أنت تطلب مني أمرا هو أصعب من الأمر الذي نحن بصدده الآن، نعم مائة مرة أصعب لأنني إن فعلته أكون قاتلة وخائنة وكاذبة بوقت واحد.
إذ ذاك عزم نسيب على أن يمثل دور غاياته الشريرة على مسرح الخديعة، ورام أن يجرب مكره ليرى مقدارها، فقال ببرود: إنني لم أفهم كلامك يا خالتي، فأنت قد طلبتي مشورتي وأنا قد أشرت عليك بما أعرف أنه يعود عليك وعلى ولدك بالسعادة، ولا أدري كيف تصيرين قاتلة وخائنة وكاذبة من إتيانك أمرا مفيدا لك ولسواك.
فقالت تلك السيدة وهي تبكي لأول مرة من حين دخولها غرفته: نعم، نعم، إنني آتي الثلاثة أمور متى أطلعتك؛ لأنني متى وعدت فؤادا بالرضى وأخلفت أكون خائنة، ومتى تظاهرت برضاي عن طلبه وأنا لم أكن - ولن أكون - راضية؛ أكن كاذبة، ومتى تساهلت معه ومع تلك الفتاة المسكينة حتى إذا امتدت جذور الحب في قلبيهما وصار استئصالها منها يعني الهلاك وحاولت اقتلاعها؛ أكن قاتلة. وأنا لا أقدر على هذا العمل؛ لأن لي ضميرا يوبخني ولأنني امرأة مسيحية أخاف الله. - هذا كله وهم باطل؛ لأن حب ابنك للفتاة ليس ذلك الحب الذي «يميت القلب»؛ لأن فؤادا لم يصل بعد إلى عمر الرجال ليقدره قدره، بل هو حب يشعر به كل شاب أي وقت رأى وجها جميلا، وهو يبتدئ كبيرا جدا ثم لا يلبث أن يتضاءل إلى أن يزول أثره، ولعمري إنه خير لك ولابنك وللفتاة أن يمر عليكم طارئ هذا الحب وابنك غير مقيد من أن يكون مقيدا، فأنا أؤكد لك بأن حب فؤاد لبديعة لا يدوم أكثر من شهر، وهو وقت ذهابه إلى المدرسة. وأما بديعة فلا يجب أن تهتمي لأجلها؛ لأنها فتاة لا تحب شخص ابنك بل ماله، وأي قدر من المال يغنيها عن الخدمة يسليها عن حب ولدك ... فأنت لا تكونين كاذبة إذن لأن «الغاية تبرر الواسطة»، ولا تكونين خائنة؛ لأن بذلك الوقت الذي تخلفين فيه وعدك تكونين ترحمين الشاب والفتاة معا، لا قاتلة؛ لأن الحب الذي تظنينه عظيما ليس كذلك، ولا هو حب ابنك لبديعة ولا حب بديعة لابنك.
فمسحت السيدة مريم دموعها وقالت لابن أختها: إن هذا أمر لا أفعله ولو مت.
فقال الشاب بهدوء: إذن إنني أتأسف لعدم تمكني من مساعدتك. - ولكن أليس من أمر آخر أقدر فيه على حفظ شرف نفسي ومبدئي؟ - كلا، إلا إذا سمحت لابنك بالاقتران أو طردت الفتاة من بيتك ، ولكنك ستندمين على فعل الأمرين؛ إذ إنك بالأول تشترين التعاسة والمذلة مختارة، وبالثاني تجلبينها عليك بالرغم عنك؛ لأن الغضب يحمل فؤادا على اللحاق بالفتاة والاقتران بها، فيجب أن تكوني شجاعة وتصرفي المسألة بالتي هي أحسن. - ولكن يا نسيب إنني لا أرى من نفسي قوة على الشر! - قوة على الشر! إنك مخطئة يا خالة؛ لأن ما ستفعلينه هو عين الخير نحو الفتاة ونحو ولدك ونحو نفسك أيضا؛ لأن عدم المساواة تقضي بمنع هذا الاقتران كيف كان الحال. - دع هذه الكلمة «عدم المساواة»؛ فإنها تؤلمني، ولولا ذلك لكنت سعيدة باقتران فؤاد ببديعة؛ إذ إنني اختبرت الفتاة وعرفت بأنها عزيزة جدا بآدابها وفضائلها بين النساء، ولكنها خادمة واقترانها بولدي يجلب علي عارا لا يمحى ... فأنا أذعن لنصائحك مرغمة لأنها أحسن واسطة، وإنني أضحي بكل شيء لأجل سعادة ولدي، فلتكن مشيئتك يا رب، وساعدني إذا كان الأمر لأجل مساعدة فؤاد وسعادته.
ولم يدر غير الله بما خامر قلب ذلك الشاب الذي كان غيورا جدا، ولطالما دفعته غيرته على أتفه الأمور إلى ارتكاب أعظم الجرائم، فكيف وهو يغار الآن على أعظمها؟ ولما قالت خالته الكلام الأخير تحركت في قلبه نيران تلك الغيرة الفاسدة، فنظر إليها مبتسما ابتسامة الظفر، وقال بسرور وراءه غاية لم تدرك كنهها خالته: لم تسلكي غير أقرب الطرق الموصلة إلى السعادة؛ لأن هذا النوع من الحب لا يلبث أن يتحول إلى بغض، وهناك البكاء وصريف الأسنان، فعملك هذا عن حكمة، وهو ليس لسعادة فؤاد وحده بل لسعادة الفتاة أيضا، التي هي لا تعرف ماذا تعمل الآن، ومتى تحققت التفاوت العظيم الذي هو مجلبة التعاسة بينها وبين فؤاد بعد الزواج تجد تعاستها ولا تعود ترى منفذا للخلاص منها، ولكن الشيء يطلب تمامه يا سيدتي، فيجب عليك أن لا تنسي الفتاة من مكافأتك المادية؛ لأنها قد تعودت الراحة ويجب أن يدفع ثمن ضحيتها حسنا.
هذا ما لا أنساه؛ لأنني مديونة لبديعة بغير هذا الدين أيضا.
قالت هذا وهي خارجة من الباب وهي تشعر براحة من هذا القبيل، وبتعب كثير من جهة أخرى لم تفهم له معنى.
الفصل السابع
السعادة الوهمية أو معيشة الأحلام
صفحه نامشخص