22
في جميع خلجان العالم وبحيراته وأن سمرة الشتاء تنشر ظلها على البحر المتوسط.
ويلقي الزمن المتقلب نورا وظلا على المناظر الأرضية، وينعم عليها بذلك الانسجام العام الذي يعين اللون ويحوله في الطبيعة كما في الخلق البشري بلا انقطاع، ويؤثر الزمن أيضا في مصير البحار والجبال مغيرا لها بين يوم ويوم، ومما يكدر نور ما بعد الظهر المسحور سحابة أو هبة أو ظل، وذلك كما لو مس الموت بجناحه زوجين بشريين يطفحان بشرا مسا خفيفا.
ومع ذلك يوجد للروح لون أساسي ينير، أو يكدر، عناصر القلب الإنساني كعناصر الطبيعة، وهو ينساب في كل مكان، وهو، وإن كان يستتر تماما في بعض الأحيان، لم يعتم أن يظهر ثانية، وهذا هو اللون الأساسي الذي يرفع شأن البحر المتوسط، وهل حدث مرة أن أسفر ما لا حد له من مساوف البحر الأطلنطي أو الباسفي عن وضع قصائد أو إيحاء إلى شاعر؟ وهل وقع، بعد أن نعدو نوا نوا لغوغن،
23
أن أوحت البحار المحيطة البعيدة بصور ذات ألوان لطيفة؟ فالبحر المتوسط وحده هو الذي له موهبة الإلهام هذه، ولو حملنا على تعريف شكل روحه لقلنا إنه بحر أزرق، إنه بحر باسم، ومتى ثارت العواصف فيه، ومتى هاجت أمواجه، ومتى استدارت مهالك مضيق مسينة، ومتى عزفت رياح أقريطش حول رأس متابان، ذكرنا حدوث عاصفة تقطع سنفونية
24
بتهوفن الريفية، وعلى ما كان من غزوات حربية ومعارك بحرية، ومن تحطم سفن وغرق، لا يلبث سماء البحر المتوسط أن ينجلي كما لو كان يعود إلى طبيعته الحقيقية. والحق أن هذا بحر رعائي، ولو من أجل ما تشتمل عليه مئات المطاوي في شواطئه من المناظر والملاجئ حيث تنبسط دوما خلجان زرق جديدة محاطة بصخور وعرة وغابات صنوبر شائكة وأشجار زيتون سمر ذوات أوراق ناعمة. ومع ذلك وجد منذ القديم من جادل البحر المتوسط في أمر ذلك اللون الأزرق، ولا غرو، فهو إذا ما اضطرب أظلم كفؤاد الإنسان، وهنالك يصفه أوميرس ب «الأرجواني والخمري والذاوي والبنفسجي»، ومن الأغارقة فريق يسميه «البحر الأبيض» مقابلة ل «البحر الأسود»، ومن العلماء المعاصرين رجال يصرحون بأنه «عديم اللون» غافلين عن وجوب النظر إليه بعيدا من الشاطئ حتى يروه أزرق. وعند الملاح أن إظلام الماء علامة العاصفة، وأن الأخضر دليل الإخضال، وأن الأزرق آية العمق الكبير، ولكن الجميع، ولكن القدماء والمعاصرين والشعراء والمسافرين، تغنوا بما عليه البحر المتوسط من صفاء بلوري، حتى إن العالم الطبيعي يعزو لونه السماوي إلى روق مائه العميق ما دامت الأشعة اللامعة في مثل تلك البيئة منحرفة كثيرا، وليس غار كابري المشهور إلا من عجائب ما يتصف به البحر المتوسط من ضياء سائل.
وتنتقل العين من هذا اللون الصافي المصمت
25
صفحه نامشخص