تنفرج أسارير الطبيب قليلا. يأخذ نفسا عميقا يكشف الغمة التي أطبقت عليه، وكادت تنسيه أن يتنفس. يراقب جهاز القلب ويحصي الأرقام، ويبتلع الغصة، فتغيب كحجر في الدوامة. يلتفت لزميله الذي يقف عند طرف الفراش كحارس ليل صامت ويهز رأسه. يتطلعان لوجهك ويرقبان النفس الذي يصارع التيار ويطفو على السطح. تلوح بارقة أمل خفي.
تفتح عينيك وتنظر حولك، ثم تغمضهما. وتتمتم شفتاك بصوت لا يسمعه غيرك: إلي إلي. - ها أنا ذا بين يديك. - الأميرة؟
تدخل كالنور الساطع. يتهلل وجهك وتضيء بعينك ومضة أمل دامع. سيدتي! سيدة الجرح الباسم كالفجر الطالع. ترقص شفتك وهي تتابع خطوات الحلم الرائع: «شمس في السمت. فيض عبير يسري فتبل ندواته جدران الغرفة.» مولاتي.
تهمس شفتاها: مولاي الشاعر! - «يتضوأ نحرك. حقل ليالك مرشوش بالنور. ويزغرد شعرك. خمر تنسكب على صفحة بلور». - شكرا. هل تذكرني؟ - «إن أنس فلا أنسى ثوبك؛ صفحة فضة، تتمرغ فيها شمس الصيف. إن أنس فلا أنسى جيدك؛ كومة ماس يتكسر فيها النور ويلتم.» - «ليلكة الظل أنا. عابدة الظلام». تكمل نغما تترقرق منها: «الزهرة التي تخاصم السنا وتعشق القتام.» ما زلت كعهدك والوجه حزين. ما زلت كعهدك تنتظرين؟ - لا أنتظر سواك. هل ينسى العابد معبوده؟ - من أنا حتى تنتظريه؟ - من أبدعني وبراني. هل أنسى من سواني، من عدم نسج كياني؟ يا خالق سري وبياني، قم لتراني. - خالقك كسير عاني، ملقى كالعدم الفاني. - ترخي جفنيك كأنك مهموم. في وجهك تتمدد غيمة ضيق مكتوم. هل أبطأ وحيك؟ - بل أبطأ نبض القلب وضاع يقيني. أترين شحوبي وغضوني؟ أسمعت أنيني؟ - ولهذا أشفقت عليك. خفت خطاه تسبقني ويجيء إليك. - من تعنين؟ - من قتل الزهرة ورماها في الظل سنين، من ألفاها في جوف التنين، من خيب أملي، كذب علي ومرت كذبته فوق مدينتنا كالإعصار المجنون. أنسيت سمندل؟ - أنساه؟ عشت حياتي أمقته وأعري وجهه. - لن تنفعه أقنعته. سأعينك. - لا شيء يعين، لا أحد يعين، عاجزة أنت كشاعرك المسكين . لن يخدعني الليلة، سأواجه ظلمه. - سبقتك خطاه ومد على صدري ظله. عشت سنين العمر، وعيني تتحدى عينه. أتسمع وقع خطاه كعابر ليل يسمع خطوات القتلة، لا أتذوق كأسا حتى ألمح فيها نصله. وكما يتوقع عار في طرقات الليل الصدئة، أن يدهمه المطر الهاطل فجأة، أتوقع منه أن يأتي الليلة، كالدائن يطلب دينه. - لن تتركك وحيدا. وقرندل لن يتأخر. ها هو ذا.
تجري نحو رجل يخطو في ضوء الغرفة كخيال بطل مهزوم. رجل رث الهيئة ونحيل، عليه تراب الفقر والسفر، في فمه المتحدي أغنية لا زالت تتشكل. تسرع نحوه هاتفة: ها هو شاهد مأساتي.
تمسح نظراتك وجهه الذابل وعينيه الصامتتين، وتمر على القيثارة المتدلية من كتفه وتبتسم: وأنا من يشهد مأساتي؟ - سيخلصنا منه قرندل ثق من قولي. فالشاعر يخفي الخنجر في سترته، وسيغرزه في صدره. تتحسس صدرك وتقول: أم في صدري؟
يقترب قرندل منك يلمس سريرك كما تلمس أم مهد وليدها. في عينيه الصامتتين حنان نبي يعرف قدره. غضب المنتقم يصمم أن يأخذ ثأره. يمر بأصابعه على القيثارة فترن خفقات لحن شجي، وترفرف في جو الغرفة. رفع عينيه كأنه يتابع سرب طيور مفردة، ثم يخفضهما لتلتقيا بعينيك: الكلمة أيضا يمكن أن تقتل.
تدير عينيك الغاضبتين تجاه الحائط، وتعض على شفتيك. يأتيك صوته: أغنيتي أقوى منه، لحني من خنجره أرهف. تعرف خبرا مني، سر الكلمة أمضى من حد السيف. تتردد أصداء غضبك، وتصطدم بالجدران، ينتفض جسدك، وتهتز رأسك وتتمتم: كذبة! قتلتني كذبة!
تنفجر حمم الكلمات في صدره، وتسيل صارخة من فمه: لن نسمح أن تتجدد تلك الكذبة. لن نترك تلك الحية تسحر ألباب الناس وتصبح قبة. طعنت قلب مدينتنا ذات مساء كذبة. فاسترخت مثقلة بالجرح. والليلة ... - الليلة صرعتني الكذبة، هل أجدتني الكلمات؟! هل أنقذني اللحن؟! - الليلة قد تهوي أنهارا وتلالا ومنازل لو ولدت في مساحتها أخرى. - تهوي فوقي وأنا أهوي. لن يجديني يا شاعر لحنك فارجع. - دعني ألقي ظلي في عينيه. وأغني من أغنيتي آخر مقطع. - انغرز النصل بقلبي. لن تدفعه أغنيتك عني.
تتحسس صدرك وتئن. يضطرب الطبيب ويمد ذراعه إلى زميله.
صفحه نامشخص