ولا تدرك مهزأة مسائل العروق، التي تؤدي إلى جعل الخيل قوما من السادة وجعل الحمير قوما من العبيد، إلا من قبل من يقدر على تقدير قوة الحمار الأبيض ونشاطه وجماله ثم قياسه بفرس الحقل الهزيل. وفي كل مكان تجد نماذج عادية، وفي كل مكان تجد نماذج رائعة، ولا يثبت الجواد العربي، الذي هو أجمل حيوانات العالم، أفضلية جنس الخيل بأحسن مما صنع غوتة في إثبات أفضلية عرق الجرمان.
وصارت الضأن والمعز، كصغار الحمير وأنصاف الخيل، أكثر قوة، بفعل غذاء البحر المتوسط وإقليمه، من البهائم الكبيرة التي نقصت تربيتها. ومنذ زمن قليل كان البقر في جهات من آسية الصغرى يجر المقطورات في الطرق الضيقة لمناجم الفحم، ويقال في سردينية إنه يوجد من الرجال من يقدرون على امتطاء البقر، وقد قل طول البقر ومزيته نتيجة لندرة المروج وتعذر العلف. وبينا كان يوجد في ألمانية سنة 1900 عشرون مليون رأس من المواشي لم يكن في إسبانية سوى مليونين، وعلى العكس يوجد في بلاد اليونان من الضأن والمعز عشرة أمثال ما في سويسرة.
وتكاد المعز في منطقة البحر المتوسط تكون نافعة للإنسان كالزيتون، فهي تميره باللبن والجبن والكن
84
وصدرات من الجلد، وتكون المعز أو الضأن أكثر عددا على حسب البقاع ، غير أن رعاء الإغريق يخلطون اللبنين ليصنعوا منهما جبنهم، ولا يحصى مقدار ما أصابت هذه الحيوانات به الغاب من ضرر منذ وصول أعداء الأيك النورمان ثم الترك، فهم، إذا ما حل فصل الخريف، نزلوا من الجبال لدوام الرعي في الخارج وإتلاف المنظر بذلك، لا للذهاب إلى الزراب كما في سويسرة.
وبما أنه لم يمكن هنا تقوية ما بين الزراعة وتربية الحيوان من صلة وثيقة فإن الرعاة يعيشون كما يشاءون فيقضون جميع حياتهم في الخارج تقريبا كمواشيهم. وانظر إلى ألبانية وتسالية، وانظر إلى أقسام فرنسة الجنوبية وأجزاء إسبانية الكثيرة السكان والحسنة الزراعة فيما مضى، تجدها اليوم معمورة بقبائل بدوية وبمواشي هذه القبائل التي كانت منتشرة حول البحر المتوسط في القرون الوسطى.
ولم تنجل مسألة فصل البحر أكثر من وصله إلا بمخلوق طائر، ويجب أن يكون لدى الطائر المهاجر، الآتي من سيبرية وغرينلند محلقا فوق البحر الأسود متوجها نحو النيل أو مارا من وادي الرون إلى الجزائر، أحسن الخرائط ظاهرا، وذلك لانتفاعه بجميع الرءوس البرية ومجاوزته البحر في أضيق أماكنه، ومن الجنوب يصعد أبو منجل والنحام
85
والبجع، وهكذا تتكرر في ألوف السنين هجرة الطيور التي اختبرت غريزتها قبل غريزة الإنسان بزمن طويل. وكانت الطيور المهاجرة تهرع إلى الشواطئ المعروفة لدى أجدادها قبل أن تطير حمائم الزمن القديم المسافرة نحو المحال المقصودة بوقت كبير، وكان الحمام يطير إلى معاشقه الخاصة مجاوزا البحر قبل أن تدخل إلى ريشه أول بطاقة ناعمة.
ومع ذلك لم يعد إلى الشمال ما لا يحصيه عد من الطيور لوقوعها في حبائل كان ينصبها اليونان والرومان على الشواطئ والجزر. ومن ذلك أن ظهر أنبياء ومفكرون من البحر المتوسط دوما ليحملوا أفكارهم إلى البلاد البعيدة، غير أنهم اضطهدوا وقتلوا بعد أن وقعوا في أشراك الكهان أو في دبق السلطات القائمة، فرجمهم أبناء الطبقة الوسطى الدنق
صفحه نامشخص