سيداتي!
لما اجتمعت بباحثة البادية للمرة الأولى في 1914 بعد تصفح مجموعة «النسائيات» لم أستشعر بأنه قدر علي أن أقف لتأبينها عما قريب. يومذاك لم أشعر إلا بجاذب تخطى بي من دور الإعجاب بقلمها إلى دور الميل إلى شخصها، لأنها كانت من الذين خصتهم الطبيعة بقوة مغناطيسية تجذب الغريب فيفطن لنفسه وقد وجد فيها مكانا خاليا ينتظرهم منذ زمن طويل. وليس موجد تلك القوة ما يسميه البشر جمالا وذكاء أو لطفا وظرفا بل إن مستودعها جسم أجوف قائم في الجانب الأيسر من الصدر - ذلك الجسم الذي ما ذكره حتى أكثر الناس طيشا وزهوا - إلا وطأطأ الرأس كمن ينتبه لمعنى عميق من أقدس معاني الحياة.
إن عصرنا عصر الاختراع والآلات. فبالآلات هبط الإنسان إلى أعماق الماء وجعل له أجنحة تسابق طير السماء، وبها استعبد عناصر الأرض وكشف أسرار الكهرباء. من البواخر العظيمة التي تحذف الأبعاد وتلاشي البحار إلى الساعة الذهبية الصغيرة التي نقيس بها الزمان، في كل من أحوالنا نرى الآلات ممثلة دورا مهما. لكن هذا الجسم الأجوف القائم في صدر الإنسان، هذا القلب البشري العجيب، ما زال أتم الآلات وأقواها، بل هو أكثر اقتدارا من أعظم القواطر الحديدية على الإطلاق إذا جعلنا المقابلة على نسبة الحجم الصحيحة. آلات الفولاذ والحديد، تلك الصناديد المعدنية التي تزحزح الجبال وتدمر المدائن والحصون، تمل العمل وتطلب الراحة، وهذا الجبار الصغير المخلوق من دم ولحم لا يعتريه إعياء ولا سكون؛ لأن في وقوف حركته انتهاء الحياة الجسمية، وفي سكونه وراحته شقاء العواطف البشرية.
وما كانت قوته الوحيدة في تأدية وظيفته واستطراد النبض ليل نهار على حساب 72 مرة في الدقيقة، ومائة ألف مرة في اليوم، وأربعين مليون مرة في السنة، بل كانت قوته الكبرى في ذلك المعنى الملتبس الشامل الذي أطلقه عليه الثيوصوفيون والشعراء؛ إذ جعلوه هيكل العواطف والرغبات ومنهل الحب والإشفاق والمكارم. ليقل العلماء ما شاءوا من أن العواطف تتولد في الدماغ، أما نحن صغار الخلائق فحسبنا شعورا بأن في رياض القلب تغرد أصوات الطرب، وترفرف أجنحة الهناء ساعة نكون من السعداء. وأن القلب منا يمسي صحراء محرقة تجول فيها لواعج الأحزان ويتعالى في تيهها نحيب الوداع والحسرات عندما نكون من التعساء. حسبنا علما أن هذا القلب الصغير يسير العالم، وأن من كان كبير القلب فهو في الحقيقة قائد العالم.
لقد تصلب قلب الرجل قليلا - أو كثيرا - في حرب الاقتصاد التي ما فتئ يشهرها في ميادين الحياة، فلحق ببعض عواطفه جفاف وتوتر هما من مقتضيات المنافسة والجهاد. على أن القلب ما زال مملكة المرأة، وفي هذه المملكة الضيقة الرحبة تجتمع القوة والدقة والكآبة والصفاء، ويختلط التأمل بالأحلام والقنوط بالرجاء. عندما لا يتكلم من الرجل غير صوت الطمع والتهديد والمفاخرة تسمعن في صوت المرأة أنينا كأنما هو بقية زفرة أو تتمة بكاء. وحينما يعتز الرجل بإدراك ذروة السؤدد ونيل بعيد الغايات ترين المرأة منحنية على نفسها كمن ينحني على جرح بليغ، ترينها منحنية على قلبها لأن شيئا يظل نائحا فيه. وسواء في ذلك تلك العائشة في وسط الأبهة والتبجيل والإعظام، وتلك الحقيرة التي تتقاذفها عواصف الحاجة واليأس والهوان.
كان هذا القلب القدير يتلظى مضطرما في صدر باحثة البادية على مقربة من ذكائها الفطري، ولم تكن ألفاظها إلا شرار وميضه. به اختبرت البيئة المصرية في كثير من مظاهرها ودرست المرأة المصرية في جميع أطوارها، ولما أن هالها ما شهدت من ذل وتعاسة غمست قلمها في مداد إنما هو سيال قلبها الناري، وكتبت فصولا خالدات. إن محاسن التنميق والإنشاء تعجب وترضي إلى حين، لكن يا لسرعان ما تدرج تلك المحاسن في أكفان النسيان؛ لأن الطبيعة البشرية لا تحتمل الإعجاب المتواصل. أما الكلام المنطلق من القلب كقطع متقدة فيدخل القلوب مباشرة بلا وسيط، ويمتزج بها لأنه يعبر عنها، يمتزج بها حتى يصير جزءا منها يأبى التفرق والانفصال.
وكما أنها أصابت في لمس مواضع النقض وتشخيص العلل القومية كذلك رأت ببصيرتها النقية أكثر طرق الإصلاح اعتدالا وأقربها اتفاقا مع سير الارتقاء الطبيعي. وقارئ «النسائيات» يقف على خطتها الإصلاحية الرشيدة حيث لا يكون الرجل جائرا مستبدا ولا المرأة ساخطة متمردة، بل يتصافى الاثنان فتصير هي له أخلص الأصدقاء وأوفى المساعدين، ويصبح هو لها أخلص الأصدقاء وألين المرشدين. فيسيران في سبل الحياة وقد جعلهما التفاهم متغلبين على المصاعب، متعاونين على تبادل المنفعة والسعادة، وذلك أقصى ما ترمي إليه العائلة الاجتماعية في كل زمان ومكان.
كانت الباحثة زوجا لعبد الستار بك الباسل، وأستميحكن بالوقوف قليلا عند هذا الاسم. اذكرن أنها كانت تكتب في سنة 1907 و1908 و1909؛ تصورن حال ذلك الوسط منذ اثنتي عشرة سنة يوم كان القوم يرمون قاسم أمين بالكفر والإلحاد لأنه جنى هذا الإثم الفظيع الذي يدعى المناداة بإصلاح المرأة!
إن إعجاب الناس بامرئ لا يسلم من لازم متعد هو انتقادهم له. فإذا كان الجمهور شديدا على الرجل، يحسب نقضه بعض ما بلي من العادات عدوانا لبني الإنسان، فما قولكن في ظهور امرأة ذات رأي شخصي وذاتية حرة في ذلك الوسط الرجعي؟
يجب أن يكون الوسط راقيا جدا ليقدر الفرد الراقي وإلا أهمله وعد نبوغه جنونا، ورأى في توجعه من التقهقر والانحطاط وقاحة وشرودا.
صفحه نامشخص