على أن للنقد شرطين اثنين لا بد منهما ليكون صائبا مفيدا.
الشرط الأول: أن يكون قوة فطرية مكتملة لا جزئية، والشرط الثاني: أن يكون الاطلاع والملاحظة والاختبار قد أوسعته تهذيبا وتصفية. والشرطان لازمان متماسكان، إلا أن الملكة الفطرية أكثر ضرورة؛ لأن وجودها يقبل المزيد والاتساع. وإن لم توجد فجميع المطالعات والأسفار والاختبارات تعمل في محق القليل الذي أفلت من أصابع الطبيعة، وهي تقذف إلى الحياة بمن لم تشأ أن تجعله من أهل الذوق.
لو نفينا عن الباحثة كل صفة كتابية وجردناها من جميع نعوت الإنشاء لظلت ناقدة في كل كلمة خطها يراعها. كانت ناقدة بفطرتها التي ثقفها الدرس والألم والاطلاع على مناطق البيئة المصرية مما لم يكن ميسورا لسواها. لأنها بمركزها الاجتماعي كانت ذات صلة بجميع الطبقات. فبينا هي بوجاهة أبيها وزوجها من عشيرات الطبقة العليا إذا بها صديقة الطبقة الوسطى برفيقاتها في المدرسة وبتعاطيها التعليم قبل زواجها. ولما كانت تذهب إلى قصر الباسل في الفيوم كانت تجتمع بنسوة البادية والفلاحات، المحسوبات - بما يأتينه من الزراعة واللقاط والخدمة المنزلية - إحدى أمتعة الرجل وجزءا من ثروته. فتحادث تلك النفوس، الخشنة بجهلها وتربيتها وعاداتها، الرقيقة بأنثويتها وإحساسها وأوجاعها، وتقابل في سرها بينهن وبين الأخريات ذوات الدلال واليسار، فتجد أن المرأة إن تغيرت منها الأثواب والإشارات فإن وجوه الشقاء في حياتها متشابهة ومواضع الخلل واحدة في جميع الطبقات. فأدركت وجوب الانتقاد والمعالجة ابتداء بأكثر الأعضاء سقما ومبعث الصحة والمرض في جسم العمران. يجب أن يبتدأ بتعليم المرأة لأنها الأكثر جهلا. يجب إصلاحها السريع ليتيسر إصلاح الرجل. يجب أن يباشر بتحرير المرأة كيلا يكون المتغذون بلبنها عبيدا. يجب أن يحسر غشاء الخزعبلات والأوهام عن عينيها ليدرك الناظر فيهما، من زوج وأخ وولد، أن معنى الحياة عظيم. هي المظلومة المنحنية أمام الرجل العسوف، هي المهضومة الحقوق الساكتة على مضض الهوان، وترى أي إله أو شيطان أباح الجور عليها من بدء أيامها إلى منتهاها؟ منذ بدء أيامها؟ كلا، بل قبل ذلك! وهاك حجة الباحثة:
المرأة المصرية مسلوبة الحق ومظلومة في كل أدوار حياتها؛ نراها يتشاءم منها حتى وهي جنين، فإذا ظهرت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة، ترى القابلة تحملها وهي منكمشة لا تبدي ولا تعيد كأنما كان لها بعض الذنب في ولادتها، ترى أقارب النفساء وصديقاتها يكثرون لها الهدايا إذا كان مولودها ذكرا، ويقللون منها عددا وقيمة إذا كانت بأنثى، نرى كل من نقل الخبر يطمح اليأس من عينيه ولسان حاله يقول: ناقل الكفر ليس بكافر. فإذا انقضت ستة أيام كان سابع أيام الصبي عيدا توقد فيه الشموع نهارا وتجلب أنواع الحلوى وتعزف آلات الطرب. أما الصبية فيكتفى لها ببعض النقل ويحسب تفضيلا.
1
حق انتقاد تفضيل الصبي على الصبية ليس عندنا نحن الشرقيين فحسب، بل عند أهل المغرب كذلك، لا سيما في هذه الأيام بعد أن فقدوا في الحرب ملايين الرجال فصاروا يطلبون الأبناء ليسدوا ما ثلم من صفوفهم؛ وخوفا على البلاد من حروب مقبلات. غير أن هذا شيء موقوت، وتشاؤم الناس من الفتاة قديم، فما هي أسبابه؟ يقولون بأفضلية الصبي لأنه يحفظ اسم العائلة. لست لأناقش ما إذا كان في وسعه الاحتفاظ بذياك الاسم بدون معاونة المرأة. ولست لألفت نظر أحد إلى أن هذه مسألة اصطلاحية صرفة، وإلى أنها كانت موكولة إلى المرأة أيام كان قانون الأمة
matriarcat
نافذا عند بعض الشعوب القديمة (وما زال نافذا في بعض الجهات من أفريقيا الجنوبية)، وإلى أن صاحبات العروش ما زلن يتمشين عليه، إذ إن الأنثى التي ترث صولجان أبيها تناول أولادها اسم عائلتها دون اسم أبيهم.
اللهم إن أسباب التفضيل عند الأهل كثير. منها أن الفتاة تأخذ نصيبها من ثروة أسرتها وتعطيها لرجل غريب، بعكس الفتى الذي يزيده ثروة أبويه بزواجه وبأرباحه جميعا. أما المقامرة، والسياحات، والمضاربة وجميع أساليب التبذير التي يبتكرها الولد ليلتهم ثروة الوالد الكئيب فلا حساب لها ولا بأس بها، أليس أنه رجل ؟ لقد امتدت يد النساء الآن إلى كثير من أنواع العمل مدفوعة بالحاجة ووجوب إعالة من لا معين لهم وضرورة إشغال الأيام بفكرة جدية، ومنهن من أثرين كأعاظم الماليين وكان نجاحهن حسن العائدة على ذويهن. ولكن ما العمل؟! إنهن نساء! وربما كان سبب التفضيل الأكبر من تلك الأسباب الغامضة التي تذوب حيالها متبلورات المنطق الثابت. كل أعمال الرجل حسنات ما دام «رجلا» وكل الذنوب جائزة تغفر له «لأنه رجل»! •••
ومقابل ذلك كل شيء يحسب على المرأة. تتدرج الناقدة في سرد حياة هذه المخلوقة المسكينة فترى نصيبها من العلم قليلا، وترى الطيبات عليها حراما؛ لأنها «بنت» لا تصلح لغير أعمال المنزل. هذا في الصغر أما في الشباب «فيحجر علينا حتى في استنشاق الهواء النقي، حتى في اختيار لون الثوب الذي نلبسه.»
صفحه نامشخص