وأتى الشتاء بهدوئه في برده وزمهريره فاستراحت بديعة به من الشغل واسترجعت ورد خديها؛ لأن الشتاء يعين على الصحة.
ولشدة عجب بديعة لم يذكر لها أديب طول ذلك الشتاء باجتماعاته الطويلة كلمة عن الزواج، ولا أظهر شيئا من رغبته في الاقتران بها، إلا أنه لم يكن باردا في معاملته التي كانت حرارتها محرقة حتى في أيام البرد القارس، وكان يغار على شرفها وصحتها وسعادتها غيرة صادقة تشف عن شرف ذلك الشاب الوافر.
وأقبل الربيع بثوب من الأزهار يبهج النظر ويسر القلب، وهو مفاخر إخوته الفصول الثلاثة باعتدال طقسه واعتلال هوائه وبرودة مائه. ولما بلغ منتصفه أخذ يعتذر إلى السيدات بمنعه إياهن ثلاثة شهور عن لبس أثوابهن الشفافة الجميلة، التي هي من شباك الشرور ومجلبة أمراض الصدور، فقبلن عذره وخرجن كطوائف الغزلان يتمشين في آصال نهاراته وأوائل لياليه وهن أجمل وأنضر منظرا من أزهاره.
وكانت بديعة تخرج بصحبة جميلة كل ليلة للتمشي، وأحيانا متى كان الجمهور كبيرا يرافقهما أديب وليس في غير وقت، ولم يكن شيء يسر أديبا مثل نظره إلى بديعة وهي تتنقل بهذه الأيام الربيعية أمامه؛ لأن مشية بديعة الطبيعية كانت تسر النظر، فقد كانت تنتقل بمشيتها تنقلا طبيعيا لا تصنع ولا «غندرة» فيه، وكأنه وهي تمشي تطير على الأرض طيرانا لا تدوسها برجليها، وكانت لا تهز يديها وهي ماشية بل تحمل بيد واحدة مظلتها، وباليد الأخرى طرف ثوبها فترفعه عن الأرض إلى ما فوق الكاحل فقط، وكانت تمشي وهي هادئة رصينة لا تنظر إلا إلى أمامها، ولم تكن تجر رجليها على الأرض جرا كأنها «نعسانة أم نشوانة»، ولا تمشي ببطء حتى يظنها الناس غير قادرة على المشي، أو تركض في الشوارع ركضا. ولم تكن تقف في الشارع للتفرج على شيء - ولا شيء يوقف المرأة المتهذبة في وسط الشارع مهما يكن غريبا - ولا تدير عينيها في المارة وتحدق بهم.
وبينما كانت ماشية مع جميلة مرة قالت لها هذه: أتذكرين استياء لوسيا منك في السنة الماضية في مثل هذه الأيام، وكيف أنها تركتنا ومشت وحدها؛ لأنك نصحتها بأمر؟
قالت بديعة متنهدة: نعم إنني أذكره، وأذكر أيضا ذلك الكلام الذي اغتاظت منه، وسأعيده عليك لعل في الإعادة إفادة، وهو أنني قلت لها: يا عزيزتي لوسيا إن الرجال إجمالا وبعض النساء المتهذبات خلقوا ليلاحظوا وينتقدوا من يرونهم، ولا سيما النساء منهم؛ لأن في الرجال رغبة خاصة بملاحظة النساء وحبا شديدا للحشمة لا تعرف مقداره إلا المرأة المهذبة العاقلة، وقد يكون الحامل لهم على حب «الحشمة النسائية» إن هذه الحشمة ليست لهم بالمقدار الذي هي فيه للنساء، والإنسان خلق ليعتبر ما هو لسواه وليس له، فكما أن النساء يحببن في الرجال شجاعتهم هكذا الرجال يحبون في النساء حشمتهن. والرجل مع حبه الزائد للجمال لا يكترث له متى تجرد من الحشمة واللطف؛ لأن الجمال يجب أن يكون مصونا وسياجه الحشمة، والأمكنة التي يقصد الرجل اختبار «حشمة المرأة وأخلاقها» فيها هي الشوارع والمحال العمومية، فالويل لها إذا أتت في هذه الأمكنة ما يخالف قواعد الحشمة والآداب الحقة. قلت «الويل لها» لأنني لا أعرف ويلا في السماء أو على الأرض أشد من انتقاد الرجل لها أو ضحكه منها، واحتقار الرجل للمرأة ويل وطلب المرأة لاعتبار الرجل أمر طبيعي محلل إذا كان منه طلب اعتبار الفضيلة والأدب. فانظري إذن ما هي الشباك التي يطرحها الرجل للمرأة في الشوارع، واعتبري كم هي رغبتها بمرضاته، واحذري كل الحذر من أن يفرط منك ما تؤاخذين عليه في الأماكن العمومية. هذا ما كنت أقوله، فهل هو يغضب؟
قالت بديعة: كلا. إنه لا يغضب الفتاة العاقلة، ولكن - وا أسفاه - إنه لم يؤثر شيئا؛ لأن رأس لوسيا الجميل كان كأنه مركب فوق جسدها «برفاص» فهو أبدا يتحرك من اليمين إلى الشمال. وعيناها الناعستان فيه كأنهما ركبتا فوق زئبق، فلا يستقران على حالة، وشفتاها العنابيتان قد أقسمتا بمواصلة الافتراق بابتسامات تكشف عن أسنان منسقة كاللؤلؤ تسبح تلك اليد التي صنعتها، كما قال أحد الكتاب.
هيئة فاتنة، جمال رائع، صورة مبهجة للنواظر، ولكنها لا تكون قط معتبرة عند محبي الجمال الحقيقي من العقلاء، ما لم تكن تسدل الحشمة عليها برقعا، ولا سيما في الأماكن العمومية حيث تتكسر النظرات التي بعضها سهام.
وبعد أن مشتا قليلا قالت لبديعة: لم أنس قولك منذ هنيهة بأن كلامي لم يؤثر بلوسيا شيئا، فالحق أقول لك يا عزيزتي بأنه إذا لم يكن أثر في الماضي والحاضر فإنه سيؤثر في المستقبل؛ لأن الشعور به لم يذهب من ذهنها قط، إذ ذهب صداه. ثم قالت: والذي كان يغيظني منها أكثر من الكل هو تكلمها بصوت عال في الشوارع، وضحكها بصوت أعلى، ثم وقوفها مع من تعرفه من الناس ولا سيما الرجال في الأسواق لمحادثتهم مما يجعل للناس شكا وهو أمر تؤاخذ عليه المرأة أكثر من كل أمر سواه.
ولما كانت تصورات الشبان والشابات جميلة في أيام الربيع، فإن بديعة كانت ترى مسرورة أكثر من كل وقت؛ مما جعل أديبا وجميلة يسران أيضا. وكانت أحيانا تنسى همومها بالكلية وتضحك وتسر كثيرا، فإذا سألها أديب وجميلة عن السبب تجيب: إنني أشعر بسرور لم أشعر به من قبل وهذه مقدمة إما لحادث سار وإما للموت. فيقول لها أديب بحزن: وهل مثلك من يشتهي الموت يا بديعة؟ فتجيبه: نعم، متى كان بإرادة الله فهو خاتمة العذابات الأرضية، ويدني النفس من السعادة الأبدية فهو سار.
صفحه نامشخص