الشمالية كانوا يعيشون بالزراعة، ومن شأن الزراعة الجمود، فنحن نزرع القمح الآن كما كان يزرع قبل ألف أو ألفي سنة؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى تغيير العقائد أو الأخلاق أو الكلمات الزراعية، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو إلى تغيير الأدب في مثل هذا الوسط، بل إن كل محاولة للتغيير كانت تجحد؛ لأنها كانت تناقض الاستقرار الزراعي؛ أي: تناقض العيش.
استقرار في النظام الاقتصادي؛ أدى إلى استقرار «جمود» في النظام اللغوي والأدبي، فقواعد الزراعة التي جرى عليها المجتمع منذ ألف سنة يقابلها قواعد اللغة وأسلوب الأدب منذ ألف سنة والكلاسية؛ أي التليدية التي نعانيها في مصر الآن ليست لهذا السبب مفتعلة بل هي طبيعية؛ لأننا ما زلنا نعيش في الوسط الزراعي إلى حد كبير. (2)
هذا المجتمع العربي أيضا كان مجتمعا دينيا؛ فكان الخليفة في بغداد بمثابة البابا في رومة، ومن غير المعقول أن نطالب أي دين إلهي في العالم بالتغيير، فاستقرار الدين أدى إلى استقرار اللغة؛ أي جمودها، وأصبح رئيس الدولة؛ أي الخليفة يحمي الدين ويحمي الكلاسية؛ أي التليدية في اللغة والعرش ينزع إلى الماضي؛ لأن حقوقه تعود إليه، فهو محافظ وأحيانا جامد؛ أي أن للعرش أصولا اقتصادية سلفية؛ تؤدي إلى مبادئ لغوية وأدبية كلاسية تليدية.
وأذكر هنا «فولتير» يشمئز من ذكر الفأر على المسرح؛ لأنه كان يعيش في ظل العرش الفرنسي بلا دستور وبلا ديمقراطية. وأذكر هنا أيضا لغة الكهنة في المعابد؛ فإن تغيير الكلمة هنا يعادل الكفر.
صفحه نامشخص