مرض قلب بديعة فمرض لمرضه جسدها؛ لأنهما تآخيا بالنقاوة والطهر، وكان ما يشعر به الأول يشعر به الثاني، ولم تحرم بديعة إبان مرضها تعزية وتسلية أصدقاء كثيرين كانوا يوفونها دينها؛ لأنه «بالكيل الذي تكيلون يكال لكم وأزيد.»
وكان العقلاء من نساء ورجال السوريين يعزونها؛ لأنها كانت مثال اللطف والوداعة مع الفقراء والفضلاء، كما كانت صورة الترفع والأنفة على الجهلاء وذوي اللؤم، فنالت من كل منهم مكافأتها ...
والذي كان يخفف عنها بعض الألم هو وجود أديب وجميلة بجانب سريرها، فكانت تقول: إن المصائب لا بد منها بحياة الإنسان ولكن كم يكون الإنسان سعيدا وكم يكون الله يحبه متى كان له بمصائبه صديقان مخلصان وأخوان عزيزان كأديب وجميلة.
وكان أديب يحافظ على صحتها محافظة على أنفس شيء في الحياة، فأهمل في اشتداد مرضها شغله، وكان يتبادل مع جميلة قراءة الكتب لها والاعتناء بتمريضها ليلا ونهارا.
وكان أديب يكاد ينفطر القلب كلما رأى بديعة بهذه الحالة؛ لأنها كانت تذبل ذبول الزهرة كل يوم عن يوم، وهي باسمة صابرة، وكان أديب - وهو يعرف السبب - يتمنى لو قدر على لم شملها مع فؤاد، ويكون أول الفارحين مع حبه العظيم لها الذي لم تتغلب عليه الأنانية. ولكثرة ملازمة أديب لجميلة في مرض بديعة قدر على معرفتها أكثر من الأول، فإنه رأى بها صورة نفس بديعة وأخلاقها وأطباعها تماما وإن يكن بعضها أنقص مما هو في بديعة، فقد كان قريبا من المماثلة، ولو كان لجميلة وجه بديعة لكانت مثلها تماما ولكن ... قال أديب إن جمال النفس ثلثا المرأة وجمال الجسد الثلث الباقي، فإذا خير الرجل بينهما فإنه يطلب الأكثر لا محالة، ولكن إذا جمع الثلاثة في امرأة كما هي الحالة مع بديعة فتكون المرأة بالغة حد الكمال الممكن، وهذه نعمة ولكنها نادرة، فإذن يجب على المرأة أن تطلب أولا «الكمال» فإن عجزت عنه فلترض «بثلثيه» اللذين هما أفضل من الثلث، وهذا لا يهم وحده سوى الجاهلات.
ولكن جميلة لم تكن «قبيحة» ولم تكن «جميلة»، بل كانت «بين بين»، وكانت ذات عينين فتانتين تنبعث منهما أشعة الذكاء والفضيلة من فوق ذلك الوجه البسيط، الذي ارتاح إليه أديب أكثر من ذي قبل إذ رأى اعتناء صاحبته الزائد ببديعة، ولربما كان هذا ما دعاه إلى محبة جميلة على حد ما قيل: «حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي.»
وكان من الناس الموجود منهم في كل مكان من يحسبون بأن ذكر لوسيا ونسيب «ضمة زهور» يهدونها إلى بديعة في مرضها. فيأتونها قائلين: قال نسيب كذا وقالت لوسيا كذا «ليربحوها جميلة» فكان جوابها: إنني لا آسف على اغتيابهما إياي بل أسفي هو على خسارة صداقتهما.
الفصل العشرون
السفر
في أحد الأيام أتى أديب إلى غرفة بديعة وأدلة السرور بادية على وجهه، ولما اقترب من سريرها وجدها مبرقعة بهيئة محزنة ومفرحة معا.
صفحه نامشخص