فستبقى دائما ضيفا يهيم
في ظلام الأرض كالطيف الحزين. - أأموت لأحيا؟ أولم يشبعني زمني موتا؟ - كل ما يهوى الوجود، سوف يهوي في العدم. عش يا ولدي. - كيف أعيش؟ - في اللحظة. في أيام شبابي جربت اليأس. أوشك أن يوردني حتف النفس، لم أتردد، أمسكت القلم لأخلص من قبضته. - ما أكثر ما سود قلمي! بحر مدادي لم يغسل ألمي، ما قربني شبرا من نفسي. - اكتب ما يمليه عليك الحس، وكن نفسك يا ولدي. - أفعل هذا جهدي. - الفعل، الفعل. ها أنت نطقت بنفسك. في البدء الأول كان الفعل. هذا ما كنت أقول وأعمل. والخالد يعمل في كل مكان، ينشط في كل زمان، لا يتخلى عن مغزله أبدا. فلماذا لا تفعل مثله؟ الخالق فعال، كن مثله، والخالق يبدع، فلماذا لا تبدع مثله؟ خلق الإنسان ليخلق، ولهذا استخلفه الله على الأرض؛ لينطق يبدع يخلق. - سأحاول، لكن ... - لا تترك لحظة! عش في اللحظة، فالإنسان فقير لا يملك إلا اللحظة، فليحرث هذا الحقل بنفسه، وليزرعه ويجرب حظه، هذا ما يفرضه الوعي، وتفرضه اليقظة. - لكن اللحظة تعبر، تفنى كالقطرة في بحر الزمن وتهدر. - املأها بالعمل المثمر تغدو القطرة لؤلؤة، والحبة جوهرة، والأبد سيطبع خاتمه فوق الزمن المدبر. أتقول بأن اللحظة تهرب منك، سوف تعود شقيقتها تتوسل لك: املأ كأسي، لا تتردد، جدد خمري تتجدد، فالنشوة منك إليك. - النشوة، والخمرة والكأس. - بهذا تعرف سر النفس! - ما أطيبك وأحكمك! فهات الكأس.
أقبل السيد الكبير علي، وأخذ يفك الحبال المربوطة حول القدمين والساقين. أحسست أنفاسه الدافئة ترف على وجهي كأجنحة النسيم.
ثبت بصري في عينيه السوداوين، شمسان هما أم أفق يسع الكون؟ وأنا أشعر بين يديه شعور الابن حيال الأب، يختلج الإعجاب بصدري والرهبة والحب.
تحمس الصبي، فأخذ يساعده في فك قيودي، ولمست يده جرحي فنادى: انظر يا سيد، جرح وبقايا دم. مال السيد علي ومد يده القصيرة المكتنزة، فلمس الجرح. ابتسم، وقال: لا بأس عليك ولا ضير، أنا أيضا عشت وفي جنبي جرح مر، جرح الشعراء قديم لا يندمل مع العمر، ينفتح إذا كتب القلم ويبتسم كثغر نضر، فاغمس قلمك في هذا الحبر، كي يحيا الشعر، كي يحيا الشعر.
هل تحتمل النملة أن يمدحها الأسد أو النمر؟ قلت وفي عيني الحسرة وخدودي تحمر: يا مولاي لقد هرب الشعر، وانحسر الموج عن الصخر، صار عجوزا أعمى في زمن الغدر، يجلد بسياط الذل وأكل العيش وطلب الستر، داس على جثته أقزام العصر. انظر يا مولاي لهذا النسر.
أدار وجهه ناحية الصخرة المقابلة. كان النسر لا يزال منكفئا على نفسه ورأسه مدفون بين جناحيه، أحس بعيني النسر البشري، فارتجفت عيناه قليلا، واضطرب جسمه الجاثم كالليل أو الهم. ابتسم السيد، وقال: أعرف هذا النسر. يعرفه المبدع أنى كان على اليابسة أو البحر، فتت كبد بروميثيوس، ولن ينجو منه إنسان حر، ينتشل اليأس من هاوية اليأس، فيصبح كالريح العاصف، كالموج الهادر في البحر، من صدرك يخرج هذا النسر، القلق الجامح والألم الجارح، والفرح الطافح والبشر، لا تخش النسر، لا تخش النسر.
قلت: وهؤلاء.
سأل في رفق: من؟
أشرت إليهم، كانوا ما يزالون في مكانهم، قابعين أمام الصخرة كأطلال جدار عتيق ينظرون إلينا صامتين.
صفحه نامشخص