96
على ما يحتمل. ولم تهب قبيلة تسالية الصغيرة، أو الأغارقة الذين لم يكد أوميرس يذكرهم، اسما لكل جمال فقط، بل نشأ الشعر عن الأسطورة أيضا، ونشأ التاريخ عن الشعر أيضا. والحق أن الأسماء والخيالات والصور والأساطير، التي كان الشعراء يوحدون بها جميع القبائل اليونانية، أدت إلى اتحاد جميع الأغارقة، ولولا أوميرس ما وفق الأغارقة لقهر الفرس بعد حين.
وترى الأمر القائل إن الأغارقة غدوا أعظم الملاحين مدينا لفن كذبهم من بعض الوجوه؛ أي لعبقريتهم الشعرية. وقد جسم أوليس وشعراء الأرغنوت
97
فرحين مآثرهم فحولوها إلى أكاذيب عجيبة كان سامعوهم يدركون حقيقتها إدراكا تاما. وقد بلغوا من حب المجد ما كان الحضور يلتهبون معه راغبين في مغامرات جديدة محاولين سبق هؤلاء الأبطال؛ وذلك لاختلاط الأبطال بالمغنين في نهاية الأمر. ومما حدث أن أحد رجال السياسة كان شاعرا وجنديا معا فاتهم بجناية فأخذ ينشد روايته الجديدة لأسطورة قديمة ففتن القضاة وحكموا ببراءته، وما كان يتصف به من روح المبالغة أثبت به عبقريته لدى القضاة وإن لاح أنه يناقض صدق شهادته. حتى إن حفدة أبطال الأغارقة الأباعد كانوا يودون أن يطمئنوا إلى أن الشادي
98
قام بما يجب من تحية أجدادهم حينما كان ينشد «دليل السفن» الذي هو أكثر آثار أوميرس نمطية.
ذلك ما كان عليه سلطان الشعراء في بلاد اليونان. وما كانت سيطرة الأغارقة في البحر المتوسط لتقوم على الطغاة وعلى رؤساء جمهورياتهم الصغيرة، وإنما كانت تشتق من أوميرس وإزيود وهيرودوتس وتوسيديد وأفلاطون وإشيل وفيدياس، وفي التاريخ هذا هو المثل الوحيد الذي أدت الروح والفن فيه إلى إيجاد سلطة عالمية، وقد جعلت حماسية الأبطال من بعض الكسالى والقراصين، الذين كانوا يدعون بأنهم ملوك، مثلا لأشد الرجال والنساء طموحا إلى المجد لدى الأجيال القادمة. وتكتسب الآلهة، التي لم يلبث الأغارقة أن خلصوها من رءوسها الحيوانية الكريهة فأعطوها وجوها بشرية للمرة الأولى بفضل خيالهم، أشكالا بدت ثانية في تصاوير ميكل أنجلو الجدارية حول إلهه الوحيد الأب.
وما كان نيل ذلك ليمكن إلا بفضل البحر؛ وذلك لأن البحر وجزره وفرضه وسواحله أشياء تعرض على حيال الأغارقة العملي ما يحتاجون إليه من مسافة وفرصة لقياسها، وما في بلدهم من غابات كثيرة منذ أدوار ما قبل التاريخ حفزهم إلى إنشاء حيازيم ابتدائية، ثم نجم عن رشاقة أيديهم صنعهم للمرة الأولى سفينة خفيفة متحركة تقابل بسفن النيل الثقيلة كما تقابل التماثيل الإغريقية بالتماثيل المصرية، وقد ظل ذلك المركب في جميع القرون القديمة على البحر المتوسط ذا مقدم وطئ ومؤخر عال ويسار مرتفع وطرفين ناهضين ورأس بارز إلى الأمام ونصف جسر يستطيع الربان أن ينظر منه إلى الخارج، وقد جلست أتينة مع تلماك على الجسر الخلفي الذي لا يزال جزءا جوهريا في المركب حتى اليوم. ثم أدى استعمال الحديد إلى بناء سفن طويلة بالتدريج، وهنالك صار من الضروري أن يكون الربان في مركز السفينة حتى تسمع أوامره من مقدم السفينة إلى مؤخرها. وكانت المجاديف في كل مكان تقوم مقام عمل الريح التي تنفخ الأشرعة. ولم يكن القسم المركزي ذا سطح تام، فاستطاع أوليس أن يجر رفقاءه وأن يدفعهم تحت المقاعد، وكان ينتفع من الجانبين بسكان السفينة المعلق على الجانب بالقرب من الجسر، وكان في العصر الأوميري يوجد في السفينة خمسون جذافا على الأكثر.
وبعد أوليس وغيره من المغامرين الذين كان يسرهم أن يطوفوا في البحر، جاء التجار والمستعمرون الذين توجهوا إلى كل جهة كما صنع الإسبان والإنكليز بعد زمن طويل، ويظهر أنهم وصلوا باكرا؛ أي قبل الميلاد بسبعة قرون، إلى صقلية ونابل من الغرب، وبحر مرمرة والبحر الأسود من الشمال، حيث كان الأرغنوت قد سبقوهم. وفي سرت وجدوا المصريين الذين انتخب أحد أمرائهم ملكا مستعينا بملاحين من الأغارقة، وقد منح هؤلاء الملاحين نقراطيس الواقعة على الفرع الغربي من النيل، وهكذا كان القراصين أول من وصل بين الأمتين اللتين هما أهم أمم ذلك الزمن فوضعوا جسرا ثقافيا ثمينا بينهما.
صفحه نامشخص