من النادر أن يذهب الناس إلى كونهم جزريين، ويولد الناس فيما يسمونه قارات فيشغلون ربع وجه الأرض التي يستر بقيتها عنصر لا يصلح للسكن ولا يقهر على الدوام؛ ولذا يظل فتح البحر أجدر مآثر البشر بالذكر، ولا يقاس به حتى قهر الهواء، فالأمواج مرصعة بالجزر، ولا يوجد بين السحب ما يرتاد وما يفتح.
ولمن يولد قريبا من البحر هبة ذات أسرار، فهو في فتائه ينام على الرملة مساء، وهو يهدهد
8
بارتداد الأمواج إلى الوراء، وذلك ليصحو في كل صباح على صوت واحد، وتمتاز هذه الملايين القليلة من أهل الجزر بين الجميع، فيسهل عليهم أن يتعارفوا بين سيف
9
وسيف، ولو لم يغادروا اليابسة، أو لو تحولوا عن حياة الساحل، وهم يمتازون من مليارين من الآدميين الذين لا تتمثل لهم بيئة غير الأرض الصلد والخصيبة مع غابها وحقولها وجبالها وأنهارها ومدنها وبيوتها، والزلازل وحدها هي التي يشكون بها في صلابة سافاتهم
10
أحيانا.
ومن يعش على ساحل البحر وينظر دوما إلى الآفاق الواسعة البعيدة يكن لديه من البصر في دوافع الإنسان في الرب والحب والموسيقى، ما هو أعمق مما لدى غيره، وهو إذا ما تعب من طفاح الأرض الأبلق الصاخب الذي أحبه زمنا طويلا تحول عنه ذات يوم إلى الواسع الصامت منتقلا من المحسوس الخاص إلى غير الملموس العام. وهكذا كان جميع الفلاسفة من أهل الجزر، ولو عاشوا في داخل البلاد، وهكذا نشد البحر رسل جميع الأديان، وعن الإليات
11
صفحه نامشخص